جيفري ت. نيلين ([2]) ترجمة: خالد حسين 

وفي الحقيقةِ، أقرَّ دريدا بأنه قد كان بدايةً مهتماً بالأدب أكثرَ منه بالفلسفةِ حين كان شاباً. كما يعترفُ دريدا في مرافعتِهِ عن أُطروحتِهِ، وذلك بالعودةِ إلى 1980:" اهتمامي المستمر، يأتي حتى قُبيل اهتمامي الفلسفيِّ، إذ ينبغي أن أقول، إنْ أمكنَ ذلك، كان (اهتمامي) موجَّهاً نحو الأدب"([4]). وفي الواقع؛ كتبَ دريدا بغزارةٍ عن الأدبِ عبر حياتهِ المهنيةِ، وقد جرى استقبالُ عملِهِ في الأكاديميةِ الناطقةِ بالانكليزيةِ بوصفه صنفاً من النقد الأدبي، وذلك قبل (أو على الأقل بالإضافةِ إلى) الهُويّةِ الصارمةِ للتفكيكِ كخطابٍ فلسفيٍّ. إنَّ المناصبَ الدائمة التي شغلها دريدا في جامعتي ييل (Yale) وإيرفين (Irvine) وجامعة نيويورك(NYU) كانت كائنة في أقسام الأدب، وليس أقسام الفلسفة. إنَّ جُلَّ اشتغالِهِ على الأدبِ كان يَسْتَهْدِفُ إلى اسْتِشْكالِ الإدعاءاتِ الكُلّيّةِ للخِطابِ الفلسفيِّ؛ من حيثُ عدمُ قدرتِهِ أو رغبتِهِ للتعاملِ مع صنفٍ محددٍّ من ممارسةِ كتابةٍ متطرفةٍ التي يُمكنُ أنْ تُوسمَ اقتصادياً بأنها "أدبية". أو كما صاغَ دريدا في مقابلة 1983، ذلك بالقول: "ميلي (الأول) لم يكنْ حقّاً نحو الفلسفةِ، لكن بالأَحْرَى صوبَ الأدب أو اللا ــ أدب، صوبَ شيءٍ ما؛ يمُكنُ للأدبِ أن يستوعِبَهُ بسهولةٍ أكبر من الفلسفة"([5]). هذا التوتُّر بينَ الفلسفةِ والأدبِ قد تجلّى في الأعمالِ المبكّرةِ لدريدا وأعمالِ المرحلةِ المتوسطةِ من حياتِهِ المهنيةِ، ولكن ربما لم يكنْ (هذا التجلّي) في أيّ حيّزٍ أشدَّ كثافةً مما هو عليه في كتابِ نواقيس(Glas) لعام 1974، وهو العملُ المؤلَّفُ من عمودين، إذ يتواجَهُ فيه تحديداً وإلى حدِّ بعيدٍ الخطابُ الفلسفيُّ الرَّصينُ لهيغل مع الإنتاج الأدبيِّ المتطرفِ لجان جينيه. حيثُ في أحدِ أعمدةِ النَّصِّ نقرأُ حول الاهتمامِ المتواصلِ لهيغلِ بالدِّين والعائلةِ وديالكتيكِ هيغل الملائمِ كساهرٍ على المساراتِ الإنتاجيةِ للرّغبةِ وتعليمِ الرُّوح، وكذلك إدماجُ (الآخرية(المختلف) وجعلُهُ في مقامِ الإفادة. وفي ثاني العمودين يُقابلُ دريدا هذا الخطاب الفلسفيّ بامتياز، أيْ خطاب هيغل، بالتبني الشَّاذّ(الغريب) لجينيه لمفهوم الانتهاكِ ــ مع التأكيدِ الخالصِ لجينيه وإنفاقِهِ غير اللائق بكلِّ مظاهر هذا الانتهاك([6]) . ومع هذا النَّسقِ المكوَّنِ من عمودين للنص، يطرحُ مؤلَّف دريدا (Glas) تماماً وعلى نحو حرفيٍّ السؤال الآتي: بالنَّظر إلى أنَّ الفلسفةَ الديالكتيكية تسعى إلى اشتمالِ كلِّ شيء واستيعابِهِ، وذلك لجمعِ ما تبقَّى وجعلهِ مثمراً، ماذا يمكنُ لهذا المشروعِ الشَّاملِ أنْ يقولَ عن خطابِ جينيه المتّسمِ بالانفاقِ المرح دون مقابل؟

أين تتلاءمُ اللغاتُ الغنائيةُ والرَّغباتُ الشاذّةُ لجينيه داخلَ عالمِ الرُّوح المطلق(هيغل)؟ وبإيجازٍ، فإنَّ مؤلّف دريدا (Glas) يُمَسْرِحُ لنا مواجهةً بين الفلسفةِ والأدبِ.

وبناءً على ذلك؛ فربما سَيُسْمَحُ للعديدِ من الفلاسفةِ أن يشاركوا اعتراضاتِ هابرماس على الفلسفةِ التفكيكيةِ. وفي كتابه " الخطاب الفلسفي للحداثة"، يرى هابرماس(1987) بأنَّ عمل دريدا يتكوَّن من سلسلةٍ طويلةٍ من المحاولاتِ لاختزالِ الفلسفةِ إلى الأدب، أو على الأقل أنَّه يُعالجُ النُّصوصَ الفلسفيةَ بطريقةٍ أدبية "صرفة"ـــ مع التركيز المكثّف على أساليبها، استعاراتها واستعمال اللغة أكثر من "المحتوى" الجدالي([7]). في الواقع، فهذا الاقتراح (من حيثُ إنَّ الفلسفةَ بأكملها وَفْقاً لدريدا "أدبيةٌ" بطريقةٍ ما ــ مجازيةٌ، انزياحيةٌ، مرتبطةٌ باللغةِ وانزياحها المتأصل) هو الذي قادَ العديدَ من الفلاسفةِ إلى القبولِ بأنَّهم في عَالمِ التَّفكيكِ، فليسَ ثمّة شيءٌ سوى الأدب: بسبب أنَّ الانزياحَ وعدم التَّحديدِ ينتشران في كلّ مكانٍ، والأدبُ هو الاسمُ اللائقُ لهذهِ القدرةِ على اللاــ حسم undecidability، وعندئذٍ فكلُّ شيءٍ بمنزلةِ الأدبِ ضمن مشروعِ التفكيكِ وممارستِهِ. وهذه، على الأقلّ، هي طريقةٌ شائعةٌ لإدراكِ بيان دريدا سيِّىءِ السُّمعةِ في كتابهِ (علم الكتابة/Of Grammatology)، "لاشيءَ خارج النص"([8]). وفي المقابلِ، فإنّهُ من المألوفِ أنْ نقترحَ بأنَّ التفكيك لايؤدّي شيئاً سوى إعادةِ الصِّراع على نحوٍ أبديِّ بين اللغتين المجازية والحرفيّةِ، أيْ بين الأدبِ والفلسفةِ. والاختلافُ الرئيسيُّ، بالتأكيد، يتمثّلُ بأنَّ التفكيكَ حينَ يَحْكُمُ المباراة؛ فإنَّ الشُّعراءَ يفوزونَ كلّ مرّةٍ.

ومع ذلكَ، فإنَّ دريدا يَعْتَرِضُ وبشدّةٍ على هذا التّوصيفِ لِعَمَلِهِ بوصفهِ امتيازاً للأدبِ على الفلسفةِ، أو (حتى بتوصيفٍ أسوأ) عبر اختزالِ الفلسفةِ إلى برهنةٍ لانهائيةٍ من عدمِ التَّحديد. ودريدا يتناول المسألةَ بشكل استثنائيّ مع انتقاداتِ هابرماس للتفكيك في "الخطاب الفلسفي للحداثة":

على الرُّغم من أنني لم أُذْكَرْ مرةً واحدةً، وكذلك لم يُشَرْ إلى أيِّ نصٍّ من نصوصي بوصفهِ مرجعاً في فصلٍ مكوّنٍ من خمسٍ وعشرينَ (25) صفحةً، الذي يُزْعَمُ أنَّه يشكّل انتقاداً طويلاً لعملي، إذ يمكن لهذه العبارات أن تتالى: "دريدا مهتمٌ بالصدارةِ الثابتةِ للمنطق على البلاغةِ، المطوّبُ منذ أرسطو، على رأسه. ...التفكيكيُّ يمكنُ أنْ يَتَعَامَلَ مع الأعمالِ الفلسفيةِ بوصفها أعمالاً أدبيةً. في عمله التفكيكي لايتقدّمُ دريدا في التحليل(تحليلياً)... بدلاً من ذلك، فهو يتقدّم عبر نقد الأُسلوب"

ذلك زيفٌ، أقول إنه زائفٌ بوصفه مناقضاً للحقيقة([9]).

وبطريقةٍ مماثلةٍ، وحتّى كتوبيخٍ حادٍّ للتأويل الشائع الذي يُشيرُ إلى أنه يرى الأدبَ في كلِّ مكانٍ وطيلة الوقت، لكنه في الواقع يقولُ بحدّةٍ عكسَ ذلك تماماً: " ليس ثمّة(أدب) ــ أو من النادر أيّ شيءٍ، على الدوام قليلٌ جداً ـــ الأدب" ([10]). وهكذا ربما في هذه النقطةِ نحتاجُ إلى ملاحقةِ الممارسةِ التفكيكيةِ لدريدا ونستعيدُ ماهيةَ الأدبِ ــ كيفَ يؤدّ ي دَوْرَهُ ــ في عملِ دريدا. وعلى أملٍ أنَّ هذا سوف يُعيننا لإدراك كيف ذلك، بعيداً عن كونه (أي الأدب) "كلَّ شيءٍ" أو "في كلّ مكانٍ" في عمله، فالأدب وَفْقَ دريدا هو نادرٌ جداً في الواقع.

أولاً؛ نحن نحتاجُ إلى استدعاءِ مفهومِ الأدبِ عندَ العَمَلِ في نصوصِ دريدا. وخلافاً للإدراك المانوي([11]) للأدب؛ فإنَّ العديد من القُرّاء يواصلون قراءةَ التفكيكِ لـ(الأدبِ بوصفه الحدَّ النقيضَ العابرَ للتاريخ و"الآخر" بمواجهة الرُّؤى الحرفيةِ للفلسفةِ ـــ الأدبُ بكونه اسماً لأيٍّ استعمالٍ للغةِ، مجازيٍّ، سامٍ وغير قابلٍ للتحديد. ودريدا لديه نسخةٌ محددة تاريخياً وبالغة الدقة للمفهوم. فحينما سأله ديريد أتريدج Derek Attridge عمَّ يقصده بمفهوم الأدب، أو عمَّا يعنيه له الأدبُ؛ ليكون مُسْتَثْمِراً في الأدب حين كان شاباً، أجاب دريدا: " ظهرَ لي الأدبُ، بطريقةٍ مضطربةٍ، ليكونَ المؤسسةَ التي تُتِيْحُ للمرءِ أنْ يقولَ أيَّ شيءٍ، وبكلّ طريقةٍ...مؤسسةُ الأدبِ في الغرب، في شكلِهَا الحديثِ نسبياً، ارتبطتْ بتفويضٍ لقولِ أيّ شيءٍ، ومن دونِ شكٍّ أيضاً بظهورِ الفكرةِ الحديثةِ للديمقراطية"([12]). ثمة أمران يمكنُ ملاحظتهما في المناقشةِ حولَ إحساسِ دريدا بالأدب: أولاً، أننا نرى الأدبَ تَبْعَاً لدريدا ليس ذاكَ "الآخر" المتحمّل لأذى الفلسفة (عدوه الأقدم، الأدب بوصفه الاسم اللائق لعدم القدرة على الحسم undecidability، ذاك الذي على الدوام، وفي كلِّ مكانٍ يطاردُ الإدعاءاتِ الشموليةِ للفلسفةِ).

وعلى نحوٍ مخالفٍ، فما يجذبُ دريدا إلى الأدبِ ليس تلاشيُّهُ(تآكلُهُ) وتمرّدُهُ على الأفلاطونيين، وإنما الطرائق التي يشتملُ بها الأدبُ على صيغتهِ البديلةِ منِ "الشُّموليةِ"، الأدبُ تبعاً لدريدا هو حرفياً وتحديداً ذاك الذي "يتيحُ للمرء أن يقول أيَّ شيءٍ وبكلِّ طريقة".

وثانياً؛ نلاحظُ هنا أنَّ مفهومَ الأدبِ لدى دريدا مفهومٌ غربيٌّ وحداثيُّ بوضوحٍ، إذ يرتبطُ بالنُّهوضِ السياسيِّ للديمقراطياتِ الأوروبية في القرن التَّاسع عشر. بل أبعدَ من ذلك، فالأدب يُشيرُ تماماً إلى إلى كتابةِ الطليعةِ الأوروبيةِ الغربيةِ في أسلوبٍ لجمالياتِ الحداثةِ العَاليةِ:" دعنا أن نوضّحَ هذا" ــ يردُّ دريدا على أتريدج بنوعٍ من الصَّراحةِ غيرَ المعهودةِ ــ :"ما ندعوهُ بالأدب (بالتأكيد ليس الأدبَ المحضَ أو الشِّعرَ) وإنما ما يقتضي الحريةَ (الترخيص حرفياً) المعطاة للكاتب أن يقولَ أيَّ شيءٍ يبتغيه أو كلَّ ما يستطيعُهُ، حيثُ البقاءُ مصانٌ، وفي مأمنٍ من الرقابةِ، سواء أكانت دينيةً أو سياسيةً"([13]) وعندما حاولنا توسيعَ إدراكه للأدبِ، فإنَّ دريدا يوضّح بالقول: " الاسمُ "أدب" اختراعٌ حديثٌ جدّاً. ... فلا الشَّعرُ الإغريقيُّ ـ اللاتيني، ولا ـــ الممارساتُ الخطابيةُ الأوروبيةُ، فيما أرى، تنتمي بالمعنى الدقيق للكلمةِ إلى الأدب. ويمكن للمرء أن يقولَ ذلك دونَ أن يقلّلَ من التقدير أو الإعجاب التي تستحقُّها هذه الأعمال"([14]). وهكذا فإنه يتّضحُ بأنَّ الأدب، وبعيداً عن كونه كلّ شيءٍ أو في كلِّ مكانٍ لدى دريدا، هو في الواقع محدّدٌ بشكلٍ خاصٍّ في أعماله لتوصيفِ مشروع ِالطليعةِ الأوروبيةِ الغربيةِ لجمالياتِ الكتابةِ الحداثيةِ على مدارِ مئةٍ وخمسينَ سنةٍ الماضية أو نحو ذلك، (وهو المشروع) الذي على نحوٍ مخصوصٍ يحاولُ أنْ "يقولَ كلَّ شيءٍ" في صيغةٍ تنافسُ الطموحَ الفلسفيَّ صوبَ الشّمُوليةِ، بدلاً من مجرّد تقويضٍ أو التخلّي عن ذلك. وفي هذه الانعطافةِ يمكننا، ربما، أَنْ ندركَ بشكلٍ أفضل افتتانَ دريدا بالكتُّاب المعاصرين ذوي الطُّموحِ الأُسلوبيِّ العظيم ــ هؤلاء الذين، بأساليبهم المتفرّدة، يَسْعَوْنَ إلى أنْ يقولوا "كلَّ شيءِ": جويس، جينيه، بونج، مارلاميه، كافكا وآرتو. حقاً، إن الأدبَ بهذا المعنى، بوصفه محاولةً أسلوبيةً/ اصطلاحيةً يقول كلَّ شيء، كما يشير دريدا هو السببُ أنَّهُ لم يستطعْ تَهْيئةَ نفسه للكتابةِ عن أعمالِ صموئيل بيكيت، لأنَّ إدراك دريدا للأدبِ بصفته استنزافاً فريداً ولكنه صوتٌ لاينضبُ، محاولاً أنْ يقولَ كلَّ شيءٍ يكونُ معروضاً بمزيدٍ من الكثافةِ في أعمالِ بيكيت. وكما يُفْصِحُ دريدا عن بيكيت، " وعلى وجه التحديد بسببٍ من هذا القُرب، فإنه عسيرٌ عليَّ، سهلٌ للغايةِ وصعبٌ أيضاً...كما لو قد قرأتُ بيكيت دائماً ومسبقاً وأدركته جيداً"([15]). ولو كانّ ثمّة شيءٌ ما من الطُّموح الأسلوبي والمفاهيمي لجويس أو جينيه ما يؤهله كأدبٍ بالمعنى الدريدي (أسلوبٌ فرديٌّ يجري استغلاله لمشروع قولِ كلِّ شيءٍ) فهذا بالمثل سوف يساعدُنا على إدراكِ كيف أو لماذا ثمة أدبٌ قليلٌ جداً: أولاً؛ فالحقلَ ذاته ضيئلٌ نسبياً ــ وعلى نحوٍ أساسيٍّ، الحداثة العليا لأوروبا الغربية، ثانياً؛ ومن داخل الحقلين الجمالي والتاريخي الضيقين نسبياً للممكنات، ينهجُ قلةٌ من الكتّاب ـ من ذوي القيمةِــ المطمحَ الوقورَ"قل أيّ شيءٍ" بالنظر إلى المعتمدِ المفضّل لجاك دريدا عن الأدب.

لذلك، فنحن هنا في وضعٍ يسمحُ لنا بالدوران حول اقتباس ٍ من جملةِ اقتباساتٍ دريدا التي بدأنا بها: "مطمحي "الأول" لم يكن حقاً نحو الفلسفة، ولكن بالأحرى صوب الأدب ــ أو لا ــ أدب، شيءٌ ما يستوعبُهُ الأدبُ بمرونةٍ أكثر من الفلسفة"([16]). وفي النهايةِ، إذن، ليسَ في الغالبِ أن الأدبَ يكمنُ في تعارضٍ ثنائيٍّ بسيطٍ للفلسفةِ في تفكير دريدا، لكنَّ الفلسفةَ والأدبَ مشروعانِ أو شَكْلاَنِ أدائيان يَصُوْغَانِ نوعينِ من العَلاقاتِ المميّزة تجاه الشُّمولية. ِفالأمر ليس، كما قد رأينا، أنَّ الأدبَ يتهيكل بكونه منفتحاً وغير محدّدٍ، بينما الفلسفة تتوقُ إلى شموليةِ العقلانيِّ. بيد أنَّ كّلاً من الفلسفة والأدب يَشْتَمِلُ على أسلوبهِ الخاصِّ للشموليةِ، فهما محاولتان مختلفتان لقولِ كلِّ شيءٍ. وما يفرّقهما لايكمنُ في طبيعتيهما، بل في طرائق أسلوبية وإنجازية حيث الأدبُ يستوعبُ بسهولةٍ أكبر من الفلسفةِ الإخفاقِ الضروريِّ لمشروعِ قولِ شيءٍ ـــ ولقيودِهِ الحتميّةِ، بالإضافةِ إلى قابليتهِ على الإنتاج.

والأدب لدى دريدا ــ أي أدب الطليعة الغربية في العَصْر الحَدَاثيّ ــ يكتسبُ شكلَهُ ومحتواهُ كليهما من ذاك النَّوعِ من الحيرةِ اللازبةِ. إنَّ الأدب، ومع بيكيت بوصفه نموذجَه الأشدَّ كثافةً، لم يتخلَّ عن الشَّكْلِ بكلِّ بساطةٍ، أو الإقلاع عن الرَّغبةِ في الاكتمال؛ لكنَّ الأدبَ وبشكلٍ لانهائيِّ يكيِّفُ ذاتَهُ مع واقعِ أنَّ الإمكانية الحقيقية لمشروعه "قُلْ كلّ شيءٍ" هو في الوقتِ ذَاتِهِ شرطُ استحالتِهِ: إذ إنَّ محاولةَ أنْ يقولَ كلَّ شيءٍ سوف تفشلُ لامَحَالة. وكما يصوغ بيكيت(الأدب) بطريقةٍ مكثّفةٍ: "I can’t go on. I’ll go on. لا يمكنني الاستمرار. سوف أستمر". ومن جهته، فإنَّ دريدا يكثِّفُ اللغْزَ الأدبيَّ بتوسعةٍ أطول قليلاً: "معظمُ تلكَ المُعْضِلَاتِ التي تُدعى تقليدياً "شكلية" هي ما تهمُّني على الأغلب. إذ، وإلى هذا الحدِّ، أَعِدُّ نفسيَ نوعاً من "الكاتب"، لكنني لَسْتُ راضياً، دعني أقولُ، عن الحدودِ بين الكتابتين الأدبية والفلسفية. لَسْتُ بكاتبٍ، لكنَّ الكتابةَ لديَّ هي الأداء الجوهريُّ أو الفِعْلُ. وكذلك لَسْتُ قادراً على الفصلِ بين التفكير والتعليم والكتابة. وهذه هي العلةُ لماذا اضطررتُ لمحاولةِ تحويلِ مفهومِ الكتابةِ وتوسيعهِ" ([17]).

وبكلماتٍ أُخر، ثمة إحساسٌ يرومُ من خلاله دريدا أن يعالجَ الأعمالَ الفلسفيةِ بطريقةٍ "أدبيةٍ" بيدَ أنَّ ذلك؛ ليقولَ إنَّه منجذبٌ إلى تلك اللحظاتِ من القلق واللغز/والشَّك aporia([18]) واللايقين في نصِّ الفلسفةِ الغربيةِ: حيثُ النُّصوصُ في التقليدِ الفلسفيِّ وبطريقة أُخرى تَرْتَدُّ على ذواتها، في تلكَ اللحظاتِ التي تُكيّفُ ذواتها أو تتفقُ مع صنفٍ محددٍ من الإمكانية حيثُ(المشروعُ المحُاسِبُ لكلِّ شيءٍ)،الذي يَعْرِضُ ذاتَهُ بوصفته استحالةً. إنَّ الأدبَ ــ لو ثمة شيءٌ كهذا (مثلما دريدا مُغرَمٌ بقوله) ـــ فهو الاسم اللائقُ لـهذه الـ(لا)ـــإمكانية (im)possibility الشمولية التي جرى صياغتها كطريقةٍ للكتابةِ: الأدبُ ينطوي على أسلوبٍ متفردٍ أو شكلٍ من التُّشارُكِ (مختلف طيلة الوقت)، وهو نادرٌ في طاقتهِ، ليمضي قُدُماً في مشروع قولِ كلِّ شيءٍ، مع الاعترافِ في الوقت ذاته بحدوده الخاصّة.


الفصل السادس عشر بعنوان الأدب ضمن كتاب:

([1]) – (acques Derrida Key Concepts) Edited by Claire Colebrook, Routledge, first published 2015.


([2]) ـــ جيفري تي نيلين: أستاذ أبحاث الفنون الحرة في اللغة الإنجليزية والفلسفة بجامعة ولاية بنسلفانيا. أحدث كتبه هي فوكو وما بعده: القوة وحدتها منذ 1984 (2008) وما بعد الحداثة: المنطق الثقافي للرأسمالية في الوقت المناسب (2012).

([3]) ـــ في الكتاب العاشر (المحاكاة في الشعر والفن) من جمهوريته يشنُّ أفلاطون موقفاً حاداً على الشعر والشعراء: " فاستطردتُ قائلاً: إنّ في دولتنا سمات متعددة، تجعلني أعدّها قائمة على مبادئ سليمة تماماً لاسيما تلك القاعدة الخاصة بالشعر.

ـــ أية قاعدة؟

ــ تلك التي تنصُّ على حظر الشعر القائم على المحاكاة ...إلخ"، ص 504: جمهورية أفلاطون: دراسة وترجمة: د. فؤاد زكريا، الإسكندرية: دار الوفاء، د. ط، 2004. وهذا الموقف لا يختلف كثيراً عن حال الشعراء في النص القرآني: "وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ[الشعراء:224-226]"

([4]) - Derrida, J. 1983b. “The Time of A Thesis: Punctuations”, Philosophy in France Today, A. Montefiore (ed.) Cambridge: Cambridge University Press. p: 37.

([5])-- Derrida, J. 1988 c. “An Interview with Derrida.” Derrida and Différance. D. Wood and R. Bernasconi (eds). Evanston: Northwestern University Press, 71–82.

([6]) ــ لايخفى على القارىء أن الكاتب يلمح إلى ملاحظات دريدا الخاصة بالخطاب الأدبي لجان جينيه حيث اللعب والانزياح والانحراف في فضاء اللغة.

([7]) -- Habermas, J. 1987. The Philosophical Discourse of Modernity: Twelve Lectures. F. Lawrence (trans.) Cambridge, MA: MIT Press.

([8]) ــ الكثير من الباحثين يدركون هذه العبارة دون انتباه إلى أن مفهوم "النص" لدى دريدا مختلف ومغاير عن المعنى التقليدي للنص، حيث يمتد النص ليشمل العالم كله. ينظر هاشم صالح: التأويل/ التفكيك: مدحل ولقاء مع جاك دريدا، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، ع (58)، تموز/ أب 1988، ص 111.

([9])-- Derrida, J. 1988a. Limited Inc, G. Graff (ed.) S. Weber (trans.). Evanston: Northwestern University Press. P: 156–57

([10]) -- Derrida, J . 1981. Dissemination. B. Johnson (trans.). Chicago: University of Chicago Press. p : 223

([11]) ــ المانوية نسبة إلى ماني (المولود في عام 216 م في بابل )المانوية من العقائد الثنوية أي تقوم على معتقد أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلمة. ينظر بتفصيل أكثر: إدوارد براون: تاريخ الأدب الإيراني، ج1(البابان الأول والثاني)، أحمد كمال الدين حلمي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة)، ط1، 2004، القسم الثاني من الباب الثاني بعنوان ماني والمانوية.

([12]) — Derrida, J .1992c. Acts of Literature. D. Attridge (ed.) New York: Routledge. P: 37

([13]) — Derrida, J .1992c. Acts of Literature. D. Attridge (ed.) New York: Routledge. P: 37

([14]) — Derrida, J .1992c. Acts of Literature. D. Attridge (ed.) New York: Routledge. P: 40


([15]) — Derrida, J .1992c. Acts of Literature. D. Attridge (ed.) New York: Routledge.p: 60–61

([16])-- Derrida, J. 1988c. “An Interview with Derrida.” Derrida and Différance. D. Wood and R. Bernasconi (eds). Evanston: Northwestern University Press, 71–82.

([17]) --- Derrida, J. 1990. “Jacques Derrida on Rhetoric and Composition: A Conversation.” With G. A. Olson. Journal of Advanced Composition 10.1 (1990), 1–21.p: 4

([18]) ـــ aporia في (اليونانية القديمة: ᾰ̓πορῐ́ᾱ، اللاتينية: aporíā) وتعني في الفلسفة كمصطلحٍ (الطريق المسدود، صعوبة المرور، افتقاد للموارد، الحيرة، اللغز) وتفيد معنى الشك في البلاغة. والمصطلح استخدمه دريدا للإشارة إلى الحيرة والقلق واللايقين.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية