صورة سليم بركات بريشة الفنان الراحل مالفا (عمر حمدي) - غلاف أقاليم الجن

جنباً إلى جنب مع البشر، فإن هذا العالم هو موطن لأنواع عدة من الكائنات. بعضها موجود في الأساطير، مثل الجن، وبعضها لم يعد له وجود، مثل الديناصورات. ومن ضمن هذه الكائنات البشر والحيوانات؛ ومن جانب آخر المحسوس فقط ولكن لا نراه، مثل الريح والعطور. لنفترض ببساطة رفض وجود العالم الآخر رغم تأكيد العديد من الناس وجودهم علمياً ودينياً، ماذا سيحصل، بالرغم إننا لا نستطيع تكذيب مثل هذا العدد الكبير من العلماء ورجال الدين الذين أثبتوا وجود ذاك العالم الخفي؟ وغير ذلك هناك أدلة كتابية كثيرة في هذا الشأن قاطعة وحاسمة لدرجة إن الإيمان بوجود العالم الموازي للبشر هو جانب أساسي من جوانب الإيمان، وبينما يعد بمثابة الكفر في الأديان إنكار ذاك العالم. إذ أن وجود العالم الموازي حقيقة مثل وهج النار، لا يمكن إخمادها، وإن حاولنا ذلك سيبقى الأثر في مكان ما، لكن يبقى السؤال هو كيف هي أشكالهم؟ وكيف يكبرون؟ وكم هي أعمارهم؟ وماذا يعتنقون؟ وأسئلة كثيرة وكبيرة وضعت البشر في ميزانٍ تائه على كيفية شكلهم وحجمهم؛ بعضهم أقترب منهم من خلال الأساطير والكتب التي تكلمت عنهم، وبعضهم أبتعد عن التعمق في هذا الأمر.

لكن كالعادة كان لسليم بركات رأي آخر عن ذاك العالم، إذ أنه تعمق في حياة تلك المخلوقات التي لا نراها ولا نسمعها في رواية أعطاها الشكل الذي يناسب مخيلته ويناسب تلك المخلوقات في اللون والشكل والحجم والعادات والتقاليد والطعام والشراب والفرح والحزن وكل تفاصيل الحياة الموجودة في الطرف الآخر من هذا الكون. إذ أن أنواع الأقاليم في تعريفها الجغرافيستة؛ وكما أن سليم اختار أن يبحر في مركبه الخاص في بحور الأدب، اختار أيضاً أن يتمرد على الواقع والقواعد ليخلق منها ما يناسب مخيلته غير المحدودة، فأضاف للأقاليم الستة إقليماً آخر في رواية أخرى للعالم الموازي لعالمنا، رواية «أقاليم الجن»، يستحضر فيها الجن ويعطيها أشكالاً غريبة كما لو أنه كان موجوداً في العالم ذاك؛ نصفها الأعلى جن قريب من أشكال البشر، ونصفها الأسفل جراد؛ أجسامهم هزيلة كهياكل العظم وعليها جلود خشنة رمادية بنقوش من خطوط ونقاط بيض وصفر تولد معهم ــ في زعمهم ــ تدوين من أقدارهم في حياة سابقة على الحياة الراهنة. عيونهم حجرية، رمادية، كالتماثيل في وصفه وبدون حدقات أو أجفان، لديهم أيادٍ ضخمة لا تتناسب مع أجسامهم، وكلما تصاغرت الأيدي تدل على الشيخوخة، لا أنوف لهم إلا ثقبان في الوجه، ولديهم أسنان ضخمة في الأفواه، أجسادهم ليف لا دم فيها، أسلحتهم العظام، طعامهم العظام، جميع أنواع العظام، بينما ينثرون اللحم على سفوح الهضبة لطيور لاكيلا المقدسة عندهم؛ طيور عمياء ولا جلود على جماجمها ولها أجسام النسور. تتكون أجسام الجن من غبار، ويضربون الأرض بأيديهم ليستنشقوا الغبار، وحين يموت أحدهم يخرج غباراً برتقالياً من منخريه الثقبين، ويقولون: سلمَ خيال جسده إلى النسيان الأعظم – أي الموت لديهم – لا ينامون، يتشائمون من ذكر الأعمار. يخطفون الأقزام في كمائن تطول لأيام تحت الرمل. ويهاب الجن من الماء، البلل عندهم شبيه بالكوابيس، الجن لا يلمسون الماء.

يرتعدون إنْ تخيَّلوا أنفسهم مبتلّيْنَ. لا يملكون فكرة عن زمن نشأتهم، تحصل محاورة عن ذلك بين شاعر مجمع الذباب داميكو وكبير المنجمين خاميدس ويقولون: «كيف ابتدأ زمن الجن؟»، تساءل داميكو، فردَّ خاميدس: «كلُّ جنيٍ زمنُ نفسه. يبدأ زمنه وينتهي فيه»«ما زمن الكائنات الأُخَر؟»، تساءل داميكو، فردَّ خاميدس: «زمنها مهشَّم». يتقدم ويتراجع متردداً في حسم حدوده. «لا أفهم ما تقول، يا خاميدس، لكنني أخمّن أن زمن الكائنات الأُخر هو خدعة»، قال داميكو. حوار بسيط بين اثنين من الجن لخص فيه سليم إن الحياة الحقيقية هي العدم، والحياة هذه ليست إلا عابرة، غير ذلك منح عالم الجن زمناً غير معروف.

في الأقاليم سوق «كاتراميل» للمقايضات، تلتقي القبائل فيه بحذر ودون صوت وبلا أسلحة لتقايض العظام؛ كل شيء ينجز فيها بإشارات خرساء. يدعوه سوق الصمت المقدس، لا ينتقم منتقم لنفسه هناك إن صادف غريماً خصماً. لديهم عيد خاص، ذو طقوسٍ غريبة يصطحبون فيها أفضل ما تم ادخروه من الجماجم؛ لا ينامون لكن لديهم طريقة للحلم، وهي إلصاق أعينهم بجدران المعبد، إلى أن ينهاروا حالما يستنفدون ما تفكروا فيه، أو ينطرحون صرعى من الإعياء.

لديهم عيد العاصفة الزرقاء عيد بلا احتفال، مناسك القيام به عيد تخصُّ أطفال الجن الإناث. منح سليم عالم الجن عالماً غريباً كما لو إنه عاش ذاك العالم، يتحدث عن تفاصيل ذاك العالم الخفي بصورةٍ غريبة ورهيبة، يذكر أدق التفاصيل عن حياتهم، من طعام وشراب وأعياد وعادات وتقاليد، والذي لفت إنتباهي أيضاً طريقة عقاب الخيانة الزوجية، وهي أن يُجرح جزءاً صغيراً من جلد كتف الجاني، أو الجانية، توضع ذبابة في الجرح، و يُخاط الجرح بشعرة من رأس الجرّاح نفسه. تبقى الذبابة أربعين يوماً داخل الجرح، مما يحدث حِكَاك مزعج، وقح طوال الوقت كما يصفها سليم. وبعد أربعين يوماً يُعاد فتق الجرح لإخراج الذبابة منها، ويُختتم القصاص. يذبحون الذئاب في احتفالاتهم التي تقام خارج الأعياد بطريقة وحشية، بجذبها من قدميه وذراعيه، حتى يتشقق الجلد، ويغطى دم الذئب بالرمل لكرههم بلل الماء أو بلل الدم كما ذكرت سابقاً. سلطان زينافيري«كَاشَجُو» لا يملك أذنين، بل يسمع الأصوات بلسانه، استعاض السمع بلسانه يتذوق نِثار الأصوات توابل مترجمة إلى كلمات في صمت وجوده الأخرس، لكنه ثرثار إن نطق. هكذا يصف سليم سلطان الإقليم.

يلبس الجن جلوداً من أجسام أحد أقاربهم الموتى، أخت أم أب أخ جد جدة. ولكل جني مطية يركبها.

يبدأ الرواية ببوق يعلن النفير في إقليم «زِيْنَافِيْري»، أرض وقائع الرواية، بوق معلق على غصن شجرة مصنوعة من العظام، ولُحِمت بقطع من الجلد المستطيل، منصوبة في جهة الشرق من بوابة المعبد الكبير وسط مساكن القبيلة؛ إله القبيلة يدعى كُوْياسي، هو هيكل ضخم من مجموع عظام المخلوقات شتى، جن وحيوانات وطيور؛ يتغير شكله باستمرار زيادة أو نقصان، كلما يأتي حكيم أو قائد أو مُنجم يضيف إلى شكل الإله شيء أو ينقص منه شيء. يعبر من الهيكل شعاعات الشمس من خلال الفراغات على ساحة المعبد.

بنصف من الجن ونصفٍ من جراد يقود سليم روايته هذه إلى الصفحة السابعة والسبعين، حين يقتحم العنصر البشري الأحداث عبر طفلة إنسية وجدها المحاربون على تخوم الإقليم، تطلق عليها نِيْنْسُو مطية شيْكْتَان زوجة السلطان اسم هَايكاهيكسِيْن. يقول عنها كاشاجو سلطان الإقليم بأنها خدعة، يتساءل ماياكي عميد المحاربين إن كانت خدعة من مِيْهُو سلطان إقليم سَايْنون الجنوبي، بعد أن احتشد محاربو إقليم زينافيري على حدود الإقليم ظناً منهم إن أقاليم الجن ساينون ويَتْرَاكْ يريدون خوض حرباً مع إقليم زينافيري، لكنهم أنكروا إنهم جاءوا للحرب، حاول السلطان كاشاجو جرهم إلى القتال، لكنهم رفضوا؛ في نهاية الجدال وقبل ظهور الكائن البشري، يحصل جدال بين كاشاجو وماياكي عميد المحاربين في الإقليم مع الأنثى التريكة شاتار التي تتزعم فصيل الإناث التَّريكات، اللواتي لا يتخذهم الذكور شريكات، يكون محور الجدال إن شاتار تريد أن يسمح لهن بالتزاوج عن طريق وضع الذباب بين يدين الأنثى فقط ثمانين يوماً لوضعها في ثقب الكرة الحجر بعدها، بدلاً من وضعها أربعين يوماً في يد الأنثى وأربعين يوماً في يد الذكر قبل وضعها في ثقب الكرة الحجرية ثمانين يوماً أيضاً كي تتم الولادة؛ تتم عملية التلقيح بين الجن عن طريق وضع ذبابة في ثقب كرة حجرية تمنح للزوجين حين يختارون شريكهم، ويتم اختيار الذبابة من الشعراء في مجمع الذباب بعد درس عن سيرة سلالتيهما، وطباعيهما؛ وقبل وضع الذبابة في الثقب، تحتفظ الأنثى بها أربعين يوماً من أيام الجن في راحة يدها اليسرى، ثم تُنقل الذبابة إلى راحة الذكر يُطبق عليها أربعين يوماً أيضاً؛ بعدها توضع الذبابة في الثقب ثمانين يوماً، بعد الثمانين يوماً تنشقّ الكرة عن وليد كخادرة الفراشة. وربما لا تتم عن عملية الولادة من عجز الكرة عن الإيفاء بوعدها وعد الحاضنة. ومن علامات الإخفاق في المنشأ. ينتفض السلطان غضباً من كلام الأنثى التريكة شاتار كما لو إنها تهدد خلود الجن وعاداته وتقاليده في التكاثر، وينتهي الجدال بظهور الكائن البشري هَايكاهيكسِيْن.

يرتعد الجن من قرود براري هْيهْمُو، يزعمون أن القرود هذه تلتهم الجن أحياء وموتى. إنهم جن الجان.

إنها رواية ثورة الجن في إقليم زِيْنَافِيْري، يبدأ سليم بحبكة بداية الثورة وسقوط الإقليم في المنتصف تقريباً، حين تقتل زوجة السلطان الأولىشيكتان الزوجة الثانية، يدخل السلطان كاشاجو في عزلة حزناً على زوجته، تنتهي عزلته بموته على يد زوجته الأولى أيضاً، محاولةً منها أن تستلم العرش، لكنها تُقتل على يد أبنها الوحيد ريكما بعد أن حاولت فرض شروطٍ غير اعتيادية في قانون الإقليم ليرث العرش كما هو متعارف، يموت ريكما بعد إن يخل في اتفاقه مع أسياد الإقليم في وعده بمشاركتهم السلطة لفترة معينة، ينتهي الجدال بقتله.

عالم الجن هو عالم غيبي، لا نراه ولا نسمعه، رغم إنه عالم غيبي لكن ظهر الكثير على مر العصور بالتكلم عنهم وعن أشكالهم، وأتفق الجميع على وجود الذكر والأنثى بينهم، واختلفت الأساطير من شخص إلى آخر عن حياتهم وأعمالهم؛ مرة أخرى يجسد سليم رواية في عالمٍ غير مرئي، بصورة دقيقة جداً؛ لم يكتف سليم بخلق أسماءً تناسب هذا العالم بشكلٍ يليق بها، بل أضاف لها كالعادة وصفاً دقيقاً لكل شخصية، أعطى لكل واحدة منها ميزة غريبة تناسب ذاك العالم الغيبي الذي نسمع عنه في الأساطير.

وكغير عادته هذه المرة ألغى سليم الشمال من روايته، إذ قسّمَ الكون إلى زوايا ثلاث، الشرق الغرب الجنوب.

ذكرتني الرواية بمقولة المخرج الأميركي دافيد فينشر «لدي شياطين لا يمكنك حتى تخيلها». أي مخيلة هذه التي نسجت رواية عن عالمٍ مواز لعالمنا، بذكره لأدق التفاصيل التي يعجز المرء عن ذكر تفاصيل واقعية بهذه الدقة؟ أي مخيلة هذه التي أعطاها لكل فرد من أفراد الأقاليم الشكل والحجم والصوت واللون والأماكن والتفاصيل التي تنقل القارئ إلى ذاك العالم بصورة دقيقة؟

وكما يقول الكاتب الإسرائيلي بينّي هن: «هل تعلم أن كل شخص غير مؤمن مليء بروح شيطانية؟».

وبما إن سليم اعترف بلسانه إنه غير مؤمن، فمن المؤكد إنه ممتلئ بالشياطين في داخله حتى استطاعت مخيلته الشيطانية أن تنسج رواية من 498 صفحة تتكلم عن عالم الجن في هذه الرواية. إذ أن سليم لم يكتفي بملء الرواية بالأحداث والرموز، بل أضاف كعادته تفاصيل تناسب مخيلته الشيطانية، تدخل القارئ مرغماً عالم الشياطين وإن لم يكن مؤمناً بوجودها. هي غرق في عادات وتقاليد الجن وتناسل الجن، مما جعلني في حيرةٍ من أمري بماذا أصف هذه المخيلة التي طرقت أبواب عالم الغيب بهذا الشكل؟ لم تكن غايته في الرواية إنتاج عمل أدبي أنيق فقط، بل أدخل عناصر عدة في الرواية تنقل القارئ إلى ذاك العالم بطريقةٍ ذكية.

كما لو إنه يتحدى خياله بأنه قادر على قلب كل الموازيين والعادات والتقاليد والخرافات وتأليف عالم بالشكل الذي يناسب ذاك العالم الذي تكلموا عنه في الكتب والأساطير. رواية لا تخلو من العناد في البدايات، والمخاتلة، تمتع القارئ بشكل كبير؛ كما لو إنه ينصب شباك فخاخه رويداً رويداً بطريقة غريبة ومخادعة، ليصطاد القارئ في عقر ذاك المكان في إقليم زينافيري. جن لديهم صراعات آدمية، بألوان وأشكال مختلفة؛ ولديهم عادات وتقاليد مقدسة، لا يجوز الحياد عنها. مع وجود معارضين للسلطان يقومون بأعمال تخريبية في الإقليم، تمرد، مغامرات، خداع، غدر، حسد، كل التفاصيل التي تحدث بين البشر وضعها سليم في روايته بطريقة تناسب ذاك العالم. هي الرواية الثانية والعشرون في مسيرة سليم الروائي.

ترجمها إلى اللغة الكُردية/ السورانية زاموا محمد، وصدرت عن دار سردم للشاعر الراحل شيركو بيْكس.


يذيل سليم الراوية على الغلاف الخلفي ويقول: هم ساكنو الخرائب والمهجورات، ويسمّونهم «العُمّار» إن كانوا كالبشر من ساكني المنازل التي لا تحفظ الأساطير هندستها. ولهم لقب «الخافياء» المستترين عن الأبصار، يزاحمون الإنسان في الحّيز المحجوب من الوجود. لكنّهم يظهرون له عياناً، في أحوال، أشراراً حذّاقًا في الأخاديع القاتلة، أو المقضبة إلى الجنون؛ ويظهرون له، في أحوال، أخياراً يدلّونه على الكنوز، ويروّضون له السحر في تحقيق الأماني. لا تخلو أساطير الأمم وخرافاتهم من الجنّ بترتيب الخيال للضرورات اللازمة في بناء النقائض، والمتعارضات، وتطبيقات الثنائية اللانهائية من أمثلة الظلام والنور، والخير والشرّ، والظاهر والباطن، كمخارج للأقدار من مغاليقها، والتنبيه إلى أبوابها المفتوحة والموصدة.

 إرث هائل من الأقاصيص. لكنّها أقاصيص لم تبلغ، في أيّ معتقد، مبلغ البناء مطوّلاً في شؤون هذه المخلوقات: هم نتف، مجزوءات في سياق اعتماد الخرافة على تقريب ما لا يُعقَل، أو تأويل المستغلَق، أو التخمين في أحوال المجهول الملِغز.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية