يتسامى الشعر درجة سامية في عوالم الكتابة، فهو العالم الذي تتوق إليه النفوس والواحة التي تهدّىء من روع ما يلاقيه المرء في يومه من صعوبات ومشاكل جمة، يستلقي المرء في ظلال أشجاره حالماً بتلك الكلمات التي تأخذه في رحلة نحو المجهول حيث يأبى الرجوع منها.

وفي خضم النتاجات الكثيرة للشعر استوقفتني مجموعة "عشر رسائل وغيمة" للشاعرة فيروز رشك التي حلقت بي على بساط كلماتها السحرية نحو عالم باذخ من الشعر الحق. فيروز رشك شاعرة كردية سورية لها مجموعة شعرية بعنوان ( أشتاقك في هديل احتراقي) صدرت عام 2014 ، وكتاب بالمشاركة بعنوان ( بارين أيقونة الزيتون)، يُضاف إلى ذلك مخطوطات قيد الطباعة.

وطالما أن الشعر الحق كما ذكرت آنفاً هو عبارة عن نص محبوك مكوّن من صور شعرية وحالة الشاعر/ة في لحظة الوحي فإنني وجدت في شعر فيروز أنه يتناغم مع ما قلته لذا حاولت من الضرورة بمكان أن أضعه على طاولة القراءة وأبدأ بتحليل صوره الشعرية التي أبهرتني وأقول ذلك ليس مبالغة، فمجموعتها ناضجة وتبوح بشتى المشاعر والدلالات الشعرية العميقة.


قراءة في العنوان:

لا أرى أن فيروز تتكبد عناء البحث عن عنوان لكتاباتها فينبوع الكلمات لديها يتدفق بسلاسة وعفوية وأعتقد أن عنوان قصيدتها "عشر رسائل وغيمة" قد كان جديراً بمكان، ليتصدر عنواناً لمجموعة قصائد جامحة وبوح فريد من نوعه. هي لا تحتاج إلى ذك البحث الدؤوب فهي مدرّسة لغة عربية وترعرعت على يد والدها المحبّ لهذه اللغة والمعلم الأول لها ثم لتكمل رحلاتها مع الشعر بمنطق العاشق لهذه اللغة، العارف بأهوال عالمه وتجلياته. "عشر رسائل وغيمة" صورة شعرية لا تقاوم يظل صدى إيقاعها في ذهن القارئ الشغوف للقراءة وتترك ذلك الأثر العميق في نفسه. عنوان يضفي على الأذن موسيقى قريبة من القلب فالرسائل من المتعارف عليها هي أسرار ليس بمقدر أي كان قراءتها وإرفاقها بكلمة غيمة جمل العنوان أكثر ودلالته الخبر الجميل الذي سيكون خيراً على الجميع، فالغيمة دلالة الغيث والخير.

لم تحمل إلى حيث أنت..

باقة ورد.. سرب حمام

لم تترك حيث أنت.. عنواناً تشده البراري

وهنا.. ظلاً يرويه المطر...(ص11)

عشر رسائل وغيمة عنوان يصلح لكل قصيدة موجودة بين دفتي الكتاب ما يدل على وجود عامل مشترك في القصائد ككل وباعتقادي إن أرادت الشاعرة أن تقدم كل القصائد تحت هذا العنوان من دون ذكر عنوانيها في الديوان فباستطاعتها ذلك لأن القصائد تكمل بعضها البعض وتشكل وحدة متكاملة.


عتبة الإهداء

إلى العصافير.. العابرة قصص الموت مخيلاتها

إلى أبنائي وبناتي...

تنطلق فيروز رشك من الواقع المعاش من تجليات الأزمة السورية التي ألهمت الكثيرين/الكثيرات وتجسدت في نفوسهم/ن طوق نجاة لكل ما حدث في الوطن، لكن كان الثمن باهظاً، الموت بات يحيط بكل من بقي فيه والحسرة أمست تتآكل قلوب كل من هاجر منه. فيروز تقصد بالأبناء والبنات هنا ليس من خرج من رحمها فحسب بل تخاطب كل الأطفال الذين كانت وماتزال تلقنهم دروس الحياة والمعرفة، تلاميذها وتلميذاتها الذين/اللواتي أمسوا/أمسين وقوداً للحرب وشهداء في قبور منسية.


الصورة الشعرية:

ربما من الصعوبة بمكان إيجاد اتفاق بين منظري الشعر على تعريف محدد ودقيق للصورة الشعرية. فكل المحاولات في هذا الاتجاه باءت بالفشل نظراً؛ لأن القصيدة من دون الصورة الشعرية لا يمكن تسميتها قصيدة لأن القصيدة تعتمد اعتماداً مباشراً على الصورة بما معناه أن الصورة الشعرية نافذة تطل من خلالها القصيدة لتمنح القارئ بعداً آخراً هذا البعد يعتمد بالدرجة الأولى على الانزياح اللغوي واللامعقول ومن ثم إحداث حيرة ولذة باذخة لديه. إنها بكل بساطة مبادئ الصورة الشعرية التي تقوم عليها القصيدة ككل. ويمكن للصورة أن تتحقق من خلال الأدوات أو الوسائل البلاغية المعتادة أو من التناقضات التي يجمع بينها في النص. والصور الشعرية على أنواعها: المكانية، الزمانية، البسيطة والغامضة المعقدة التراكيب تغني النص وتسمو به وتميزه عن الكتابات الأخرى.


حضور الصورة الشعرية في عشر رسائل وغيمة

أن الأسلوب الطاغي في قصيدة فيروز هو السرد والسهل الممتنع المليء بالمنعطفات وفي المجمل الصورة الشعرية عندها تصنف إلى الصورة الغامضة والمعقدة التراكيب التي تسهم في إبراز نضج القصيدة وجماليتها؛ لنقرأ الصورة الشعرية التالية:

وأنا أدق باب الحياة

تألم قلب أمي المسكين

حين وبخها جدي الكردي لقدوي اللا مرغوب فيه

وتألم أكثر

حين عرفت أن أبي خدعها

ولم يؤذن لي كباقي صغار القرية

بل نبه قلبي لقصائد الريح

والماء الكثير الذي تحتاجه أنثى لإخماد حرائقها

الآن أتألم أكثر من أمي

فالقصائد كالبلاد الجميلة تبقى مغتصبة..(ص5)

هنا تتطرق فيروز إلى موضوع المجتمع الكردي سابقاً الذي لم يكن يقلّ جهلاً عن المجتمعات التي تعايشه وهو تفضيل الذكور على الإناث فالجد غاضب من قدوم أنثى ويرى أن الأم مذنبة، وباعتبارها أنثى لا يسمح لها اللعب مع صغار القرية وتركها لغضبها كل ذلك جعل الوجع يرافق قلب أمها. طرحت فيروز ههنا موضوعة العنف الذي تعاني منه المرأة في المجتمع وكيف يعاني كل ما هو مؤنث من هذا العنف حتى القصائد. هنا تفاجئنا فيروز بصورةٍ مذهلةٍ لنقرأها بروية:

" أمي التي نسجت من دمعها

شالاً لشقائي

جمعت المطر

لتروي للعصافير ما تبقى.."(ص10)

إنّ الحزن شال نسجته الأم من دموعها لتتدثر به الابنة، يرافقها على الدوام لا مكان للفرح حتى أنها تري ما تبقى من هذا الشقاء للعصافير التي جمعت لهم ماء المطر تغريهم به لسماعها.

لقد أنسنت الشاعرة العصافير لذا فهي قادرة على فهم حديث الأم وتصيخ السمع كما الإنسان. صور شعرية مدهشة تجبر القارئ على قراءة التالي والخوض في القراءة كما لو أنه عطش يبحث عن ماء رقراق يروي ظمأه. لنقرأ المقطع الشعري التالي:

كسير ذاك القلب

كعصفور جريح

الفقد خدش عذرية الكلمة

وثقب دلاء العمر... (ص73)

إنَّ فقدَ شخص عزيز يجعل المرء ضائعاً حزيناً لا يقوى على فعل شيء، هنا مارست الشاعرة الانزياح في حديثها عن الفقد فقد رأت انه جرح عذرية الكلمة التي شبهتها بالفتاة العذراء والعمر بدلاء مثقوبة. كلمات تدخلك في نشوة لا تريد الصحو منها وصور شعرية عميقة تبث في المرء الدهشة. تقول الشاعرة في صورة أخرى:

أكثر ما يدهشني الآن

أنك كلما حدثتني عن ورق الخريف

تساقطت من بين شفتيك شقائق نيسان

ترتشف الندى من رؤوس أصابعي...(ص91)

أكثر ما يدهشني، هنا، هو هذه العفوية الصادقة التي تسهم في بناء القصيدة عند الشاعرة ففي حديث العاشق عن الخريف تتساقط شقائق نعمان من شفتيه قبلات لرؤوس أصابعها ترتشف منها الندى. وهذا المقطع الجميل:

في غيابك.. أحزم أحلامي بأصابع مبتورة

وأمضي في الشارع نفسه

دون نفسي...(ص91)

هنا الأحلام كبقجة ملابس تحزمها العاشقة بأصابع مبتورة، تمضي في الشارع نفسه دون روح فكلتاهما اختارتا العاشق وسافرتا معه.

أخفي وجهك في شعري

فتختلط التربة ويكون موسم الكرز(ص92).

صورة جميلة جداً اقتراب الذكر من الأنثى نتيجته هو الاتحاد بين العنصرين وهطل للقبلات التي بطعم الكرز.


حول البدايات والخواتيم في الديوان

البداية عبارة عن الجملة الأولى أو المقطع الأولي للقصيدة وهذه البداية تلعب دوراً استراتيجياً في ربط العنوان بالنص وربط الخاتمة بالنص فضلاً عن توليد النص منها. لنقرأ القصيدة التالية:

كردي

يبصر الموت في طين عباراتهم

لا فضة في الطريق

خيط السر هناك

والوقت يمزق ضفائر المدن

غبار الحرب يلوي ذراع الروح

على مشجب الوجود يضحك الكردي

من شغب أصابعه مع البارود

وطيران القلب خلف جديلة

يحرسها لا ينام...(ص20)

هنا القصيدة فضاء الشاعرة تحلق فيه بكل ثقة وجدارة فتطير من العنوان إلى بداية موفقة التي تولد من رحمها متناً قوياً وتمضي به إلى خاتمة مناسبة تكتنفها الدهشة والفجاءة فتبهر القارئ وتبقيه تحت وطأة الكلمات حيناً من الزمن. وأخيراً وليس آخراً أترك للقراء الأعزاء الحكم وما قدمته وجهة نظر ليس إلا.











مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).