ـــ لماذا نفتقدُ الدهشة في الكتابةِ الشعرية الحديثة، لماذا لم نعد نقرأُ تلك القصيدة التي تزلزلنا من الداخل وتجعلنا نعيشُ في رعبِ اللغة وطغيانها؟

الدَّهشة، القصيدة وطغيان اللغة

إذ تُشرّفني بهذا السّؤال العميق والمزدحم بشباك الشّعر وتحدياته فإنّك، في واقع الحال، تستدرجني إلى "مدار الرّعب"؛ لأكونَ في مواجهةِ ثلاثةِ أسئلةٍ في إهابِ سؤالٍ جديرٍ بالانهمام والاهتمام. بيد أنني، في اليقين، لستُ واثقاً من الإحاطة بهذه الأسئلة أو هذا السؤال الذي يبدو كثقبٍ أسود. وسأسعى في مطاردة هذه الأسئلة، أو سأسعى في مطاردتها لي، طالما أنَّكَ وضعتني على وجه التَّحديد قاب سؤالين أو أكثر مع الاعتراف الصَّريح بأنَّ السؤال في مجموع انعطافاته يفيض على معرفتي، فالسّؤالُ يتمدّد في حقول الشِّعريات والسُّوسيولوجيا واللسانياتِ التداولية كذلك.

I

ــ يبدأ سؤالك بهذه العتبة: [لماذا نفتقدُ الدّهشة في الكتابةِ الشعرية الحديثة]، لاشك بأنَّ هذه العتبة تومىء إلى راهننا، راهن الكتابة الشعرية التي تفتقد إلى قانونها القائم على المفارقة والاختلاف. بهذا الصّدد يمكنني القول إنَّ "الدهشة" هي قانون الفعل الإبداعي أي أنَّ الدهشة أصلٌ في الفعل الشعريّ فلا كتابة شعرية يمكن أن تتحقق أو أن تكون شعرية دون أن تحوز هذه "الطاقة الأصيلة= القدرة اللامتناهية على إحداث الدَّهشة والغرابة". فالنصُّ الفني(الشعري، التشكيلي، الروائي،...إلخ) هو بمنزلة "الغريب" الذي يفاجىء ألفة المكان وناسه من حيث إن الغريب يُقْرَنُ بالمدهش واللامألوف وكذا الفعل الشعري ــ الأصيل. فحينما تنجح الكتابة الشِّعرية في تدشين فسحةٍ لانبثاقِ الغَرابةِ بفعل الإدهاش الذي يحيط بالبنية الشِّعرية نكون إزاء الأصالة الشّعرية، أي الفعل المبدع والمختلف وطاقته على مواجهة التأويل الأحادي والقاطع بنص شعريّ لايمكن حسمه دلالياً، فالأمر أشبه بفيض دلالي يحاصر المؤوّل ويدفع به إلى الشكّ بذاته. والسؤال الناهض هنا هل حقاً "تفتقد الكتابة الشعرية الحديثة إلى الدهشة"؟

على الرغم من أنَّ "الاستهلاك" يحتاز على رغباتٍ امبريالية عاتية ويبتلع الحياة الإنسانية بصورةٍ مريعة، برغم كلّ ذلك لايزال الفن [وضمناً الكتابة الشعرية] يفخّخ الاعتيادي بالدّهشة والغرابة، والشّعر لم يتوقف البتة عن تفعيل عامل الغرابة الكامن فيه وترهين الكينونة باللغة وفي اللغة. لكن ينبغي أن نأخذ بالحسبان أن الشعر ندرةٌ، نادرٌ حتى في القصيدة ذاتها، ليس في العصر الحديث وإنما في العصور كافةً. لقد وقعتُ على هذه الغرابة أو الدهشة في عدد من الأعمال الشعرية المبدعة التي قاربتها. إنَّ الدهشة تواجهنا في عدد من الأعمال الشِّعرية وبقوةٍ ولكنها تنبثق في سياقِ الكتابةِ الشِّعريةِ الحديثةِ على نحو [نادر]. وهكذا أرى أن الكتابة الشعرية راهناً لا تعدم "الدهشة" بقدر ما أن المريع في الأمر هو غياب مخيف للمواهب العظيمة، للشعراء العظام الذين بهم يمكن أن يستمر الفعل الشعري في إدهاش القرّاء وتعميق إدراك الوجود، إلى هؤلاء الشعراء الذين يمكن أن يُحدثوا منعطفات في الكتابة الشعرية تحتاج الغرابة الشّعرية لكي تنبجس وتقبض على لامرئي الحياة.

II

ـــ يقودنا الافتقاد إلى الدَّهشة في الكتابة الشِّعرية إلى تخصيص أكثر في سؤالك: [لماذا لم نعد نقرأُ تلك القصيدة التي تزلزلنا من الدّاخل]، هنا يمفصل السؤالُ القصيدةَ عن "الكتابة الشعرية"عامةً، لكن في ارتباط بعامل افتقاد الدّهشة الذي ينتقل من "الكتابة الشِّعرية الحديثة" إلى القصيدة. هنا الزلزلة تسميةٌ أُخرى للدهشة، فالقصيدة التي تنطوي على الدهشة عليها أن تزلزل دواخل القارىء! هل حقاً نفتقد إلى هذه "القصيدة"؟ في واقع الحال القصيدةُ حدثٌ نادرٌ مثل أحداث الفن النادرة عامة لكنها تنبجس بين فينة وأُخرى في أعمال الشُّعراء. ولا أستطيع الادّعاء بأنني متابع جيدٌ للنتاج الشّعري ولكن قراءتي لعمل مروان علي "الطريق إلى البيت" و"حمام كثيف" لعيسى الشيخ حسن على سبيل المثال تقودني إلى القول إنَّ ثمة دهشة تعتري قارىء المجموعتين...في واقع الحال إن "الزلزلة" هي كناية أو استعارة عن قوة القصيدة، دعنا ألا نستعجل بل ننتظر الزمن فربما يفاجئنا بالقصيدة ــ المستحيلة التي أنتظرها مثلك...

III

ــــ تنهي سؤالك المركب بالقصيدة ــ المستحيلة التي تزلزل دواخلنا [وتجعلنا نعيشُ في رعبِ اللغة وطغيانها؟]. أعتقد جازماً بأنَّ الدهشة في القصيدة والشِّعر لا ترتبط برعب اللغة وطغيانها وإنما بالكون الشعري المختلف واللامتناهي الذي تبنيه القصيدة في عملية تلقيها، وإذا كان الأمر مرتبطٌ برعب اللغة وطغيانها فلايزال "سليم بركات" في أعماله يمارس هاتين السمتين على نحو مخيف! في هذا السياق قرأتُ نصوصاً لجورج تراكل تفيضُ دهشةً وغرابةً من دون اللجوء إلى رعبٍ لغويٍّ أو طغيان...وغالباً ما ينطفىء "الشّعر" لدى الشعراء الذين يتعمّدون اللعب اللغوي. إن الشِّعر في منظوري يقدم ــ كما يقول جاك دريدا ــ جسداً جديداً للغة من خلال زجّ اللغة إلى مناطق بعيدة وعميقة من التجربة الشعرية في علاقتها بالعالم. مرة أخرى أقول إن الشعر أقرب إلى ذاك "الغريب" الذي يدهشنا بحضوره، ننتظر معك ذاك الغريب في طريقه إلينا...!! وأخيراً أتمنى أن يكون شعرك أيضاً تمثيلاً لهذا الغريب القادم...!

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية