زازا الشاب اليافع في أواخر الستينات هرب من وطن كبّله بالحديد والنار، حيث حرّمه من أبسط حقوقه.. من هوية يتنقل بها ويدرس بها. ساعدته ظروف معينة على الانتقال إلى الغرب ثم أصبح بروفسوراً في الموسيقى بعد جهود شاقة. 

تجربة البروفسور والموسيقار محمد عزيز زازا أكبر من أن نختصرها في بضعة أسطر في هذه المقدمة، فهي ثرية بالقيم والمعاني والتجارب الإنسانية، وقد تعرّفنا عليه من خلال الحوار الذي أجراه الصحفي عبدالله ميزر لصالح موقع "رامينا" ضمن سلسلة من الحوارات مع المبدعين والمؤثرين.

هذا الحوار الطويل يأخذ القارئ، من دون شك، إلى عالم قامة موسيقية كبيرة صنعت الكثير من الإنجازات ولا تزال.. الحوار مليء بالاكتشافات والدهشة والمتعة والجمال الإنساني والمعرفة الموسيقية، لذلك وجدنا أنه من الأفضل تقسيمه إلى أربعة أجزاء. 

في التالي الجزء الثالث من الحوار يحدّثنا فيه الدكتور زازا عن جانب من تجربته الأكاديمية في كردستان العراق، ودوره في إنشاء قسم موسيقي، وإعداده كوادر تدريسية من الصفر، ثم إشرافه على رسائل ماجستير ودكتوراه وغيرها من التفاصيل الموسيقية تجدونها في التالي:



ترأست قسم الموسيقى في كلية الفنون الجميلة بجامعة صلاح الدين في أربيل. هل شعرت أنك تستطيع أن تعبر عن وجدانك الموسيقي الكردي بشكله الذي رغبت به سواء عبر التدريس أو التأليف؟

هذا ما حصل، فالبرنامج التدريسي وجميع المواد التي اخترتها للتدريس في القسم خدمت ما قصدته أنت في السؤال. فقد حرصتُ على استقطاب كل كادر كردي لائق للاستعانة به في التدريس، وحرصتُ كذلك على استقدام موسيقيين وباحثين كُرد من الإقليم حتى ولو لم يكن يحمل الشهادة أو الدرجة العلمية المطلوبة، فالكلية هي تجربة جديدة، ونحن في طريقنا الصحيح لإعداد الكوادر خلال عشر سنوات. بالنسبة لمن استعنت بهم، فقد لجأتُ إلى التعاقد معهم بعقود مؤقتة، أو بنظام الساعات الإضافية، ولا داعي لذكر أسماء هذه الكوادر. واجهتُ صعوبات في تجاوز الروتين الإداري الجامعي الصارم بطبيعة الحال، لكني اعتمدتُ على ثِقة المسؤولين بي، خاصة السيد (عبد العزيز طيب) وزير التعليم العالي، وكذلك السيد مستشار التعليم العالي د. شيرزاد نجار. بالنسبة للتدريس، فقد درَّستُ ساعاتٍ عديدة مجاناً فوق نصابي الرسمي كرئيس لقسم الموسيقى، إضافة إلى أنني توليت مسؤولية اللجنة العلمية للكلية بأقسامها الأربعة، ومسؤولية اللجنة الانضباطية في الكلية، ورئاسة لجنة الترقيات العلمية، ومسؤوليات أخرى على مستوى الجامعة ووزارة التعليم العالي. ففي وزارة التعليم العالي كنت الكادر المُقرر في لجنة تعادل شهادات من درسوا الموسيقى في الخارج..الخ. أما بالنسبة للتأليف، فقد ركزتُ على المناهج الدراسية الموسيقية في الكلية وفي معاهد الفنون الجميلة، وأعمالي الموسيقية الخاصة كانت منصبَّة بالدرجة الأولى على إعداد المقطوعات الموسيقية الضرورية لتدريس آلة الغيتار والعود وتحضير النوتات الموسيقية لمواد العزف الجماعي والآلات الموسيقية، وطباعتها، وتوزيعها على الطلبة والتدريسيين، وكنتُ، وما زلتُ، المرجع الأول في تأمين المصادر والكتب الموسيقية الضرورية لطلبة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه.

وعن الحياة الموسيقية في قسم الموسيقى ووضع الطلبة والتدريس شاهدوا الرابط التالي:


يقول البعض أن التطور الموسيقي اليوم - رغم استقرار الإقليم سياسياً - ليس بالمستوى المطلوب على الصعيد الرسمي ولا على الصعيد الشعبي أيضاً.. هل توافق على هذا الكلام ولماذا؟

أوافق إلى حدٍّ ما فقط. فعلى الصعيد الرسمي كان لإفتتاح كلية الفنون الجميلة بأقسامها الأربعة دور كبير في التطور الموسيقي "الأكاديمي" الموجود اليوم على أرض الواقع الملموس، وعلى الصعيد الشعبي كانت، وما تزال، أغلب الفعاليات الموسيقية الموجودة في كردستان العراق التي يقوم بها أبناء الإقليم أو الأجانب من دول الجوار، والدول الأوربية والأمريكية، أغلبها ماتزال مجانية، وتشمل تكاليف السفر والإقامة في أماكن لائقة، وهذه حقائق لا يمكن نكرانها.
هناك مشكلات لا نزال نعانيها وهي: تأمين مكان مناسب ولائق لكلية الفنون الجميلة في أربيل، فبالرغم من كثرة المشاريع والمخططات التي قدمتها جامعة صلاح الدين للبدء بتنفيذ البناء، مع الأسف لم تنفّذ أي من هذه المشاريع بعد، على الرغم من تنفيذ حكومة الإقليم لمشاريع استراتيجية كثيرة وكبيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: تقديم الأخ رئيس الإقليم (نيجيرفان البارزاني) قطعة أرض في مكان استراتيجي من أربيل لبناء مساكن لأساتذة الجامعة مزود بكافة الخدمات، وهي القرية الجامعية الحديثة، هذا إذا لم نذكر بناء وتشييد وتشجيع بناء الأحياء السكنية الجديدة، والفنادق، والمجمعات التجارية الكبيرة، والشوارع والأوتوسترادات الضخمة داخل وحول أربيل. أما مشروع بناء مجمع كلية الفنون الجميلة فمازال بالانتظار، وهو مشروع ضخم في الحقيقة ، إذ يضم المشروع مساكن للطلبة، ومطاعم طلابية، واستوديوهات، ومسرح كبير، ومدَرَّج محاضرات كبير، ومرافق مجهَّزة بكل شيء، وسيكلف التنفيذ ما لا يقل عن نصف مليار دولار. وقد حالت ضغوطات بغداد على الإقليم، وقطع الميزانيات ورواتب الموظفين في إقليم كُردستان من قبل حكومة المالكي والحكومات المتعاقبة لغاية الآن، وكذلك عدم إقرار حصة الإقليم السنوية، كما يُفترض وهي 17% من الميزانية المركزية العراقية، حالت دون تنفيذ مشاريع كثيرة جداً، وليس فقط مشروع بناء مجمع كلية الفنون الجميلة.

تبقى نقطة وحيدة أرى من الضروري التطرق لذكرها وهي: تنامي ظاهرة الإسلام السياسي، فهذا النوع من الإسلام هو ليس فقط ضد الفنون و الثقافة، بل هو ضد الإنسان الكردي نفسه، وهذه مصيبة ما بعدها من مصيبة، فعدد المساجد التي يتم بناؤها في إقليم كردستان يناهز عدد المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية التي يتم بناؤها، والدول التي تشجع على بنائها تُنفِّذ أجنداتها الخاصة بها لاغير. فحذاري ثم حذاري من هذا التيار الإسلاموي المتنامي في جميع أجزاء كردستان وليس فقط في كُردستان العراق.

ما الذي دفعك إلى تأليف كتاب عن الغيتار؟

الآلة الموسيقية هي أداة تعبير بالدرجة الأولى، وإذا كانت الآلات الموسيقية الكردية، والشرقية عموماً، تعبر أفضل عن الموسيقى الكردية، إلا أن إجادة توظيف الآلات الموسيقية الغربية، وإجادة توظيف المواد الموسيقية الأوروبية كالهارمونية، والكونتربوينت، والتوزيع الأوركسترالي، كل هذا يعمل على إثراء وتطوير الموسيقى الكردية التي ما تزال في مجموعها تنهل من الفولكلور الكردي بالدرجة الأولى. وآلة الغيتار الكلاسيكي تقع ضمن خانة إجادة التوظيف، وهي رخيصة الثمن إجمالاً، والعزف عليها يفتح أمام العازف مجال دخول وفهم الموسيقى الأوروبية، بالإضافة إلى أنها اختصاصي.

ومع كل ما ذكرته أعلاه، فإنني أنصح كل موسيقي درس لدي أن يعمل دوماً، وفي كل يوم، من أجل تعلم شيء جديد من عالم الموسيقى اللامتناهي، وعدم التقليد، أو الانجرار خلف كل غثٍ يقدم في الفضائيات واليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، ويجب عليه الاستماع إلى آراء الغير ممن لهم باع طويل في الحقل الموسيقي دراسة وتحصيلاً علمياً وإنتاجاً حقيقياً. وألا ينسى بأن الأذواق والوعي الجمالي الجمعي يختلف من فرد لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى، إلا أن الموسيقى الجادة والجميلة تستمر من عصر لآخر. ومن يسعى أو يتصور بأنه يسعى لتقديم جديد متطور إلى موسيقانا الكردية عليه أولاً أن يعرف هذه الموسيقى بشكل جيد من ناحية المقامات والإيقاعات والآلات الموسيقية، وكيف تمَّ توظيفها، وعليه أن يتعرف على نواقصها ومواضع الخلل فيها قبل أن (يدَّعي) بأنه يرفض القديم ويُقدم الجديد الأفضل، وتجربة الأخوين رحباني، على سبيل المثال لا الحصر، هي مثال لما أقول. فقد نظروا بحذر إلى هيمنة الموسيقى والأغاني المصرية وأغاني "الفرانكو- آراب" على الموسيقى والأغاني اللبنانية، وعملوا على التخلص من هذه الهيمنة.

كيف؟

رجعوا إلى البيئة أو الضيعة الجبلية اللبنانية ومنها اختاروا مفردات كلماتهم (الناطور، العرزال، الحاكورة، الحرش، النبعة، الضيعة، ...الخ) ووظفوها في كلمات أغانيهم، وكذلك فعلوا في الميلوديات والإيقاعات الأندلسية، بحيث عندما تستمع إلى فيروز وهي تغني هذه الموشحات ستظن بأنها تراثية وقديمة، وهي ليست كذلك، وقد عَمِلَ الرحابنة على التوظيف الممتاز للأوركسترا الكبيرة وللكورالات، وأغنية: الآن الآن وليس غداً / أجراس العودة فلتقرع، هي مثال على حُسن التوظيف، كما أعادوا صياغة أغاني معروفة جميلة للموسيقار (محمد عبد الوهاب) بمرافقة أوركسترالية جميلة جداً، كأغنية يا جارة الوادي، وخايف أقول اللي في قلبي..الخ إضافة إلى الأغاني الكنسية الدينية الرائعة التي قدموها بصوت فيروز، واليوتيوب يضمّ أمثلة لما ذكرتُ.

كيف تجد حضور الموسيقى لدى شعوب منطقتنا، وعلى الأخص لدى الكرد بكافة أديانهم ومذاهبهم، مقارنة مع شعوب أخرى، فلنقل الأوروبية مثلاً.. كونك عشت هناك؟

باختصار شديد: لا يزال حضور الموسيقى والأغاني لدى الشعب الكردي كبير، وسيبقى هكذا، سواء كانت موسيقى وأغاني دينية أو دنيوية، ولن يؤثر عليها الإسلام السياسي كثيراً. انظر إلى أعياد النيروز وإلى الأعراس حيث يشترك الرجال والنساء معاً في أزيائهم الشعبية في المشاركة بالدبكات بمرافقة الموسيقى والأغاني. ولابأس من ذكر الحركات الصوفية الكردية التي يعزف ويغني فيها الرجال والنساء معاً بحضور أعداد كبيرة من الجماهير، كـ اليارسانية (أو جماعة أهل الحق (sad) وهي إحدى فروع الديانة اليزدانية القديمة التي كانت معتنقة من قبل معظم الأكراد قبل المدّ الإسلامي في كردستان، وهي ثلاثة أقسام رئيسية في الوقت الحاضر: اليزيدية، اليارسانية، علويو تركيا (قزلباش: Qizilbaş). وتشير الوثائق التاريخية إلى أن معظم الكرد كانوا من أتباع الديانة اليزدانية التي اختلطت كثيراً مع الزرادشتية، لكنها حافظت على خطها العام المستقل عن الزرادشتية. يعيش اليارسانيون أو أهل الحق في غرب إيران، وبالتحديد في محافظة کرمنشاه، وأيضاً في منطقة كركوك شمال العراق، ومندلي، وخانقين، وبعقوبة في محافظة ديالى.

أصل كلمة يارسان: مفردة مركبة من كلمة (يار) وتعني المحبوب أو العاشق أو المتصوف و(سان) تعني ذوي الشأن أو ذوي المكانة في المجتمع الكردي. وهناك رأي آخر يقول بأن كلمة (سان) يعود أصلها إلى (سان سهاك) وهي مختصر لكلمة (سلطان اسحاق)، وهكذا فإن أصل الكلمة تعني أتباع وأحباب ومريدو وعشاق (سلطان اسحاق البرزنجي بن شيخ عيسى بن بابا علي الهمــداني). ويمكن في الرابط التالي مشاهدة أغانيهم وموسيقاهم الجميلة:


هل قدمت مؤلفات عن الموسيقى الكردية بشكل عام أو لتجارب كردية موسيقية سواء بالتحليل أو النقد؟ هل من مشروع محدد وجامع يراود خيالك حول الموسيقى الكردية؟

قدمت أعمالا موسيقية بطبيعة الحال. منها على سبيل المثال: تنويعات على أغنية (Lê lê Nûrê) المعروفة، ويمكن الاستماع إلى الأصل على الرابط التالي:



وتجدون فيما يلي نفس الأغنية وقد استوحيتها وكتبتها لآلة الغيتار الكلاسيكية تحت عنوان: "رقصات كردية"، وعزفتها الأوركسترا السيمفونية في بغداد والسليمانية، والتسجيل التالي هو لأدائها في السليمانية، وقاد الأوركسترا الألماني (ماك آليندن) والعازفون أغلبهم طلبتي من الذين درسوا في قسم الموسيقى بكلية الفنون الجميلة بأربيل (هولير) بالإضافة إلى عازفين ألمان. وفيما يلي (رقصات كردية) للأوركسترا في السليمانية، صوّرتها زوجتي ضمن الحفل بكاميرا فيديو يدوية عادية، فمع الأسف لم تتوفر آنذاك إمكانية التسجيل الاحترافي ضمن القاعة، أو أن القاعة لم تكن مهيأة لذلك:


يُمكن مشاهدة الفيديو على الرابط التالي:


ولمجرد الاطلاع.. فيما يلي عمل لي عن "لونغا يورغو"، أعدت صياغته لآلة الغيتار تعزفه الأمريكية: سوزان ماكدونالد

(Susan McDonald plays Kurdish music arranged by Dr. Mohammad Zaza)

ويُمكن مشاهدته على الرابط التالي:



رابطان لتحميل كتابين للدكتور محمد عزيز زازا: 

الغيتار - تقنيات عزف السلالم والائتلافات - د محمد عزيز زازا.pdf

 كتاب الكونتربوانت.pdf

 


 


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية