يقولون في علم الكهوف إنّ الكهوف تتكوّن من العمليّات الجيولوجيّة، منها: التفاعلات الكيميائيّة بين الصخور، عوامل التعرية بسبب المياه، القوى التكتونيّة، الضغط والعوامل الجويّة والأحياء الدقيقة.

لو أردنا البحث في تلافيف دماغ "سليم بركات" وروايته "كهوف هايدراهوداهوس"، فمن المؤكّد أنّنا سنرى كهوفاً كثيرة بألوان وأشكال وأحجام مختلفة. ولو أردنا أن نفتّت جدران تلافيف دماغه التي نسجت هذا العمل، فمن المؤكّد أيضاً أنّنا سنجد تكوينها يشبه تكوين الكهوف. لديه ذاكرةٌ مليئة بالتفاعلات الأدبيّة، مهمّتها تكسير الروابط الأدبيّة كلّها وتحويلها إلى تفاعلات أدبيّة يفجّر بها أعماله.

في ذاكرته نهرٌ من الكلمات جارفٌ، لا تحجبه يدٌ ولا يرهبه سدّ! إنّها ذاكرة مليئة بصفائح لا تنتهي، وإنّه ماهرٌ في الضغط على مفرداته لينسج منها سرداً لا يتأثّر بالعوامل المحيطة وملايين الأحياء الدقيقة وغير الدقيقة، الأحياء الملموسة وغير الملموسة! ذاكرةٌ تأبى أن تفنى أو تتبخّر، فكاتبُ رواية مثل رواية كهوف هايدراهوداهوس، موجودٌ في هذا العالم وغير موجود.

جاءت (كهوف هايدراهوداهوس) في كهوف مخيلة سليم في مئة وعشرة صفحات، أشبعتني حتى التخمة رموزاً وإسقاطاتٍ وتحولات ممتعة. تقول الأساطير إنّ كائن "القنطور" أو "السنتور" حكيم، كذلك سليمو لم يبخل علينا بحكمته وأبدع في هذا العمل الصغير حجماً والكبير في معنىً وحكمة.

نجد في (كهوف هايدراهوداهوس) حياةً أخرى غير هذه الحياة التي نعيشها، غريبة وليست بغريبة في الوقت نفسه! تكمن غرابتها في أنّه يصفها كما لو أنّها عالم خياليّ موازٍ لعالمنا، وليست غريبة لأنّ القرّاء -أغلبهم- يعرفون الأسطورة الإغريقيّة التي تحكي عن مخلوقات القنطور الأسطورية، نصفها العلويّ بشريّ، والآخر السفليّ مثل الحصان.

الأسطورة التي اعتقدت أنّ القناطير بريّة كالخيول الجامحة. تقول الأسطورة إنّهم كانوا يقيمون في مدن ثيساليا ولاكونيا في اليونان؛ كما ظهرت القناطير في ما بعد في الأساطير الرومانيّة. لقد أعطاهم سليم صورة كاملة من ناحية الصفات والخواص والأعمال بطريقةٍ أدبيّة، كما لو أنّه كان شاهداً على الأحداث، مثل مَن يرى حلماً؛ فيستيقظ منه ليجسّده في فراغ الورق، كما كان يفعل الرسام "ناجي العلي"، فأغلب أعماله الكاريكاتيريّة كانت أفكاراً تزوره في أثناء نومه أحلاماً!

وجود العالم الآخر ليس بالشيء الجديد، إنّما اتفق العلم والدين فيه، لن أدخل في الأحاديث الدينيّة عن هذا العالم لأنّ أغلب الناس يعرفونها، لكن سأتكلّم قليلاً عنها علميّاً؛ يسمى هذا العلم كما ذُكِر في الموسوعة الحرة ويكبيديا: (Demonology) ويعني "علم الشياطين" باللغة اليونانية، كما تعرّفه دائرة المعارف البريطانيّة بأنّه علم يبحث في دراسة الشياطين والمعتقدات المتعلّقة بها.

نجد شخصيات الرواية -من الصفحات الأولى- مخلوقات أسطورية معروفة باسم "السنتور"؛ تقيم في كهوفٍ يصفها بركات "كما لو أنّها كهوف جنّ"! كائنات تتكلّم عن حلمٍ ناقص، منحهم الكاتب أسماء خاصة مزج فيها الأسماء الإغريقيّة والرومانيّة كما قال في حواره مع الشاعر "وليد هرمز"، وذلك دليلٌ على أنّ بركات مطّلع اطّلاعاً كاملاً على الأسطورة. لكن بعد اطلاعٍ صغير على اللغة اليونانية -التي لا أعرف منها غير القليل جداً- واللغة الرومانيّة، اكتشفت أنّ سليم لم يختر الأسماء عن عبث كعادته في أعماله كلّها، بل إنّ للأسماء معنى، وقد خلقها سليم كما فعل مع باقي الأسماء في أعماله، مثل اسم "كيهات" في رواية (ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟) ومعناه في الكردية "مَن أتى"، وشرحها بركات في روايته عن معنى الاسم وكيف اختاره الأب حين احتار في منح المولود الجديد اسماً حين سأله أحد الأشخاص عن الاسم، في تلك اللحظة طرق أحدهم الباب وسأل "أوسي" والد "كيهات" عمّن قدم، وتقال بالكردية "كيهات"؛ فقرّر حينها أن يكون اسم الطفل "كيهات".

وقد اختار بركات الأسماء في (أرض الهوداهوس) بعناية، وبعد اطلاعي على بعضها ومحاولة ترجمتها، اتضح لي أنّه قام بالعملية نفسها التي قام بها في رواية (ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟)، لكن بشكلٍ يليق بالرواية وأسطورتها، ولم أتمكن -للأسف- من الحصول على تفسير معنى (هايدراهوداهوس) كاملاً، لكن من خلال محاولة ترجمة الاسم اتضح أنّ اسم هايدرا معناه في الإغريقية القديمة "الذيل" قاصداً ذيل الحصان، ومعنى اسم "خارتيماس" مثلاً -الشخصية التي تلعب دوراً في الرواية- "الملحق" أو "التابع"، ولم يَرمِ الاسم هنا عن عبث أيضاً، فمن خلال أحداث الرواية اتضح لي أنّه يجب أن يكون هناك تابع لإكمال الحلم أو الملحق.

لشرح المسألة بشكلٍ أدقّ أتمنى أن يأتي أحد من متقني اللغة اليونانية والرومانية للتعمق فيها أكثر، لأنني لمستُ في الرواية جوانب كثيرة يقصد سليم فيها أشياء لها معنى كبير وتحتاج إلى عدة أشخاص من الملمّين في اللغات كما تحتاج إلى النقّاد لشرحها بشكلٍ أدقّ.

في الرواية فلسفة عميقة رغم صغر حجمها، ولباقي الأسماء دلالات ومعانٍ تدلّ على اكتمال صورة الرواية بالشكل الصحيح تماماً كما تروي الأساطير عنها وتشبع خيال سليم، لكن لا قدرة لي على ترجمتها بالشكل الصحيح، فاكتفيت بترجمتها لنفسي لتتّضح لي الصورة بشكلٍ أكبر.

يعبد الهوداهوس إلهاً من نوع خاص وهو "اللون"، يقسمون باسمه وهو المقدّس ويتوجّهون إليه بالإخلاص. نعرف كلّنا جدلية الألوان وعلاقتها بالفصول الأربعة وأهميّتها في الكون ورمزيّتها لدى المذاهب الفكريّة والحركات الفلسفيّة والدينيّة، واختيار سليم اللون إلهاً تؤمن به تلك الكائنات، ما هو إلّا دلالة تؤكّد وجود إلهٍ في العالم الخفيّ، ونعلم كلّنا أنّ اللون يعرّف بأنّه صفة الجسم من السواد أو البياض أو أيّ لونٍ آخر؛ والفكرة من خلق إلهٍ بهذه الصفات أنّه يؤمن بوجود عالمٍ خفيّ.

حين يبلغ الهوداهوس ستة أعوام يتوجّب عليه أن يجد شريكاً له، يتقاسم معه أحلام النوم لكي يكمل شريكه الحلم الناقص، وتُعَدّ الأحلام مقدَّسة ولا يجوز أن يعرف عنها أحد غير الشريكين والإله اللون! في أحد الصباحات يضجر أمير الشعب "ثيوني" فيطلب من خلصائه أن يروي الهوداهوس أحلامهم علناً، مبادراً بذلك مع زوجته، ومنذُ ذلك اليوم بدأت رقعة أحلامهم تتّسع ليعلم بها الجميع، ما أدّى إلى شتاتهم في ما بعد، بعد أن كانوا أزواجاً أبدية، إذ باتوا يرون مخلوقات تقف على قدمَين -الإنسان- ولا يعلمون شيئاً عن طبيعتها، ولا الطريقة التي باتوا يرون بها أحلامهم الكاملة مدنّسين بذلك الناموس المقدّس في ثقافتهم. في ما بعد يقوم بعض الهوداهوس بخطف الأمير "ثيوني" الذي أساء لتاريخهم وثقافتهم بعد أن سمع أخباراً عن الأحلام الكاملة وخرج متنكّراً للبحث عن حقيقة هذه الأحلام.

تأتي لاحقاً عرّافة "انستوميس" من سلالة أفناها مرضٌ أطلقوا عليه "حمّى القرائن"، وهو داء يحوّلهم إلى حجارة حين لا يستطيعون الكشف عن القرين، إذ إنّ كلّ شيء في عالمهم قائم على الزوجين. تعرف العرّافة الحقيقة كاملةً، لكنّ بركات لم يبُح بها بشكلٍ صريح، ما وضعني في حيرة! وقد منح القارئ ميزة اكتشاف الحقائق من وجهة نظره، لكنّها مرتبطة بتفسيرات تعود إلى تجربة كل شخص في الحياة، ما يمنح الرواية طابعاً خاصّاً يضعها في قائمة الأعمال الساحرة والخالدة. رواية عميقة جداً، لكنّها تحتاج إلى نقّاد يمشون في دهاليزها لإدراك السرّ فيها وشرح الفلسفة التي تحيط بجوانب الرواية بشكلٍ أكاديميّ.

لكلّ كاتب تجارب عدة في الحياة، لكن لـ"سليمو" تجربة من نوعٍ فريد، ورواية (كهوف هايدراهوداهوس) عصارة تجاربه في خياله الذي يقيم في العالم الآخر حسب رأيي. رواية صغيرة برموز وتحولات كثيرة، تنقل القارئ من الواقع إلى الخيال بطريقةٍ ذكية دون أن يشعر.

ترجم الرواية إلى السويديّة البروفيسور "جوناثان مورين". وترجمها إلى الكُرديّة "عبدالله شيخو"، الطبعة الثانية منها إصدار دار (ليس (LIS ديار بكر تركيا. كما ترجمتها "بيان سلمان" إلى الفرنسيّة.

رواية لو اكتشفها مخرجٌ سينمائيّ أجنبي سيضع يده عليها ليخلق منها فيلماً أسطوريّاً مليئاً بالتشويق والمتعة. لقد استخدم فيها بركات فضاءً كاملاً من خياله وفلسفته، لا حدود له، بناها بتقنيّة أسلوبه اللغويّ والفكريّ بشكلٍ يليق بها لتكون رواية خياليّة كاملة في تفاصيلها كلّها، في السرد ووصف المكان والأشكال والكهوف والخناجر و...إلخ.

الثقة التي يكتب بها سليم عمياء، لا يرمي كلمة دون الاستناد إليها بشكلٍ أدبيّ وعلميّ كامل، بدءاً من العنوان وانتهاءً بالخاتمة في أعماله كلّها. كلّ مَن يقرأ روايات "بركات" يعلم أنّ في نهاية كلّ عمل من أعماله قائمة أعماله التي صدرت سابقاً، وكانت باكورة أعماله بعنوان (كلُّ داخلٍ سيهتف لأجلي، وكلُّ خارجٍ أيضاً)؛ من اللحظة الأولى التي بدأ فيها السير في طريقه الأدبيّ، أدرك أنّ كلّ داخلٍ وكلّ خارجٍ إلى أعماله سيهتف له يوماً ما! ذخيرة خياله ممتلئة وغير محدودة كمّاً وكيفاً، وسيأتي يوم يهتف فيه الجميع من أجله، لأنّه نسج أعمالاً تتربّع على عرش العظمة.

يذيّل بركات الرواية بأسطرٍ قليلة تعريفاً بها "لا إسقاطات من الأساطير في نصّ هذه الرواية. لا إعادة صوغ لإنشاء أسطوريّ. إنّها ائتلاف مكوّن من السرد الحكائيّ والمحاورة في مسرح المأساة القديم، تديره كائنات أسطوريّة من أمّة السنتور في محاولة لتصويب الواقع بإعادته إلى خياله".

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية