زازا الشاب اليافع في أواخر الستينات هرب من وطن كبّله بالحديد والنار، حيث حرّمه من أبسط حقوقه.. من هوية يتنقل بها ويدرس بها. ساعدته ظروف معينة على الانتقال إلى الغرب ثم أصبح بروفسوراً في الموسيقى بعد جهود شاقة.

تجربة البروفسور والموسيقار محمد عزيز زازا أكبر من أن نختصرها في بضعة أسطر في هذه المقدمة، فهي ثرية بالقيم والمعاني والتجارب الإنسانية، وقد تعرّفنا عليه من خلال الحوار الذي أجراه الصحفي عبدالله ميزر لصالح موقع "رامينا" ضمن سلسلة من الحوارات مع المبدعين والمؤثرين.

هذا الحوار الطويل يأخذ القارئ، من دون شك، إلى عالم قامة موسيقية كبيرة صنعت الكثير من الإنجازات ولا تزال.. الحوار مليء بالاكتشافات والدهشة والمتعة والجمال الإنساني والمعرفة الموسيقية، لذلك وجدنا أنه من الأفضل تقسيمه إلى أربعة أجزاء. 

في التالي نقرأ الجزء الثاني من الحوار، ونتطرق فيه مع الدكتور زازا إلى تجربته التدريسية المهمة في الجزائر وكيفية تعرضه للضغط من الجماعات الإسلامية التكفيرية، ثم ومضات من حياته وتجربته في ليبيا خلال عهد القذافي، إلى جانب جهوده الكبيرة في تأسيس معهد فني رائد في القامشلي، والتحديات التي عاشها في هذه الدول، كما يتحدث عن اختلاف الموسيقى الكردية عن غيرها من الموسيقات.. والمزيد.. هيا بنا إلى التفاصيل:


انتقلت في 1984 بعد التخرج من الدكتوراه للتدريس في الجزائر؟ كيف توجهت إلى هناك؟ هل جرت أمور مهمة لك على صعيدك الشخصي والفكري في الجزائر؟

عندما رجعت إلى القامشلي بعد انتهاء الدراسة لم أستطع الحصول على أي عمل، فالمعهد العالي للموسيقى بدمشق تأسس عام 1990، كما أن التعليم الجامعي كان حكراً على البعثيين فقط كما هو معلوم. بعد ستة أشهر من البطالة تمكنت بواسطة أصدقاء من الحصول على عمل في الجزائر العاصمة في المدرسة العليا للأساتذة، وكان قد تمّ افتتاح قسم للموسيقى فيه ولا يزال قيد التأسيس. فور وصولي لهناك كلّفوني برئاسة القسم، فاستكملت تأسيسه، وكان به فقط مدرّسان جزائريان من حملة البكالوريوس في الموسيقى، تخرجا من القاهرة، وكانا يدرّسان بنظام الساعات الإضافية. سرعان ما وضعت المنهاج التدريسي بكافة مواده، وتمّ إقرارها، وجلبتُ أساتذة من جنسيات مختلفة من أوروبا، ولم نكد نصل لنهاية العام الدراسي حتى كان لدينا 17 أستاذ وأستاذة. خلال سبعة أعوام تخرجت أعداد كثيرة من حملة البكالوريوس، بالإضافة إلى تقديمي لمشروع فتح قسم للماجستير، وتمّت الموافقة عليه. كان المشرفون على إدارة المدرسة العليا، والمسؤولون في وزارة التعليم العالي مرتاحين للغاية ومتعاونين معي جداً.

كانت السنوات السبع التي قضيتها هناك ثرية جداً بالنسبة لي وللطلبة وللكادر التدريسي عموماً، حتى حلَّت مصيبة التيارات الإسلاموية التي قويت شوكتها بعودة (الأفغان العرب) من أفغانستان وتمّ رفع شعار (الإسلام هو الحل) في كل مكان، وتحولت المدرسة العليا للأساتذة وجميع كليات وجامعات الجزائر إلى بؤر لنشاطات الجماعات الإسلاموية، وأهمها كانت (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وكان يترأسها آنذاك الشيخ (عباسي مدني) وينوب عنه علي بلحاج، واعترفت الحكومة الجزائرية رسمياً بها في 6 سبتمبر 1989، وهذا الأخير، أي علي بلحاج، اتخذ من مسجد المدرسة العليا للأساتذة كمقر له في تلك الفترة، وتعرض القسم الموسيقي إلى مضايقات شديدة. كانوا يقفون أمام باب القسم يهددون ويتوعدون كلما أقمنا سميناراً أو نشاطاً موسيقياً في قاعة القسم. كانت النهاية مشؤومة مع اندلاع مواجهات مسلحة مع الأمن الجزائري، وتعرضتُ شخصياً للتهديد، وساءت الأحوال في الجزائر اجتماعياً واقتصادياً.

اضطررت إلى مغادرة الجزائر عام 1991، والتوجّه نحو ليبيا حيث تعاقدت مع كلية الفنون والإعلام كأستاذ محاضر في قسم الموسيقى.


الجزائر كانت، وماتزال، بلداً جميلاً، وعلى الصعيد الشخصي كنا مرتاحين جداً هناك، وعلى الصعيد الفكري كانت مرحلة مفيدة لي من خلال عملي كرئيس للقسم أشرفتُ على استكمال تأسيسه، ووضعت النواة الأولى لأول كتاب لي، وشاهدتُ على أرض الواقع ماكنت أؤمن به دوماً وهو: لا يوجد ما هو أخطر من (الإسلام السياسي) خاصة إذا ما اقترن بالفساد والديكتاتورية، وهذا هو ما كان عليه حال الجزائر في عهدي بو مدين ثم الشاذلي.


حاضرت في قسم الموسيقى في كلية الفنون والإعلام بطرابلس – ليبيا من 1991 لغاية 1996؟ كنت أستاذاً جامعياً في عهد القذافي! يشعر المرء لوهلة أن ليبيا لم تنجب موسيقيين أو عازفين؟ كيف كانت هذه التجربة المهنية في حياتك؟ كيف ساهمت في التطوير الموسيقي هناك؟

ليبيا التي حكمها القذافي بالحديد والنار، ونهب ثرواتها، أنجبت موسيقيين بالتأكيد، لكنه حول كل شيء، بما فيها الموسيقى، إلى خدمة "ثورته وكتابه الأخضر" البائس. من يستمع إلى الموسيقى والأغاني الشعبية الدارجة والفنية المتوارثة سيُدرك مدى عمق وثراء هذه الموسيقى، ويمكن العودة إلى غوغل للتعرف على الموسيقى والأغاني الليبية قبل القذافي.

تجربتي المهنية كانت لا بأس بها عموماً، وعميد الكلية (د. فوزي الجرنازي) أصرّ على أن أكون رئيساً لقسم الموسيقى، لكني اعتذرتُ، وفي جلسة بيني وبينه أخبرته بصريح العبارة بأن طلابكم الذين هم من الحرس الثوري يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة، وتفهم الأمر، لكنني عملياً ساهمت بشكل رئيسي في تطوير المناهج والمواد المقررة، وفشلت في إقرار تدريس الآلات الأوروبية كالغيتار والترومبيت والساكسيفون..الخ، فقد كانت تعتبر حاملة للثقافة الغربية ومشوِّهة للثقافة العربية والإسلامية. أما علم الهارموني الكونترابوينت فقد دَخَلت المنهاج. وكنت أدرسها بنفسي. أما على الصعيد الشخصي فقد تمكنت من إعداد ثلاثة كتب أخرى طبعتها في دمشق بدار الحصاد، ووصلت إلى أيدي الطلبة. من بين طلابي من نال الماجستير والدكتوراه في الخارج، وإحدى الطالبات المتفوقات نالت الماجستير في فرنسا أولاً، وفيما بعد أشرفتُ على متابعة رسالتها في الدكتوراه من إقليم كردستان، حيث تمَّ اختياري من قِبل جامعة ميشيل دو مونتان (Université Michel de Montaigne - Bordeaux 3) في بوردو- فرنسا خلال العام الدراسي 2009/2010 كي أكون مقرراً (زائراً) لأطروحتها في الدكتوراه المعنونة: مشــــكلة الهارموني في الموسيـــقى العربية والشــــــــرقية (Le problème de l'harmonisation dans la musique arabo-orientale) كوني كنت المتخصص الوحيد آنذاك في مشكلة الهارموني في الشرق عموماً، ومن ثم شاركت، شخصياً كذلك في مناقشة رسالة الدكتوراه المذكورة بناء على دعوة جامعة ميشيل دو مونتان، وتمَّت المناقشة بتاريخ 20/1/2010 في بوردو، واقترحت اللجنة المشاركة في المناقشة ورئيسها أن أقترح بنفسي الدرجة التي تستحقها الباحثة، كنوع من التقدير لي، فاقترحتُ درجة (جيد جداً) وتمّ اعتماد الدرجة جماعياً.

 

أسست مركز الفنون الموسيقية في القامشلي بسوريا عام 1997.. كان الإقبال كبيراً، والبعض يجد أنها مرحلة مفصلية لدى الفنانين والموسيقيين في منطقتنا، حيث أصبحوا يتعلمون بشكل أكاديمي، وليس سماعياً؟ ما الإشكاليات التي كنت تجدها عند الطلاب؟ على ماذا ركزت حينها؟

كان هذا المركز الموسيقي الثاني الذي أقدمت على تأسيسه. الأول كان عام 1967 في القامشلي بعد حصولي على الثانوية (البكالوريا) كما أسلفتُ سابقاً، وبعد عملي في التدريس الجامعي لمدّة أربعة عشر عاماً في الجزائر وليبيا حتى أتمكن من الوقوف على قدمي مادياً، كان طبيعياً أن أفكر في تأسيس مركز أو معهد لتعليم الموسيقى مرّة أخرى في القامشلي، وفي ذهني العديد من الموهوبين من بلدتي وأبناء شعبي ممن قد لا تسنح لهم فرصة دراسة الموسيقى كما أتيحت لي. وهكذا أسستُ (مركز الفنون الموسيقية) حيث دَرَسَ وشارك في الدورات الموسيقية الفصلية مئات من الطلبة والطالبات من أبناء الجزيرة، تعلموا خلالها العزف على الآلات الموسيقية المختلفة، وأجادوا قراءة النوتة والتدوين الموسيقي والمقامات (بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال)، وعدد من الطلبة الذين اشتركوا في دورات المركز تابعوا دراستهم الموسيقية العليا في دمشق وكردستان وأوروبا، وقسم آخر دخل مجال العزف والتلحين، أو افتتح استوديو تسجيل موسيقي. أشير هنا إلى أن عدداً من الفنانين الذين قدّموا الكثير للموسيقى الكردية قبل تأسيسي للمركز قد وجدوا في مركز الفنون الموسيقية ظهيراً قوياً لهم، وأدركوا بأنهم ليسوا وحدهم في المعمعة إن جاز التعبير. في كل الأحوال، فإن قضية الموسيقى الكردية وتطويرها ليست قضية فرد بحد ذاته، بل هي قضية جيل كامل أو جيلين، بل وأحياناً أكثر. المهم أن نعمل بشكل صحيح وعلمي، والنتائج نلمسها الآن، ويوماً بعد الآخر.

كانت الإشكاليات أن أكثر من نصف الطلبة لم يستمرّوا لأسباب متعددة أهمها إمكانياتهم المادية التي كانت تحول دون دفعهم لاشتراكاتهم، وقد حاولت الكثير للتخفيف عنهم على حساب واردات المركز، وهي كانت واردات معيشتي ومعيشة من يعملون لدي، ومصاريف الكهرباء والماء والهاتف..الخ. في البداية كان الاشتراك في الدورة الموسيقية لمدة ثلاثة أشهر هو أقل مما يكلف المدخن ثمن تدخينه، إذ يدفع المشترك 1000 ليرة سورية عند التسجيل والمتبقي يقسطه علي الشهرين المتبقيين. بالنسبة لمن كان يأتي من خارج القامشلي (من عامودا وديريك والحسكة) كنت أحسم 500 ليرة سورية من ثمن الدورة كبدل مصاريف سفر له. أما النوتات والمصادر الدراسية فقد كنتُ أطبعها وأوزعها عليهم مجاناً.

خلال الدورة كنا ندرّس الصولفيج والعزف على الآلة، والبرنامج كان يحتوي على موسيقى وأغاني كردية وعربية وسريانية وأرمنية وعالمية. كنا نحرص في المركز دوماً على تقديم أنماط متعددة ومتنوعة من الثقافات الموسيقية ضمن مادة الصولفيج الغنائي، وكذلك ضمن دروس الآلة الموسيقية (موسيقى كردية، عربية، أرمنية، سريانية، أوروبية) بالشكل الذي يؤدي إلى توسيع المدارك الموسيقية لطلاب وطالبات المركز، وذلك إلى جانب تقدمهم في العزف الآلي والقراءة الصولفائية وقراءة التدوينات الموسيقية المُقرَّرة. وعندما تكون المقطوعة المدرجة من الموسيقى الكردية يندهش الطلبة لما يكتشفونه من أوزان مركّبة، وبناء "ميلودي" (لحن) غير مألوف لا تظهر أسراره إلاّ من خلال التدوين الموسيقي فقط (أي النوتة) أو عندما يعاد عزف الموسيقى (التي سبق عزفها سماعياً) مرّة أخرى من المدوّنات الموسيقية. وهو ما حصل عندما درس الطلبة في مادة الصولفيج الغنائي الأغنية الشعبية المعروفة جلبي: (Çelebî)، فبالرغم من بساطة ألحانها وإيقاعاتها، فإن كل جملة من جملها تنتمي إلى ميزان مختلف. فكلمات çelebî) Hoy (Çelebî هي في الميزان (5/4)، أمّا كلمات (Ma Ew Kîye Zava) فهي في الميزان (4/4). والمفارقة هنا هي أن الطلبة، عند فهمهم لهذه النقطة، يكتشفون للمرة الأولى سبب عدم انتظام الدورة الإيقاعية التي يعاني منها الراقصون والراقصات في الحفلات والأعراس عندما تؤدى على أنها رقصة من نوع (شيخاني-Şêxanî) ذات الدورة الإيقاعية الثابتة. وهذا التنوع الإيقاعي الذي تتميّز به أغنية (جلبي) هو الذي يضفي على اللحن خصوصية وجمالية.

أسوق هنا مثالاً آخر: كمّ هائل من الموسيقى الكردية هو في الموازين المركبة: (6/8) و(10/16)... وهذا يستدعي (ضروباً بالريشة) متميزة، يضاف إلى ذلك التناوب بين الضرب القوي والضعيف (النَّبَرْ). لدى الكرد يختلف عما هو عليه لدى الأقوام الأخرى. تلعب هذه الموازين دوراً أساسياً في رسم شخصية الموسيقى الكردية وتمايزها عن موسيقات الشعوب المجاورة. ولا يمكن استكناه البناء الداخلي لهذه الموازين والضروب والنبرات بشكل دقيق من دون التمعّن في مدوّناتها الموسيقية بصرياً، إلى جانب إدراكها سمعياً، ويسري هذا على مقامات البياتي والسيكاه والعجم أيضاً. فمواقع عفق نغمات هذه المقامات (الدستان) مختلف عما هو عليه لدى مقامات الشعوب الأخرى.

الأمثلة السابقة تقودنا إلى نتيجة مؤكّدة وهي أن استلهام الفنان الكردي نماذجه من تجارب الشعوب الأخرى (عن طريق التقليد غالباً لا الدراسة والتمحيص) بالإضافة إلى اعتماده آلة الأورغ (وكذلك الغيتار) بنغماته ومقاماته وإيقاعاته الثابتة، ضمن فرق الحفلات والأعراس والفضائيات، سواء كانت كآلات رئيسية أو مرافقة، وذلك قبل أن يتمكن الفنان من المبادئ الأساسية لعلم المقامات والهارموني، سيقود إلى نتائج وخيمة شبيهة بالنتائج الوخيمة الناتجة عن اعتماد أبجدية أو آلة كاتبة للغة الكردية تحتوي على حرف الجيم (C) فقط دون (j) أو تحتوي على حرف الباء (B) فقط دون (P)، وقس على ذلك بالنسبة للأحرف (Y , I , E   W , V) وبقية الأحرف التي تميّز اللغة الكردية عن العربية على ســـبيل المثال. وقد قال العالم الألماني كورت زاكس: (عندما تتغيّر الآلات يجب أن نتوقع تغيراً في الموسيقى نفسها). ويورد في كتابه: (تراث الموسيقى العالمية) أمثلة من موسيقى بيتهوفن: فالسوناتات التي كتبها بيتهوفن (بعد ظهور البيانو ذو الميكانيكية الإنكليزية واستخدامه له) تختلف كثيراً عن السوناتات التي كتبها قبل استخدامه لهذا النوع من البيانو.

أما الحديث والتدريس في مركز الفنون الموسيقية بالقامشلي فقد كان غالباً باللغة الكردية، إلا إذا وجد بعض المنتسبين العرب أو المتحدثين بالعربية، فالتدريس والحديث كان يتحول عنذئذٍ إلى العربية بطبيعة الحال.

كيف تنظر إلى الموسيقى الكردية في سوريا اليوم، خاصة بعد أن تحررت المنطقة نسبياً من حكم البعث؟ إذا كانت جيدة؟ فما الذي يجعلها كذلك؟ وإذا كانت متراجعة؟ ماذا تقترح لتحسينها وتطويرها؟ أو هل يمكن أن توجه بعض النصائح للفنانين اليوم؟

لا توجد أرضية صلبة للإبداع الموسيقي في الجزيرة، ليس فقط بالنسبة للموسيقى الكردية، بل وللموسيقى للعربية وموسيقى الأقليات الأخرى كذلك. ربما يختلف الأمر نوعاً ما بالنسبة للنشاطات الثقافية والفنية التي تقوم بها المرجعيات الكنائسية على اختلاف انتماءاتها المذهبية والدينية والقومية (السريان، الأرمن، الكلدان.. وغيرهم) حيث تقام مهرجانات للأغنية السريانية، والكتاب السرياني، والثقافة السريانية. ويقوم الأرمن بين فترة وأخرى باستقدام فرق موسيقية رفيعة المستوى من أرمينيا ولبنان وأماكن أخرى. وللسريان والأرمن أنديتهم، مدارسهم، جمعياتهم، كنائسهم ذات التراث الموسيقي الديني - بل والدنيوي أيضاً - الثريّ والأصيل المنفتح على الموسيقى الكنائسية المحلية والعالمية بآلاتها وترانيمها ونصوصها. كان بإمكانهم إقامة نشاطاتهم الموسيقية والفنية المختلفة في المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة قبل وبعد نشوء الإدارة الذاتية. ومراكزهم مجهّزة بالقاعات الكبيرة وبالأجهزة الصوتية والضوئية المختلفة. كانت نشاطاتهم تقام بشكل لائق وعلني. وكان يحضر هذه النشاطات العرب والكرد والسريان والأرمن معاً دون تمييز، بالإضافة إلى المدعوّين الرسميين من موظفي الدولة، سواء بصفتهم الرسمية أو الشخصية، وهذه النشاطات - بالإضافة إلى النشاطات الثقافية والفنية الرسمية التي كانت تقوم بها المراكز الثقافية في الجزيرة - كانت المتنفس الثقافي والفني الروحي الوحيد لأهالي الجزيرة..

أما بالنسبة للموسيقى والأغاني الكردية فقد كانت، وعلى الأغلب ما تزال، تقدم في الأعراس فقط، وبالتالي هي أغاني أعراس فقط، ونادراً ما يستطيع الفنان الكردي الحصول على مكان لائق يقدم فيه فنه. وإن استطاع، ففي مربع من المرابع الليلية فقط. ولم يكن من النادر منع الفنان الكردي من إقامة أمسيته الغنائية قبل ساعة فقط من بدء حفله، وسيتحّمل هذا الفنان بالطبع جميع الخسائر والمصاريف المترتبة عليه، وسيتوجّب عليه أن يفكر أكثر من مرة قبل أن يقدم على حجز مربع ما بعد سنة أو سنتين.

ولعل المناسبة الوحيدة التي كانت تقدم فيها الفنون الموسيقية الكردية علناً هي احتفالات النيروز فقط. بطبيعة الحال، فإن الفرق الموسيقية والمسرحية، التي تقدم نشاطاتها خلال النيروز، كانت تقوم بتدريباتها في البيوت، وفي ظروف صعبة لا تخدم العمل الفني مطلقاً. وتكون البرامج المقدّمة محكومة سلفاً بالمناسبة وبظروف المناسبة، ويتمازج فيها الفكر السياسي بالفكر الدعائي والفني والأيديولوجي. وأحياناً تقوم الأحزاب الكردية بنشاطات موسيقية وفنية وثقافية كردية، إلا أنها نشاطات تقابل بالكثير من الارتياب والشك والحذر من قبل السلطات المحلية. وطالما أن الفنان الكردي لم يكن يستطيع ممارسة فنّه بشكل علني في أماكن لائقة، وبإمكانيات مقبولة، سيكون من الصعب الحديث عن أرضية صلبة للموسيقى الكردية في الجزيرة. وسيبقى الفنان الكردي يحفر في الصخر بأظافره، ويتابع الحلم بمؤسسة ما، أو شركة فنية ما، أو تلفزيون ما، أو قاعة حفلات ما، في هذا العالم المترامي- الضيق على سعته - بحيث يستطيع أن ينشد أغانيه ويقدم موسيقاه وفنونه وثقافته للناس أجمعين. فهل هذا هو ما يقوم به الفنان الكردي فعلاً في الجزيرة؟

وُجِدَت قبل أعوام مجموعات موسيقية وأفراد ممن كانوا يعملون في الميدان الموسيقي، وقدموا أعمالاً موسيقية ذات مستوى رفيع، نصّاً وموسيقى وأداء وتوزيعاً (مجموعة أوركيش، شيار آغري، الإخوة محمد علي شاكر ومحمود عزيز ... ) وآخرون ممن دخلوا ميدان الصناعة الموسيقية، إن صح التعبير، بتأسيسهم استوديوهات تسجيل تعتمد التقنيات الكومبيوترية الحديثة في تسجيل الأغاني الكردية وتسويقها بشكل فّني مقبول (آغري، ميدي، فيلاد ..الخ) وأغلبهم هاجروا من البلاد لأسباب سياسية ومعيشية. وما زالت النظرة نحو الثقافة والفنون عموماً من قبل القيّمين الرسميين عليها محكومة بكل ما يخطر على البال من شك وريبة، إذ أصبح يهمها مدى ولاء الفنان أولاً، وفي الدرجة الـ ....عاشرة مدى إبداعه. حصل هذا، ويحصل، بالنسبة لنتاج سليم بركات، ويلماز غوناي، وشفان برور على سبيل المثال لا الحصر.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).