I

نشيدَ الأزلْ


يا ليتني

كنتُ حجَرَاً مَلْمُوْمَاً على صَمتي؛

يعبرُني الرُّعاةُ ويبكيني العشاقُ، تعبرُني الرِّياحُ والعواصفُ تجتاحُني وأبقى كما أنا حجراً أُلقّنُ الأبديةَ نشيدَ الأزلْ.

يا ليتني كنتُ حجَرَاً؛ ليعبرَني الحبُّ كمسافرٍ دونَ أثرٍ، لتعبرَني الغزالةُ ولا تطعن قلبي بالنَّوى! 

ياليتني كُنتُ هُنَاكُ ويَسكنُني حجرٌ...!


II

أيُّها الليلُ أَدْلِقْ هذا العَسَلَ المُصَفّى!


عَنْكِ،

عن تلكَ الشَّجرةِ التي يَسْتَضِيءُ بها الليلُ في سَيرهِ الأعمى؛

يتورّدُ الكلامُ...! 

يقودُني ظلُّكِ إلى أوراق ريحٍ ناضجةٍ. أيُّها الليلُ أَدْلِقْ غَرابتَكَ، أَدْلِقْ هذا العَسَلَ المُصَفّى اللائذَ بأَسْرارِكَ؛ لأقبضَ على أنينٍ هاربٍ من لهاثها اللاهب. 

يَتَفَتّحُ الليلُ في هزيعهِ عن شَفَتَيْكِ، يتفتّحُ ليلٌ عن قمرٍ؛ ينهمكُ إلهان في نقشِ الأنوثةِ حيرةً...! 

وأنا أختفي بلا أثر بين أصابعكِ ...!

III


البحيرة


زمنٌ خريفٌ؛

إذ تنعطف أطرافُ النّهار على أسرار البحيرة. 

وهذه الجبالُ لا تتقنُ سوى الطّعن! 

الغيومُ ــ إناثٌ يَمِلْنَ تحت وطأةِ الشغفِ، إناثٌ يتساقطْنَ قطناً، أما البحيرةُ ـ غمازةُ الأرض، تومضُ بنداءاتٍ للآلهة أنْ اهبطي...حيثُ كانت يوماً أعشاباً حوشيةً أو أحجاراً تُوْدِعُهَا الكينونةُ ألغازَها... 

خريفٌ ذهبيٌّ وعلى ضفة العشب غزالتان تمتحنان النّسيم في رغبته وتدعان الآلهة في صخب الصمت...! 

IV

كأنَّ الأَمرَ...!


كأنَّ 

الأَمرَ لم يكنْ سوى إشراقةِ وردةٍ!

أتأمّل عينيكِ الواسعتين، أحضنُ بكفيَّ وجهَكِ الصّغير النَّاعم على غير ما توقعتُ، أتأمّلُ أصابعَكِ المنتهيةَ بأظافر طويلة ذي لون غريبٍ، رخام عُنقِكِ يسطو عليّ دون رأفةٍ (يا لكِ من ظالمة ــ أهجس لنفسي). في لحظة غير متوقعة تماماً تجنحين إلى قياس قامتي بقامتك على سبيل الدُّعابة، .... ثم يسود صمتٌ أخّاذ؛ 

ثمَّ نظرةٌ عميقةٌ من عينيكِ تأخذني إلى الأبد! 

V

امرأة بشعر كستنائيّ...! 


يدٌ؛

 لا يكفي أنْ أقولَ عنها: رَخصةٌ كشغبِ النَّدى في اليقظةِ المتأخرةِ لهذا العُشْبِ الغَارقِ في الكسلِ راهنَ الوقتِ، يدٌ بأصابعَ لا شأن لها سوى أنها تخثّرُ الوقتَ كريستالاً في هيئة زنابق رهيفة على حافةِ المكان. 

امرأةٌ؛ 

تسكنُ الكستناءُ في شعرها، وبتفصيلٍ:

 امرأة بشعر كستنائيّ يناوش الذَّهب حيناً كما لو أنّ الليل قد ارتكب خطأً في هندامهِ فبدا متنكراً للنهار قليلاً، امرأة يستيقظ بلمسةٍ من أناملها ذاكَ الحجرُ المركون في رشاقتهِ على حافة الماء من غَفْوةِ الأبد، امرأة من رائحة القهوة، بنظرةٍ ٍ تُضرم الحرائقَ في جسدِ نمرٍ مُتوحشٍ هناك. 

 سماءٌ؛ 

هذه السَّماء، هذه السَّموات المطعونة بالشَّساعة تميلُ نحو الآفاق بحنانٍ، تماماً كعينيك اللتين تتسعان وتختطفان اللانهائيَّ المتقدَّ خطفاً. عيناك تحتفيان بعسليٍّ مخضرٍّ فاتكٍ أيتها السّماء القريبة قاب شجرتين أو أدنى ...!

يمامةٌ، 

لا أُلفةَ للمكانِ من دون الهَديل، هَديلُكِ، رنينُ صوتِكِ الأخّاذِ، حريرٌ يتراكم ندىً في صباحاتِ البَعيدِ. إلى تلك الأمَداءِ، أيتها اليمامةُ، إلى تلك الأمَداءِ هديلُكِ يختلسُني: مشارف البحيرةِ المطريةِ الصَّغيرةِ حيثُ الخرنوبُ والبيّاضُ والفراشاتُ بأصنافها، غير أنّ ما يفاجىء انهمامي تلك الرغبة الجارفة للضفافِ وهي تحتضن المياه!

نارٌ، نهرٌ، نخلةٌ، نغمٌ ونعيمٌ؛ 

تلكَ علاماتُكِ، سجاياك، آياتُكِ في عَراءِ هذا العَالم ووحْشتهِ. 

VI

إِمْعَاناً في البَهَاء!


مَنْ عَلَى وَجَه البَسِيْطةِ لا يَقْهَرُهُ جمَاَلُ امرأةٍ...؟

(كتاب الأمثال الهندوسيي)


إمعاناً في البَهَاءِ 

أو إمعاناً في الغوايةِ؛ الأمرُ سَوَاءٌ...!

رَهِيْنُ هذه الكَثَافَةِ أَنَا، أَسِيرُ هذهِ الغِوَايةِ التي تَنْهَمِرُ كسماءٍ عاشقةٍ، هكذا إمعاناً في الجنونِ يَنْحَدرُ شَعْرُكِ ليسهرَ على لُغْزِ "الفراشة" حيث تستيقظُ عتمةٌ غريبةٌ على كتفكِ الأيسر؛ آنها كنتُ حائراً أستنسخُ الظلالَ بأصابعَ تَلْهَثُ بانخطافٍ خلف خطوطها المتقنة. 

هَكَذَا الآن وَإمْعَانَاً في غِوايةٍ سَاحرةٍ تتكئينَ على جِدَار الماءِ وتبطشينني بلا رحمةٍ بعينيكِ، دعكِ كمَا أَنْتِ، أَزَحِي الشَّالَ الكِحْليَّ قَليلاً لتشرقَ الهَضَبَةُ برِدْفَيْهَا المنحوتينِ جموحاً ووقدةً، ردفانِ يُوقِظَانِ الشَّرَّ في المكانِ بكائناتهِ...! 

هكذا وإمعاناً في البَهاءِ فخَذَاكِ، سَاقَاكِ، رُخَامٌ، صَقِيْلٌ، مَمْشُوْقٌ، كثافةُ شَهوةٍ مريعةٍ، لا حيلةَ لي تجاهَ هذهِ الذّئابِ الشَّرسةِ المشتعلةِ بالافتراسِ في عينيَّ. لا استفزازَ أكثر حدةً؛ كهذا الذي يجري أمامي: درفةُ الباب تسندُ قامتَكِ ــ النخيلَ، ركبةٌ مثنية قليلاً، غرانيتٌ أبيضُ، أديمٌ باهرٌ والشَّالُ سماءٌ تسقطُ على الأرض مستغيثةً؛ أَيُّتها الغَزَالةُ دَعْكِ كما أَنْتِ؛ أَنْظرُ إليكِ؛ هَا هي روحي تُدَكُّ دكّاً، وعلى الأرضِ أَخِرُّ مذهولاً صَعِقَاً...!!!


VII

 سماوات متكسّرة

ببهائها 

تندلعُ الغَزَالَةُ قمراً في فَضَاءِ الحُجْرة! 

 تَتَكِىءُ على حَافةِ الصَّدى، تحدّقُ عبرَ النَّافذةِ إلى سَمَاءٍ ضَيقةٍ؛ تلتفتُ لصوتهِ أغنيةً ثمَّ تغيمُ بعينيها إليه. 

"شَفَتَاكِ تَقْطُرَانِ شِهَاداَ" يُدَنْدِنُ لها ويميلُ على نهدِهَا المحاطِ بأصابع من نارٍ؛ تتكسّرُ السَّماواتُ في عينيها وتتفتَّحُ لهفتُهُ عن زهرةِ جلّنار...!


لا أغنيةَ، لا موسيقى أَعْذَبُ من يديها المرميتين حَريْرَاً على كَتِفَيْهِ، تمسُّ بأظافرِهَا، حليبيةِ اللونِ، جَسَدَهُ؛ فتخبُّ الجيادُ صَاهَلةً في دَمهِ. تمسُّ يداه خصرَهَا العَالي؛ فيصعدُ زئيرُ اللبُؤَة، يَذُوْبَانِ في الاحْتواءِ، يَنْصَهِرَانِ، يَقْطِعَانِ الطَّريقَ إلى السَّماءِ البعيدةِ لهاثاً فلهاثاً ثمّ يتبددان في حشرجةٍ أخيرة...


بهيةٌ أنتِ أيتها الغزالةُ: يقول...ثم يُسبل عينيهِ على بحرٍ عميقْ...!

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية