تعد اليابان موطناً لمئات الآلاف من الأشخاص الذين يعيشون في عزلة شبه تامة عن المجتمع المحيط بهم، فيما يعرف بظاهرة الهيكيكوموري. في حين أن هناك بعض ضحايا تلك الظاهرة الذين استطاعوا العودة والاندماج في المجتمع مرة أخرى، إلا أن هناك آخرون وصلوا إلى حالة مزرية لدرجة جعلتهم يتوقون إلى القتل الرحيم. في هذا المقال تكشف لنا الكاتبة النقاب عن واحداً من أهم التحديات التي تواجهها اليابان في العصر الحديث، مستندة إلى ما جاء في كتاب صدر مؤخراً من هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية حول ظاهرة الهيكيكوموري.


هل يمكن أن يحدث هذا لي أنا أيضاً؟

انتهيت مؤخراً من قراءة كتاب ”تقرير عن متوسطي وكبار السن من الهيكيكوموري وواقع حياتهم بعد رحيل الأبوين“. يستند المؤلف في سرد الأحداث إلى برنامج وثائقي من إنتاج هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية، حيث يستكشف تجارب 10 أشخاص من متوسطي وكبار السن يعانون من الهيكيكوموري ”عرفتّها وزارة الصحة اليابانية ووزارة العمل، فهي بقاء الشاب في منزله لمدة 6 أشهر أو أكثر، من دون الذهاب إلى العمل، أو الدراسة، أو حتى الاختلاط بأقرانه من الشباب“.

الفقرة التالية تتضمن أحد أهم العبارات التي ظلت عالقة في ذهني لفترة طويلة حتى بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب. ”لا يوجد أحد في هذا المجتمع محصناً ضد المعاناة الهيكيكوموري، فنحن جميعاً وكل يوم نواجه احتمال فقدان وظائفنا أو أسرنا وعائلاتنا ليتركونا وحدنا نواجه شبح الوحدة والعزلة“.

كانت هذه هي كلمات أحد الأخصائيين الاجتماعيين الذين تمت مقابلتهم من أجل سرد خبراتهم في صفحات الكتاب، يعمل هذا الشخص في منظمة دعم الاعتماد على الذات في مدينة موبارا بمحافظة تشيبا، وهي منظمة تعمل على دعم ضحايا الهيكيكوموري.

عندما قرأت هذه الفقرة لأول مرة قلت لنفسي ”لا لا هذا لن يحدث لي أبداً“، ولكن مع قرب الانتهاء من قراءة الكتاب اكتشفت شيئًا كامنًا في داخلي يمنعني من التصريح بثقة بأنه لا يمكن أن يحدث ذلك معي.

أنا على ما هو عليه اليوم فقط بسبب الصدفة والحظ السعيد، وإذا كنت قد اتخذت قراراً مختلفًا في وقت ما، لكنت عشت حياة مختلفة تمامًا عن تلك التي أعيشها اليوم.

كلما تعمقت في تفاصيل هذا الكتاب وتعرفت بشكل أفضل على حياة العشرة أفراد الذين تناولهم العمل وعلى حياة ذويهم، كلما ترسخ بداخلي هذا الفكر، وشعرت بمزيد من القلق.

كان من الممكن أن أقضي أنا أيضاً حياتي في منزلي القديم مع والديّ المسنين، وقتها كان سيظل باب العالم الخارجي مغلقًا أمامي بإحكام لعقود طويلة، وعندما يقضون نحبهم، سأكون أنا هناك وحيداً وهزيلاً لا أعرف حتى ما يجب علي أن أفعله، ربما حتى كنت لن أقوى على توفير الطعام والشراب لنفسي لينتهي بي الحال إلى الموت بجوارهما.

وجدتني أفكر، هل حقاً مجرد وجودي على الأرض يعني أنني مازلت على قيد الحياة؟

عبء عدم العمل

الموضوع الرئيسي لهذا الكتاب هو ما يُعرف في اليابان باسم ”مشكلة 8050“، حيت يشير هذا الرقم إلى الأباء المسنين في الثمانينات من العمر الذين يعولون أبناء في سن الخمسين يعانون من الهيكيكوموري. ويستند الكتاب في معلوماته إلى فيلم وثائقي من أنتاج هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية أن أتش كيه حول ظاهرة الهيكيكوموري والقضايا العائلية ذات الصلة، وتم بثه لأول مرة في اليابان في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.

الشيء المشترك بين الآباء والأبناء الذين ظهروا في الفيلم الوثائقي هو أنهم جميعًا رفضوا، وما زالوا يرفضون قبول أية مساعدة تقدم إليهم.

”أريد أن أجد مستشفى بمفردي، وأن أستعيد صحتي بمفردي، وأن أعثر على وظيفة بمفردي.“ كانت هذه هي إجابات معظم الذين ظهروا في هذ تقرير التلفزيوني رداً على سؤالهم حول سبب عدم قبولهم المساعدة. لاحقاً، تم العثور على رجل يبلغ من العمر 56 عامًاً ميتاً داخل منزله، حيث عثروا عليه جثة من عظم مغطى بالجلد ومدفونة تحت أكوام من القمامة. جدير بالذكر أن نفس هذا الرجل كان قد رفض لمرات عديدة عروض المساعدة التي كان يقدمها له الأخصائيون الاجتماعيون من مجلس المدينة بعد أن ساءت حالته بشكل كبير أثر وفاة والده الذي كان يعوله قبل 10 سنوات.

في حديثه إلى المحاور يصرح أحد مرضى الهيكيكوموري قائلا ”حتى لو طلبت المساعدة، لست متأكداً إذا ما كان أي شخص سيساعدني حقًا...، كما أنني أشعر بالذنب الشديد لكوني عاطلاً عن العمل...“

شخص آخر يبلغ من العمر 54 عامًا كان قد ترك جثة والده الذي توفي عن عمر 86 عامًا ملقاة داخل المنزل لمدة تزيد عن ستة أشهر حتى تحللت بشكل شبه كامل. أخبر المحاور الذي أجرى معه المقابلة أنه عندما كان أصغر سناً، وجد عملاً كطاهي في عدد من الأماكن، لكنه لم يدم طويلاً في أي منها، وهو الآن عاطل عن العمل لأكثر من 20 عامًا. يبدو أن تجاربه المؤلمة في العمل في وظائف استغلالية وتعرضه لمضايقات أصحاب العمل قد ساهمت في انسحابه من المجتمع.

في الواقع، وجد فريق عمل التلفزيون الياباني أنه في كثيراً من حالات ”8050“ عرضت الحكومات المحلية المساعدة على أسر المرضى، لكن الآباء والأمهات هم الذين رفضوا قبول يد العون، متعللين بإن كل شيء سيكون على ما يرام.

حالة أخرى يستعرضها التقرير: سيدة في السبعينيات من عمرها، ولديها ابن في الخامسة والأربعون من عمره لم يخرج من غرفته منذ أكثر من 15 عام، ومع ذلك ترفض أن تعرضه على الطبيب، وتعلل ذلك قائلة ”كل شيء سيكون على ما يرام قريباً… نحن بخير“.

يوجد في اليابان تعبير يعود إلى العصور القديمة يقول: ”من لا يعمل، لا يستحق أن يأكل“. إنه يعكس اعتقادًا راسخًا أن الأنسان يكون ذو قيمة فقط عندما يعمل ويكسب من كده وعرقه، وعلى العكس من ذلك، فإن عدم القدرة على العمل هو مصدر للخزي والعار. كما يعتقد الكثير من الناس أن مسؤولية دعم هؤلاء الأبناء الفاشلين يجب أن تقع على عاتق أسرهم فقط، وليس على عاتق المجتمع ككل.

من المذهل أن هناك نظام قيم كامل متأصل بعمق في تلك العبارة البسيطة ”من لا يعمل، لا يستحق أن يأكل“. لكن هل من الممكن أن يشعر قراء هذا الكتاب، في مكان ما في أعماقهم، بصدى لتلك القيم القديمة؟ سؤال يطرحه هذا الكتاب.

التدخل هو الحل

هناك عامل مهم آخر يؤدي إلى تفاقم ”مشكلة 8050“ وهو عدم التوافق المنهجي - وهي نقطة ضعف في نظام الدعم الياباني تعوق وصول المساعدات إلى كثير من الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إليها.

عند مواجهة هيكيكوموري، فليس هناك من الناحية القانونية أي شيء تقريبًا يمكن أن تفعله المنظمات الحكومية ولا القطاع الخاص. الحقيقة الصادمة هي أنه حتى لو كان الأشخاص الذين يعانون من الهيكيكوموري على وشك الموت، فمن المستحيل التدخل ونقلهم إلى المستشفى إذا كان هذا ضد رغبتهم. حتى لو كان من الواضح أن الشخص الذي أمامك يحتاج إلى مساعدة، فالقانون لا يسمح لك بمساعدته إذا كان ذلك يتعارض مع رغبته.

تعد هذه المشكلة هي العقبة الكبرى التي تواجه موظفي مراكز الدعم في جميع أنحاء اليابان في تقديم المساعدة لأسر مرضى الهيكيكوموري، حيث عاش الكثير منهم التجربة المريرة المتمثلة في مشاهدة شخص كانوا قلقين بشأنه وزاروه عدة مرات بغرض تقديم المساعدة، وشاهدوه وهو يموت شيئاً فشيئاً أمام أعينهم دون أن يتمكنوا من إنقاذه.

قديماً كان التقارب بين الناس، وسؤال الجيران على بعضهم البعض إذا ما غاب أحدهم عن الأبصار لفترة طويلة، أحد أهم الأسباب التي منعت ظاهرة الهيكيكوموري من الظهور وقتها.

ولكن اليوم مع وجود العديد من الأنظمة الرسمية المعمول بها، يبدو أنه قد تم رسم خط حاد بين ما يمكننا وما لا يمكننا فعله للمساعدة. وبغض النظر عن مدى رغبتنا في تجاوز هذا الخط لتقديم المساعدة، إلا أننا غالبًا ما ينتهي بنا الأمر إلى الوقوف عاجزين عن فعل أي شيء.

”مشكلة 8050“ ، التي ظهرت لأول مرة في وعينا الاجتماعي في عام 2010، تم تحديثها الآن إلى ”مشكلة 9060“ بعد أن أزداد معدل أعمار المصابون. من الواضح أن الوقت ينفذ بسرعة دون الوصول إلى مدخل لحل مشكلة الهيكوموري.

إنه عبء أكبر من أن تتحمله الأسرة بمفردها؛ مشكلة لا يمكن إخفاءها إلى الأبد. كبشر ماذا يمكننا أن نفعل لإنقاذ هذه الأرواح؟

بعد الانتهاء من  قراءة هذا الكتاب، لا تزال هذه الأسئلة العميقة عالقة في ذهني.

(النص الأصلي باللغة اليابانية، الترجمة من الإنكليزية. صورة العنوان: ”تقرير حول متوسطي وكبار السن من مرضى الهيكيكوموري وواقع حياتهم بعد رحيل الوالدين“ من إعداد فريق عمل التقارير الخاصة بهيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية. تم النشر بواسطة تاكاراجيماشا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021. ISBN: 978-4-299-01548-8)


المصدر : اليابان بالعربي


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية