زازا الشاب اليافع في أواخر الستينات هرب من وطن كبّله بالحديد والنار، حيث حرّمه من أبسط حقوقه.. من هوية يتنقل بها ويدرس بها. ساعدته ظروف معينة على الانتقال إلى الغرب ثم أصبح بروفسوراً في الموسيقى بعد جهود شاقة.

تجربة البروفسور والموسيقار محمد عزيز زازا أكبر من أن نختصرها في بضعة أسطر في هذه المقدمة، فهي ثرية بالقيم والمعاني والتجارب الإنسانية، وقد تعرّفنا عليه من خلال الحوار الذي أجراه الصحفي عبدالله ميزر لصالح موقع "رامينا" ضمن سلسلة من الحوارات مع المبدعين والمؤثرين.

(تعليق الصورة: محمد عزيز زازا (يسار) يقود بالكمان فرقة موسيقية في القامشلي، 1964.)

هذا الحوار الطويل يأخذ القارئ، من دون شك، إلى عالم قامة موسيقية كبيرة صنعت الكثير من الإنجازات ولا تزال.. الحوار مليء بالاكتشافات والدهشة والمتعة والجمال الإنساني والمعرفة الموسيقية، لذلك وجدنا أنه من الأفضل تقسيمه إلى أربعة أجزاء.

في التالي الجزء الأول من الحوار نتوقف فيه عند مرحلة البدايات للدكتور محمد عزيز زازا، ونتعرّف فيه على كيفية اكتشافه الموهبة الموسيقية في داخله، وكيفية تنميتها، وأبرز من أثر عليه ومراحل دراسته الجامعية.. هيا بنا إلى التفاصيل:

البدايات

من أين بدأت الموسيقى؟ كيف وجدت نفسك فناناً أو شخصاً يعشق الموسيقى؟

البداية كانت كأي طفل اكتشف في نفسه حب الموسيقى. عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي تقريباً في بداية خمسينات القرن الماضي، ابتدأت أصنع بنفسي آلات موسيقية بدائية جداً، كأن أربط أسلاكاً معدنية على علب خشبية ما، أو صفائح توتياء، وأنقر عليها. اكتشفت الموسيقى عن طريق زيادة شد هذه الأسلاك أو إرخاءها، أو فلنسميها مجازاً بالأوتار، وكذلك بالتحكم في العفق عليها باليد اليسرى على زند خشبي بدائي الصنع كما يفعل عازفو الطنبور الشعبيون. في إحدى المرات خلال يومٍ صيفي، كنت في بستان ("كريفنا" محمد ظاظا) شاهدت عازف طنبور شعبي يستريح في ظل الحاكورة عند "الكريف" محمد، ثم بدأ يعزف على الطنبور ويُغني. كانت مرحلة فاصلة بالنسبة لي عندما طلبت منه أن أجرب العزف، فقد حاولت تقليده. كادت الدموع تطفر من عيني لسماعي ما أعزف. لم يكن ما عزفته يُسمى عزفاً بقدر ما كان استخراجاً لأصوات موسيقية محددة.(تعليق الصورة: محمد عزيز زازا يعزف على الكمان، 1968.)

لا بدَّ أن أشير إلى أنني كنت أطرب جداً لسماع الأغاني والموسيقى الصادرة من الراديوهات. كانت تلك فترة بداية انتشار الراديوهات في القامشلي.

كيف طورت ملكاتك الموسيقية في البداية؟ ما الآلات الموسيقية التي كنت تستخدمها؟

عندما نلت الشهادة الابتدائية (السرتفيكا)، ودخلت أول متوسطة تمّ إنشاؤها في القامشلي، كان يوجد في المدرسة آلة (أوكورديون) تستخدم لتدريس مادة (النشيد والموسيقى). سمح لي مدرس المادة بأن أستعير الأوكورديون خلال استراحات ما بين الدروس، وسريعاً ما بدأت بعزف الموسيقى الدارجة آنذاك، كان عزفاً سماعياً بدون إرشاد، وحازَ عزفي على إعجاب الأصدقاء وأساتذة المدرسة.

ما هي أول الأغاني التي لا تزال تحتفظ بها في ذاكرتك منذ البدايات؟

موسيقى شيش كباب، وموسيقى أغنية تركية هي (أسكيدارم) وبعض الأغاني لفريد الأطرش آنذاك.

كانت علاقتك عميقة مع الفنانين السريان في محيطك الاجتماعي بالقامشلي.. ما الذي استفدته من الموسيقى السريانية؟ هل وجدتها مختلفة عن الموسيقى الكردية؟

كان في محيطنا الاجتماعي في بداية الخمسينات فنانون سريان وأرمن ويهود يعزفون على الأغلب في الأعراس، أو في احتفالات رأس السنة في النوادي الخاصة بالسريان والأرمن. والفنانان الحقيقيان كانا: الاستاذ (حسن الترك)، وهو مسلم هاجر من تركيا إلى القامشلي، درس الموسيقى بشكل أكاديمي في تركيا، ثم أسس وقاد الفرقة النحاسية الكشفية التي عُرٍفَتْ باسم (الفوج الكشفي الرابع) للطائفة السريانية، والآخر كان الاستاذ السرياني (كبرئيل أسعد) وعمل في المركز الثقافي بالقامشلي عند تأسيسه في عام 1958. كان المركز يقع في شقة من أربع غرف في بناية عارف عباس. عندما أسستُ فرقة "أصدقاء المركز" في بداية الستينات كنا ستة أفراد، خمسة منهم سريان وأنا. كانوا من خيرة العازفين في فرقة الفوج الكشفي الرابع. الموسيقى السريانية عموماً تشبه الموسيقى الكردية، فسريان القامشلي هم من الذين هاجروا من تركيا إلى القامشلي، والكثير من كبار السن السريان آنذاك كانوا يتكلمون الكردية بحكم التجاور والاختلاط الناتج أصلاً من تعايش السريان والأكراد في مدن وقرى مشتركة مع بعض في (كردستان تركيا) ولم يكن هناك أي فارق ما بين الموسيقى والأغاني السريانية والكردية وإيقاعاتها ورقصاتها سوى في اللغة فقط. هم يغنون بالسريانية ونحن بالكردية، وهكذا يمكنني القول بأنه لم أحصل على "استفادة" جديدة أو التَعرّف على جديد ما من الموسيقى السريانية، وهذا بعكس الموسيقى والأغاني الأرمنية، "الفنيّة وليس الشعبية"، بكورالاتها الرائعة كألحان (كوميداس) و(سايات نوفا) وآخرون. استفدتُ كثيراً من صديقين أرمنيين لي في القامشلي هما (الأستاذ مراد) و(جيراير)، إذ تعرفتُ منهما على التراث الفني الكبير للموسيقى الأرمنية. وهذا التراث "الفني" يختلف تماماً عن موسيقانا الكردية، أما الموسيقى والأغاني الشعبية الأرمنية فهي تشبه في نواحي كثيرة موسيقانا الشعبية الكردية.

كان الموسيقار الراحل كبرئيل أسعد أستاذك.. ماذا تعلمت منه؟ وكيف تنظر إلى تجربته الموسيقية الآن، خاصة أن الكثيرين يصنفونه كأسطورة في الموسيقى السريانية؟

تعلمتُ من الراحل كبرئيل أسعد الكثير، كالعزف على الكمان، والمقامات، والتدوين الموسيقي والصولفيج،

  • (تعليق الصورة: محمد عزيز زازا كعازف كمان في فرقة موسيقية يقودها الراحل كبرئيل أسعد في القامشلي، 1964.)

وكذلك تعرفتُ بفضله على التراث الكبير، الذي كان يجيده، من الموسيقى التركية– العثمانية كالسماعيات والبشارف والدواليب..الخ. وأعتبره معلمي الأول، وهذه هي الحقيقة، وقد أهديته كتابي الثاني (علم الكونترابوينت) كتقدير مني له. وهو يعتبر رائد الموسيقى السريانية الحديثة، وكنت، أول من دعاه بالرائد، وإلى اليوم لم يستطع أي موسيقي سرياني آخر أن يقدم ألحاناً أفضل أو أكثر أصالة منه.

فقدتَ صديقاً مقرباً لك مؤخراً هو الأب جورج اان، الذي وصفه الفنان سردَناﭘال أسعد بأنه رائد الأغنية السريانية الحديثة، كيف كانت علاقتك بالراحل؟ 

المرحوم الصديق جورج ﭽاﭽان كان صديقاً حميماً لي قبل أن يكون عازف كمان معي في فرقتي الموسيقية التي أسَّستٌها باسم "أصدقاء المركز"، وله ألحان جميلة فعلاً، أصبحت معروفة لدى السريان في كل مكان، أما رائد الأغنية والموسيقى السريانية فهو فقط ملفونو كبرئيل أسعد بلا جدال.

 مرحلة الدراسة الجامعية

بدأت مشروعكَ الموسيقي بتعليم الطلبة قبل دراستك الجامعية؟ ما الذي دفعكَ لهذا الأمر؟ هل شعرت بحاجة مادية حينها أم هو الشغف إلى القضاء على الجهل الموسيقي من حولك؟

افتتحتُ مركزاً لتعليم الموسيقى عام 1967، وقدَّم لي المرحوم مجيد حاجو مجاناً القبو الذي يملكه في بنايته. كان القبو يقع أسفل مقهى عبدي عَزَم. ويمكن أن أقول بأن الشغف كان دافعي لذلك أولاً، بالإضافة إلى الحاجة المادية، فقد كنتُ وعائلتي من الذين شملهم الإحصاء المشؤوم وسُحبت منا الجنسية السورية. لم يكن بالإمكان نتيجة لذلك الحصول على أية وظيفة حكومية (كمعلم وكيل على سبيل المثال). بعد ذلك بعام واحد، ولأن حسين ديرسمي (وهو ابن أخ لـ "د. نوري ديرسمي" صديق والدي) كان يعمل في الأحوال المدنية بالقامشلي، فقد أعطاني على مسؤوليته الشخصية إخراج قيد "رسمي" استخدمته للعمل كمعلم وكيل. الخلاصة، استمر مركزي لتعليم الموسيقى شهرين فقط، فمن انتَسَبَ إليه آنذاك لم يكن باستطاعته دفع الليرات المعدودة لمتابعة الدورة الموسيقية، كانوا كباراً في السن، ويعملون، ولم يكن لديهم وقت للتدريب أو الالتزام بمواعيد الدورة، وهكذا انتقلتُ، كما أسلفتُ، للعمل كمعلم وكيل.

كيف قرَّرتَ دراسة الموسيقى في تشيكوسلوفاكيا (تشيكيا الآن)؟ وكيف كانت بداياتك في تعلم اللغة التشيكية؟ هل واجهتك تحديات في البلد الجديد؟

دراستي في تشيكوسلوفاكيا كانت صدفة! أساساً كنت قد حصلتُ على زمالة دراسية في كونسرفاتوار موسكو، ولم يكن بإمكاني الحصول على فيزا، أو السفر بالطائرة من دمشق إلى موسكو لأنني من دون جنسية سورية، ولا يمكنني بالنتيجة الحصول على جواز سفر، وهكذا ذهبت بجواز سفرٍ مزوّر من لبنان إلى موسكو عن طريق إحدى الدول الأوروبية. لبنان لم يكن يدقق كثيراً في جوازات السفر. وصلتُ الى براغ بعد مصاعب جمّة منها اعتقالي على الحدود السوفييتية-السلوفاكية عندما اكتشف رجال الأمن السوفيات بأن جواز سفري مزوَّر، وبعد أسبوع من الاعتقال، وسؤالهم من موسكو عما إذا كنتُ مقبولاً فعلاً في كونسرفاتوار موسكو.. أعادوني إلى الحدود التشيكوسلوفاكية وأوصوني بأن أراجع السفارة السوفياتية في براغ للحصول على (وثيقة سفرمؤقتة: Laisser passer) من السفارة كي أدخل إلى الاتحاد السوفياتي بشكل رسمي، وهكذا لم أتمكن من الوصول إلى موسكو، ثم بتشجيع من الرفاق والأصدقاء في براغ، انتظرت عاماً كاملاً للحصول على زمالة دراسية في كونسرفاتوار براغ.

أما بالنسبة لتعلم اللغة التشيكية فقد درسناها لمدة عام كامل كبقية الأجانب المقبولين للدراسة، والصعوبات والتحديات كانت كثيرة جداً. صحيح أنني كنتُ أعزفُ على عدة آلات، وأجيد النوتة والصولفيج، إلا أن ثقافتي الموسيقية كانت بمجملها شرقية، بينما في كونسرفاتوار براغ، وجميع كونسرفاتورات أوروبا، فإن الموسيقى التي تُدرَّس مناهجها وآلاتها هي أوربية محض. والفارق كبير جداً بين الثقافة الموسيقية الشرقية والأوروبية: فالآلة يجب أن تكون غربية، والمواد المطلوبة هي الهارموني الكونتربوينت والصولفيج الغربي وتاريخ الموسيقى الأوروبية والفورم والتحليل الموسيقي.....الخ. فالطلبة التشيك الذين سيدرسون معي يعزفون منذ الطفولة على آلة أوروبية واحدة (بيانو أو كمان غربي أو غيتار كلاسيك. الخ) وثقافتهم الموسيقية، وما يسمعونه منذ الطفولة، هي ثقافة موسيقية أوروبية المبنى والمعنى، ولك أن تتخيل الصعوبات التي جابهتني.

كثيرون لا يفهمون معنى "كونسرفاتوار".. هل هو اختصاص أم مؤسسة؟ كيف اخترت تخصص دراستك في براغ؟ 

الكونسرفاتوار ليس اسم اختصاص، بل هو اسم المؤسسة، ومعناها المعهد العالي للموسيقى، والكلمة مشتقة من الكونشرتو. لم يكن عزفي على الكمان الشرقي معترفاً به في براغ، لكن لأنني كنت أعزف على الجمبش والأوكورديون والغيتار الكهربائي في القامشلي، وبعد أن سمعوا عزفي، واطلعوا على نوتات بعض الأناشيد والمقطوعات التي كنت قد ألفتها خلال الستينيات، فقد أثار ذلك حماس أساتذة الأوكورديون والغيتار الكلاسيك، ونصحني الموسيقار الكردي المعروف المرحوم (قادر ديلان)[1]

(تعليق الصورة: محمد عزيز زازا (يسار) يعزف على الجمبش مع الفنان الكردي الراحل قادر ديلان في براغ، 1971.)


بأن أختار آلة الغيتار الكلاسيكية، وهكذا كان، وتمّ قبولي في الكونسرفاتوار بقسم التأليف الموسيقي وباختصاص آلة الغيتار الكلاسيك. وفي الوقت الذي كان زملائي التشيك يتدربون يومياً بمعدل أربعة ساعات كنت مضطراً للتدرب أكثر من خمس ساعات، وقبل الامتحانات كنت أتدرب أكثر من اثني عشر ساعة يومياً.


لماذا قررت المضي في الماجستير والدكتوراه؟ على ماذا اعتمدت أثناء اختيار الماجستير والدكتوراه في العلوم الموسيقية؟ وماذا كانت أطروحاتك؟

كان قراراً نابعاً بالدرجة الأولى من حرصي الاستفادة من الفرصة المتوفرة لي لإكمال تعليمي الموسيقي كي يصل إلى مستوى لائق، إذ شعرت بأن الدبلوم لوحده غير كاف، وهذا ما أثبتته حياتي العملية والعلمية اللاحقة، واعتمادي أثناء اختياري للماجستير والدكتوراه كان نابعاً من إحساسي بتمكني من الإتمام. وأذكر هنا حادثة طريفة قد تكون جواباً على ما سألتَ: كنت واقفاً أمام باب لجنة الامتحانات في قسم العلوم الموسيقية بكلية الفلسفة في جامعة كارلوفا (كارل الرابع) لتأدية الامتحان النهائي الذي يسبق الحصول على الدكتوراه في العلوم الموسيقية Ph.Dr.In Musicology) واختصارها PHD) عندما اقترب مني شخص عرفته فوراً، إذ كان مدرساً لنا في الكونسرفاتوار، وبعد التحيات المتبادلة سألني: ماذا تفعل هنا؟ فأخبرته بالأمر. نظر إلي بشبه اندهاش! وسألته أنا: وماذا تفعل هنا أستاذي؟ أجابني: أنتظر دوري لدخول مسابقة القبول في امتحان الماجستير!!

أما أُطروحاتي فقد كانت في الكونسرفاتوار: القسم العملي: رسالة وعزف برنامج متكامل توضحه الصورة التالية مع الدرجة أو المستوى لكل فقرة مطلوبة

تفصيل الدرجات والتقييم مأخوذة من الشهادة العلوية:

في الماجستير كان موضوع رسالتي: "الفولكلورية الجديدة في الأعمال التشيكية المعاصرة"، وفي الدكتوراه كان موضوعي أطروحتي: "الكلاسيكية الجديدة.. القرن العشرين من خلال أعمال الموسيقار الروسي إيغور سترافينسكي".

عشت فترة طويلة في التشيك بعد ربيع براغ (1969).. هذا البلد الغني بالتاريخ والموسيقى والثقافة.. ما الذي تركه في داخلك؟ وما هو أجمل ما حدث لك هناك؟

تركت تشكوسلوفاكيا أثراً كبيراً في حياتي بدون شك، فأربعة عشر عاماً قضيتها في براغ "الذهبية" ذات المائة برج أسطوري، والمبنية على سبعة تلال، يخترقها نهر(الفلتافا-(Vltava، ناهيك عن دراستي في الكونسرفاتوار وجامعة كارل الرابع التي تأسست قبل 750 عاماً. كل هذا ليس بالقليل على الإطلاق! بالإضافة إلى شعبها الطيب جداً والجميل جداً! تعرفت على عالم جديد بكل المقاييس، ويكفي أن نعلم بأن الموسيقيين الكبار أمثال بيتهوفن وموزارت كانوا يقدمون أعمالهم أولاً في براغ، فإن نجحت فيها، فستنجح في بقية العواصم الأوروبية، وليس صدفة بأن براغ كانت توصف بأنها "كونسرفاتوار أوروبا".

(تعليق الصورة: د. محمد عزيز زازا يعزف على الجمبش مع فرقة جمعية الطلبة الأكراد في أوروبا-فرع تشيكوسوفاكيا خلال مهرجان الموسيقى الشعبية -نيترا- بتشيكوسلوفاكيا، 1972.)


أجمل وأطرف ما حدث لي هناك أن إدارة الكونسرفاتوار أعارتني غيتاراً ممتازاً كي أتدرب عليه لغاية شرائي لغيتار خاص بي، وحصل هذا عندما أتيتُ إلى درس الغيتار بدون آلة، وقال لي المدرس: مجيئك بدون آلة مشابه لمجيئك حافي القدمين! فأجبته: (كثيراً ما سرت في مدينتي حافي القدمين!) فتعجب، وشرحتُ له، فضحك، وأعاروني الآلة، وبعد أشهر تمكنتُ من شراء غيتار ممتاز، وأعدتُ الآلة شاكراً.

كيف كانت علاقتك مع المجتمع التشيكي؟ وما أكثر شيء تشتاق له في التشيك؟

كانت علاقة ممتازة باختصار شديد. خاصة مع الأساتذة والموظفين المسؤولين عنا، وأكثر ما أشتاق إليه هو الحياة الثقافية الثرية والغنية في تشيكيا عموماً، وبراغ خصوصاً. فعدد سكان براغ الذي كان، ومازال يقارب مليون مائتي ألف نسمة فقط كان بها 84 دار سينما، وعشرات المسارح، ودار أوبرا براغ المشهورة عالمياً ببنائها وببرامجها الثرية، وعشرات دور الثقافة المجهزة لاستقبال عروض مسرحية موسيقية، والمهرجانات الموسيقية،

(تعليق الصورة: زازا خلال دراسته بالحي الجامعي2، براغ، تشيكوسلوفاكيا، 1977.)

وأشهرها مهرجان ربيع براغ الموسيقي السنوي الذي يستضيف فرقاً أوركسترالية (سيمفونية)، وموسيقيين وعازفين مشهورين جداً من شتى أنحاء العالم، والذي يبدأ بعزف متتالية (وطني: (Ma vlast للتشيكي فريدريك سميتانا بقيادة فاتسلاف نيومان، وينتهي بعزف السيمفونية التاسعة لبيتهوفن لنفس القائد أو من قِبل أحد القادة الأجانب، وفي مهرجان ربيع براغ رأيتُ عازف الكمان العالمي دافيد أويستراخ، وقائد الأوركسترا الألماني (هيربرت فون كارايان: Herbert Von Karajan) والعشرات من الكبار الآخرين.


خلال الدراسة في الكونسرفاتوار كانوا يقدمون لنا بطاقة هوية خاصة لحضور الحفلات الموسيقية مجاناً، ومع البطاقة دفتراً مطبوعاً كسجل يوقّعه أحد الموظفين على باب قاعة الحفلات يُشير إلى أن حامل البطاقة قد حضر الكونسرت، وكان يتوجب علينا حضور حفلة واحدة على الأقل كحد أدنى شهرياً. بالطبع كان مسموحاً لنا أن نحضر أكثر، كل أسبوع مرة مثلاً أو أكثر، وكنا نشاهد الحفل وقوفاً فقط، أما الجالسين فكانوا يحضرون لقاء مبالغ يختلف مقدارها بحسب موقع الكرسي في القاعة، وبحسب الكونسرت نفسه: هل هو لعازف إفرادي أم لمجموعة صغيرة أم لأوركسترا سيمفونية، وهل المؤدون هم تشيك أم أجانب ... وهكذا.

وكل ما ذكرته أعلاه هو أكثر ما أشتاق إليه، بالإضافة طبعاً إلى البيرة التشيكية الممتازة التي كانت تُقدم في قاعات تُعزف فيها الموسيقى الشعبية التشيكية، وأشهر المحلات كان (أوفليكوU Fleků :) الشهير بتقديمه للبيرة السوداء التي لم أرَ ما يماثلها في الدول الأوروبية التي زرتها.


[1] قادر ديلان: مؤلف موسيقي معروف من السليمانية، وله ألحان معروفة جداً، وكان المرحوم عازفاً قديراً على آلة الكلارينيت والكمان الشرقي والعود، سافر إلى براغ في بداية ستينات القرن الماضي للدراسة وتخصص في آلة الفلوت، وعندما وصلت لبراغ كان قد تخرج من الكونسرفاتوار منذ سنوات ويعمل في القسم العربي من الإذاعة التشيكية، لحن لصالح الإذاعة التشيكية العامّة موسيقى لأساطير تشيكية إضافة لأغان كردية بتوزيع جديد نجدها على الرابط التالي: 


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).