هجرَ القامشلي منذُ خمسين عاماً، لكنّ ذاكرته أبت أن تتأقلم في مكانٍ آخر خلال تلك الأعوام الطويلة، بقيت هناك، في ذلك المكان الذي تعرّف فيه على لغته، سكاكينه، أدوات صيد الطيور والأحياء التي مارس فيها تهوّرات الشباب وطيش الأطفال، في المكان الذي تعلّم فيه متعة التبغ والسينما. هجر سليمو القامشلي في بداية شبابه، لكنّه وضعها في معظم أعماله، مدحها كما لو أنّها عروس الشمال الأبديّة. هجر التبغ منذُ أربعين عاماً تقريباً، لكنّ رائحة تبغه الذي يحبّ في معظم أعماله، إذ نجده يقول في مكانٍ ما: "التبغ تبغ، يهبُ الرئاتِ خَدَرَ العافية الروحية باحتراقه. والرئاتُ، في الشمال السوري، تفضّل نقاء دخان التبغ صفيقاً أو رقيقاً، على نقاء الهواء بخس الثمن، بل الذي بلا ثمن إلّا ما تدفعه أرواحُ المقيمين لقاءَ تبعات الوجود في شمالٍ معتصَرِ الأحشاء بقوانين استملاك الدولة للأرواح". يرافقه دائماً الشمال السوري، التبغ، أفلام السينما، السكاكين وأدوات صيد الطيور التي يصطادها انتقاماً منها لأنّها رفضت أن تحاوره في أغلب أعماله، ولا ينسى الدجاج، كما لو أنّه استطاع محاورة الدجاج؛ فلم ينتقم منه في اصطيادٍ غير مشروع كما كان يفعل مع الطيور.

سيملأ الشخصَ العاديّ شعورٌ بغموض بركات، إن لم يستطع الإبحار في ثنايا أعماله ودراسة ملامحه بشكلٍ جيّد في المقابلتين الوحيدتين اللتين عرضتا على محطّتي "الجزيرة" و"كوردسات". إذ إنّ بركات يتمتّع بحسٍ مرهف وأنيق، يرمي بعباءته النحوية فوق المفردات، ليمنحها دفئاً خاصّاً يحمل رائحته. لا ينتمي إلى مدرسة في عالم الأدب، فقد أسّس مدرسته الخاصة في كتبٍ مزج فيها التراث والحضارة والثقافة بمعجمٍ خاص من مفردات اللغة نفسها التي يكتب بها، لكنّها مصبوغة بصبغةٍ دعونا نقول إنّها (صبغة سليم السحريّة)، يشبه الفنّان الذي يخلق لوناً غير الألوان التي نعرفها ويبدأ برسم لوحاته مصبوغةٍ بذلك اللون، واثقاً أنّ لا أحد يستطيع إدراك اللون غيره. وكما ذكر سليم في مقابلتيه فإنّه يرسم بين نهاية عمل وبداية آخر، فبلا شك، إنّ هذا الرجل اخترع طريقةً لن يستطيع أيّ شخص أن يدرك سحرها، وهي طريقة مزج الألوان بالمفردات، إذ إنّه لا يرسم مثل أيّ رسّام، ولا يكتب مثل أيّ كاتب، بل يمزجهما ليكوّن لنفسه صبغةً ساحرة ينثرها على فراغ الورق، ليُنتِجَ منها لوحةً أدبيّة تُخلَّد دائماً وأبداً في ذاكرة كلّ مَن يمرّ بها.

من السذاجة والسطحيّة أن يأتي أحد ويقول إنّ أعماله كلها متشابهة وليست إلّا إبراز عضلاته اللغويّة، إذ إنّ الاختلاف واضح في مجمل أعماله التي لا تحمل صيغةً واحدة. يدرك ذلك مَن قرأ "فقهاء الظلام" الرواية التي تعالج علاقة الإنسان بتاريخ وطنه وعائلته، في خطَّين سرديَّين بين تكوّن الجنين في الرحم وحياة عائلة الجنين ومجتمعه، العمل الذي يجعلك تشعر بنفسك كما لو أنّك ابن القامشلي حتى لو لم تزر تلك المدينة؛ العمل الذي كان من الممكن أن يصبح عملاً سينمائيّاً لو أنّ المخرج "محمد ملص" استمرّ في عرضه كما قال بركات في حواره مع الشاعر وليد هرمز، لكن ربّما توقف عن ذلك لعدم قدرته على إيجاد شركة تنتج العمل، أو ربّما لأسبابٍ سياسيّة لأنّه في خانة المعارضة وتمّ تضييق الخناق عليه من قِبَل النظام، إذ إنّه لم يجد أيّ مدحٍ من إعلام النظام، فقام فرانسوا ربال، رئيس تحرير مجلة "القنطرة" التي تصدر بالفرنسيّة، بترجمة الرواية إلى الفرنسيّة، ولاقت صدى جميلاً في الوسط الأدبيّ في فرنسا حينها. ومن الأعمال التي جعلتني أتنفّسُ بعمق بين سطورها (السماء شاغرة فوق أورشليم) التي تتكلّم عن حروب الصليبين؛ أدخل بركات اثنين وستين شخصاً في الرواية، سردَ فيها أحداث الحرب التي أقامها صلاح الدين الأيوبي مع الصليبيّين في بيت المقدس، عن لسان الشخصيات التي أعطاها أدواراً جميلة تسحر القارئ وتأخذه إلى الماضي البعيد كما لو أنّه عاش الحرب بجسده وروحه. سرد بركات التفاصيل في الرواية بطريقةٍ تقطع الأنفاس، سمّى الأشياء بأسمائها، وحاك من نسج خياله رواية تاريخية تتأبط القوة بثقة كاملة. ذكر أعداد المقاتلين ومهامهم بدقة، والجياد والخوذ التي وُزِّعت عليهم، وحكى عن كيفية ترتيبهم وتوزيعهم؛ صوَّر بركات وقائع الرواية بشكلٍ سينمائيّ كما لو أنّه نقل الأحداث التي حصلت في ذلك الزمن إلى الكتاب بصورٍ ملتقطة من عدسة عينه، رطنٌ هنا وهناك، استهزاء، خوف، شجاعة، الصفات كلها التي تبدو في وجوه المحاربين في الأفلام صوّرها بركات باحترافيّة ودقة عالية. ما أريد قوله هنا إنّ سليم بركات يتمتّع بطابع خاص متنوّع، فيه الكثير من المنعطفات التي تناسب جميع الطبقات والأزمنة والأمكنة، إنّه خالق المفردات بصورةٍ حسيّة كبيرة.

يقول الكاتب والمترجم الإسباني "خوان غويتيسولو" عن سليم بركات: "إنّ نثر سليم بركات -كما هو الحال عند الكولومبي "خوسيه ليزاما ليما"- يمثّل مزيجاً من الوهم والحقيقة وهبة لا تنقطع من الإبداعات والصور والاستعارات غير المتوقّعة، ويمثل هبة دائمة من الإبداعات المنعشة والصور المُلهِمة والاستعارات غير المتوقَّعة وشرارةً شعريةً وكلمات مُجنَّحة، يمثّل مزيجاً هائلاً من الحلم والحقيقة، من أسطورة وتاريخ مرير لا يخضع لقوانين الزمان أو المكان". ويضيف في مكان آخر: "حتى وإن لا يُصدَّق العديد ذلك: فإنَّ ثروة سليم بركات الإبداعية والإنشائية غير مستمَدّة من (فولكنر) ولا من (غارسيا ماركيز). في أعماله نجد طبقات غير متناهية من الأساطير والخرافات وذكريات المآسي الماضية والحاليّة، وتحت سطح ذلك كلّه يكمن تاريخ كئيب للمدينة التي ولد فيها". وفي الختام يقول خوان غويتيسولو أيضاً: "بالنسبة إلينا، نحن الذين نحب قراءة الروايات العظيمة جميعها مراراً وتكراراً، فإنَّ رواية "الريش" تمثّل وليمة حقيقيّة يمكن مقارنتها بنوع خاص من الكائنات المُهدَّدة بالانقراض".

يقول الشاعر السوري "أدونيس" عن سليم بركات: "هذا الشاب الكُردي يحمل مفاتيح اللغة في جيبه".

إذن فهو حامل مفاتيح اللغة، وسيّدها. إنّه صانع الكلمات وقائدها؛ يقود أسطول مفرداته بقارب خياله منتشلاً من بحر الأبجدية أحرفاً ينسجها بطريقته الخاصة، ليصنع منها بحراً خاصاً في عالم الأدب لا يستطيع الإبحارَ فيه أحدٌ غير ذلك الذي يحبّ الغرق معه؛ إنّه ليس بكاتبٍ عاديّ، فقد اختار أن يكون له مقام خاصّ في سلّم الأبجديّة العربيّة ليعزف بمفرداته لحناً لا مثيل له في عالم الأدب.

اختار أن يعيش في عزلةٍ عن البشر ويكمل حياته مع العصافير والأشجار والحجر، فهو سيد الكلمات، ومَن يفهمه غير الطبيعة في زمنٍ ممتلئ بالرداءة؟ لم تكن عزلته إلّا ليبدع أكثر في عالمه، ومن السذاجة أن ننعته بألقابٍ لا تليق به من أجل ذلك؛ فهو حرٌّ في اختياره، ومن المعيب جداً أن نتكلم عنها بسوء في قراره هذا. لا علاقة لأحدٍ بهذا لا من قريب ولا من بعيد ليأتي أحدهم ويقول: "لماذا هو منعزل؟"، هل ترغب في أن يأتي أحد ويقول لك: "لماذا تتصور كثيراً هنا وهناك وتحب الظهور دائماً؟"؛ إذن إنّها حريّة شخصيّة ولا يجب التدخل فيها.

في مقدمة كتاب المحاورة بين سليم بركات والشاعر وليد هرمز (لوعة كالرياضيّات وحنين كالهندسة)، كتبَ الباحث والكاتب "سامي داوود": "اتصل بي قبل أشهر قليلة مخرج أفلام وثائقية كي أكتب لفريق عمله سيناريو وئائقيّاً وسرديّاًـ حول حياة سليم بركات وتجربته الإبداعية، وقد كنت مكلَّفاً من قِبَلهم بالتواصل مع سليم. لم أتأخر في إرسال ما كتبه لي سليم بخط اليد، من اعتذار شديد اللطف متعلِّق برهبة الكاميرا، فـ(سليم) يعيش التداعيات التي أفرزتها الحداثة. ما زال المكان بالنسبة إليه هو التراب الذي ترشه بالماء فيبادلك رائحته. لا حواس بديلة مبرمَجة وفقاً للتواصل الافتراضيّ، ولا يغيّر عاداته التي نحتت فيه كلّ ما يكوّنه".

أما عن لغة سليم التي يقول عنها العديد -وأشك في مصداقيتهم- إنّها لغة تراثية وصعبة، واختار أن يقيم في مكان ما منها يصعب على الكثير إدراكه، فهذا غير صحيح، لأنّ الكلام هذا يدلّ على ضحالة تجربة مَن يقول ذلك في قراءة أعمال سليم كما يدلّ على عدم متابعته الكثير منها، وتدلّ أيضاً على أنّه يريد أن يصطاد في المياه العكرة التي يلجأ إليها الأشخاص الذين يبحثون عن الشهرة أو أشياء أخرى، فلا يعقل لشخص مثل سليم بركات يملك مفاتيح اللغة بشهادة أدونيس، أن يختار الإقامة في مكانٍ ما، في زمنٍ غادرناه منذُ سنوات كثيرة؛ ومثلما يملك المايسترو مفاتيح العلامات الموسيقيّة ويتنقل بين المقامات والأنواع والألوان الموسيقيّة، يفعل سليم بركات، ملأ خزينة اللغة العربية بأعمالٍ يعجز أيّ شخصٍ كان أن يقلدها، اختار سليم لنفسه الكتابة بطبقاتٍ مختلفة وبأنواع وألوان ومنعطفات مختلفة.

في أعماله تفاوتٌ وانتقالات كثيرة وكبيرة ممتزجة بين الحاضر والماضي، الواقع والخيال والقديم والحديث. لا يختار لأعماله التي يؤلفها مطبخاً أدبيّاً آخر، يرشُّ توابله الخاصة على الكلمات لتعطي نكهةً لا تشبه أيّ نكهة آخرى في عالم الأدب، ومَن يتذوّقها مرّة لن يفقد طعمتها إلى الأبد، وإن رأى جملةً من جمله مكتوبة في قصاصة ورق صغيرة في مكانٍ ما دون أن تذيَّل باسم الكاتب أو الكتاب، سيقول بلا تردّد: إنّها لـ"سليم بركات".

منذُ عام 1973 إلى عام 2022، قدّمَ سليم بركات أكثر من خمسين عملاً بين الرواية والشعر، مختلفة في الأزمنة والأمكنة، لم يبقَ بتلك الوتيرة التي بدأها في باكورة أعماله (كل داخلٍ سيهتف لي، وكل خارج أيضاً 1973) التي أنبأت بولادة أديبٍ رفيع المستوى حينها، بل أضاف إلى لغته التي أدهشت كِبار الأدب وقتها، ثراءً ومرونةً وجماليّةً أجمل من تلك التي بدأ بها منذُ خمسين عاماً. مرّت أساليبه بمنعطفات متعدِّدة، إذ إنّ أعماله تختلف بين المرونة والبساطة والجمال والقوة والغموض أحياناً والتاريخيّ والفانتازيّ والفلسفيّ والاجتماعيّ والوجدانيّ، ولديَّ الكثير من الأمثلة عن كلّ أسلوب، لكن لا أريد إطالة المقال، لكن سأكتب عدة مقالات أدخل فيها في تفاصيل أعماله. ما أريد قوله: لم يبقَ سليم داخل قوقعة منعزلاً في مكانٍ ما من هذا الكون، دون الالتفات إلى هذا العالم، بل جعل من مكان إقامته مؤشِّراً للبوصلة الأدبيّة التي تتجه إلى الشمال في عالم الأدب، إلى الأعلى، إلى مكانه. داخل كلّ حرف هنالك كلمة، داخل كل كلمة هنالك جملة، داخل كل جملة هنالك سطر، داخل كل سطر هنالك صفحة، داخل كل صفحة هنالك كتاب وداخل كل كتاب مفردات نوطها في صفحاته البيضاء لتكون قطعة أدبية موسيقية تحمل لحناً خاصاً عنوانه: سليم بركات.

يجيد اللعب مع قواعد اللغة وينحتها بطريقةٍ تليق بها. عرّف الكثير من الناس بالأكراد والآشوريين والأرمن والكثير من طبقات وفئات المجتمع السوري، والدليل على ذلك قولُ كاتبة مغربيّة، للأسف لم أعد أذكر اسمها: "عرفتُ الأكراد من خلال أعمال سليم بركات".

وفي مكان آخر تقول الكاتبة الأميركية "ستيفاني ماير": "سليم أقرب الكتّاب العرب الذين عرفتهم إلى الواقعية السحرية اللاتينية"، إذ إنّ في أسلوبه سحراً يأخذك إلى الماضي وأنت في مكانك، يسافر بك عبر الزمكان وأنت تتلذّذ بكل حرفٍ خطه؛ لا تخلو أعماله من السخرية في بعض الأماكن حين يتعلق الأمر بالأنظمة الدكتاتورية التي تمارسها السلطات الشرقية على البشر، لكنّ سخريته ممزوجة باحترام ورصانة لا يقلّلان من مكانته.

إنه خارجٌ عن المألوف، حتى إنّ الشاعر "محمود درويش" قال له: "من أين تستمدّ خيالك؟". لديه خيال يضاهي حجم الفضاء، يسافر عبر الزمكان بطريقةٍ ذكية تجعل القارئ يندهش بشدة. وفي قصيدته التي كتبها عن سليم (ليس للكردي إلّا الريح) يقول درويش: "كلماتُهُ عضلاتُهُ. عضلاتُهُ لكلماتُهُ". يمارس رياضته في الكتابة، يجاريها في الفضاء غير المحدود بلياقةٍ أدبية لا مثيل لها.

لم يختر سليمو حامل السكين في شبابه الكتابة بملء إرادته، بل وجدها مرميّةً على كتفيه واختار أن يمضي في حياته حاملاً قلمه سكيناً يشحذها بمبرد مخيّلته ليجعلها رهيفة وأنيقة، يقطع بها من جسد الأبجديّة أحرفاً يطبخها في مطبخه الخاص ليقدّم لنا أعمالاً لن نتذوق مثلها في عالم الإبداع الأدبيّ.





مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية