الصورة: لوحة من أعمال منير المجيد

"الجميع لديه ذاكرة فوتوغرافية، والبعض فقط ليس لديه فيلم". ستيفن ألكساندر رايت.

في المقدمة التي كتبها "إياد الغفري" لكتاب "قامشلو" - السيرة الروائية لـ "منير المجيد"، يقول: "في نص منير المجيد لا نرى مؤلفاً روائياً، نرى فناناً تشكيلياً يبدأ ومنذ الصفحة الأولى بنثر بقع لونية على لوحة قماشية هائلة الحجم، لوحة لا تنتهي".

المقدمة ونوعية الورق، وغلاف الكتاب، جعلتني أعتقد أنني سأصادف لوحات فنية في الداخل، مع سيرته الروائية. بل أجزمتُ بيني وبين نفسي بأنني سأصادف أعمالاً فنية من لوحات منير. وهذا الجزم طبيعي على اعتبار أن منير خريج كلية الفنون الجميلة في دمشق. وفي محاولة عند تقليب الصفحات بشكلٍ سريع لم أر أية لوحة.

إذاً، هي سيرة روائية فقط، ولا وجود لصور من أعماله. أعرف منير من مواقع التواصل الاجتماعي منذُ أعوام. لا أذكر بالضبط الشرارة التي جعلتني أطلب صداقته؛ لكن أغلب الظن أني قرأتُ مقالاً له في موقع "الحوار المتمدن"، وكان ذلك في عام 2020 - إن لم أكن مخطئاً. ومن بعدها بدأتُ أتابع منشوراته في كل مرة حين كان ينشر شيءٌ ما  في صفحته. وفي كل مرة كان يثير فضولي أن أتعرّف عليه عن قرب، ليس بسبب سرده الساحر والمشوّق فقط، بل بسبب التجارب التي مرَّ بها والتي كان يذكر بعضها في البدايات، وخاصةً عن زياراته إلى اليابان وعلاقاته الواسعة هناك، ودخوله إلى أوربا باكراً في ثمانينيات القرن المنصرم، فمن هو منير المجيد؟

سؤالٌ راودني كثيراً، وتحديداً كلما شارك بمنشورٍ ما أو صورة. لديه طريقة في السرد تفرض على القارئ أن يتابعه بدقة وشوق. حاولتُ مراراً أن أبحث عن تاريخه في غوغل، لكن النتائج لم تعطيني أكثر من المقالات والنصوص القليلة التي تشير إلى شخص متعمق في الحياة وتفاصيلها، وكما لو أنه المصري حجاجوفيتش المعروف بــ"ابن بطوطة". لكن لمنير وقعٌ خاص ونمطٍ مختلف عن ابن بطوطة، فهو يتحدث عن ذكرياته في القامشلي ودمشق والدنمارك واليابان على مر سنوات طويلة، ومن خلال تجاربي الشخصية التي لا علاقة لها بالذاكرة القوية استفزني منير كثيراً، لعدة أسباب، أهمها، كيف أنا في أواخر الثلاثينيات من عمري ولا أستطيع أن أتذكر الكثير من التفاصيل عن طفولتي، بينما هو يذكر تفاصيل عن طفولته في القامشلي، ويرسم المكان كما لو أنه خرج منها بالأمس القريب، رغم أنه تجاوز السبعين من عمره؟

نشر في صفحته مرة أنه قام بتأليف مخطوطة بعنوان "كراس أم كلثوم وأنا"، مشيراً في نهاية المنشور إلى من يرغب الحصول على نسخة الكترونية منه أن يكتب تعليقاً. طبعاً وبدون تردد أردت أن أقرأ تاريخ هذا الرجل، ولم أتردد في طلب نسخة منه. لن أتحدث عن الكراس هنا كي لا تتجه البوصلة إلى مكان آخر عن الموضوع الرئيسي، والذي أريد أن أتطرق له في مقالي هذا هو عن كتاب "قامشلو". تابعتُ منير كثيراً، ونويت منذُ عامين أن التقي به بطريقة ما، لكن ظروف الحياة وهوايتي في الكسل كانت تؤجل طلب اللقاء دائماً، وسبب رغبتي للقائه هي كسب ما أستطيع من هذا الرجل الذي يذكر تاريخ حياته كما لو أنه كان قبطان سفينة كبيرة أبحرت في بحارٍ عدة ومحيطات، ولم يأبه المخاطر والعواصف والأمواج.

كتاب "قامشلو"، هو الكتاب الأول من ثلاثية لسيرة روائية عن شخص اجتاز الصعاب والمرارة في بدايات حياته: موت والده واثنين من إخوته في حادثة ارتفاع منسوب مياه نهر جغجغ، لتواجه ما تبقى من العائلة مصاعب الحياة وقدرها، فبات تحت مطرقة الفقر وسندان اليتم، ليذكّرني بعبارة قلتها في روايتي الأولى "السعادة مهنة شاقة": "اليتم كالعقم تجعلك تغار من قطة إن احتضنت صغارها"، لكن، كان لمنير رأي آخر: لقد انتهى من سلطة الأب، كما يقول، حين كانوا يقولون عنه يتيم.

بدأ حياته مثل جميع الأطفال، محاولاً تارةً أن يخدع الأهل بطريقةٍ ما للحصول على ما يريد، وخداع المحيط من حوله للوصول إلى غاياته الطفولية تارةٍ أخرى، جعلت منه طفلاً يحيك قدره المرئي والسمعي بطريقةٍ استثنائية في دهاليز يومياته. يحلم، ويركض، ويرسم، ويكتب، ويحب، ويكره، ويضحك، ويبكي، وكل التفاصيل التي تمر على جميع البشر. لكن لمنير - مثل الاشخاص الاستثنائيين - وقعٌ خاص لكل حادثة. مثلاً، اعتبر نفسه مذنباً بطريقةٍ غير مباشرة عند موت أحد الاشخاص، سأذكر تفاصيلها في سياق الحديث عن الكتاب.

كان شريكاً للشاعر "صبحي حديدي" في تنفيذ مجلات الحائط في المدرسة. هو يرسم وصبحي يكتب. والطفل الهزيل الجبان الذي لا يقوى على العراك مع أطفال الحي. وعاشق السينما والأفلام الاجنبية، وكارهاً للأفلام المصرية والهندية. يعطي للأشياء وقعها الخاص في داخله، كأن ينسب تاريخ أغنية إلى ذكرى سعيدة وحزينة في نفس الوقت. فهو إنسان مثل كل البشر، ولديه توازنٌ يعطي لحياته قيمة ذات معنى.

تعرفتُ على منير الرسام والكاتب والعاشق للحياة منذُ أعوام قليلة في مواقع التواصل الاجتماعي، وأثار فضولي، كما ذكرت. ولم يخب ظني حين التقيت به، وفاجئني في الكثير من الأشياء.

منير من مواليد عام 1951 في مدينة القامشلي في الشمال السوري، وخريج كلية الفنون الجميلة في دمشق. هاجر إلى الدنمارك سنة 1983. أي السنة التي ولدتُ فيها أنا. كبرَ وترعرع في كنف عائلة حاولت أن يمر يومها بسلام مثلها مثل أغلب العائلات، قوت يومهم من عمل أخته في الخياطة، وبعض النقود من راتب أخيه الموظف. انتقل للعيش في تركيا في قرية والده بعد وفاته بأعوام، بناء على طلب ابن العم؛ لإدارة شؤون الأرض التي كانت باسم والده هناك. تعود العائلة فيما بعد إلى القامشلي. كان انتقاله يشبه صفعةً ناعمة على وجهه. انتقاله من القامشلي إلى قرية والده في تركيا تكونت من ثلاثة مشاعر، قامشلي التي كبر ونشأ فيها، وقرية والده والورثة التي تنتظرهم، ورغبة الأم في الانتقال بناء على طلبٍ لا قدرة لها على رفضه. وأي حيلةٍ يملكها هو، وكيف له أن يبوح ما لا يستطيع البوح به؟

لا الكلام سيجدي نفعاً، ولا الصمت، فاختار السير خلف والدته وأخوته في الانتقال راسماً في مخيلته تفاصيل ذكرياته في طريقٍ مليئة بالمخاطر والألغام، والذكريات التي كان لها وقعاً جميلاً لديه، وغيرها من التي تجعل المرء أن يقف بين برزخ الحياة الجديدة والحياة القديمة، الحياة التي نعرفها والحياة المجهولة، الحياة التي كانت بيت سرنا، والحياة التي ربما تكون بيت قهرنا. وبين الحياتين سارَ مع والدته مثل فراخ الإوز وهو يمسك بيدها، عينٌ ينظر فيها إلى القامشلي من بعيد، وعينٌ إلى المدن والبلدات التركية التي تفوح منها رائحة المشاوي وتصدح الأغاني التركية من مقاهيها.

لا رغبة لديه في طباعة الجزء الثاني "شام" والجزء الثالث "كوبنهاون". رغم أنه كتب على الغلاف الخلفي من كتاب "قامشلو" إنها الجزء الأول من ثلاثية. هو أمرٌ شخصي أن لا يطبع باقي الأجزاء، رغم إنني حصلت على نسخة الكترونية من الجزء الثاني "شام". لكن لو كان الأمر بيدي، لطبعتُ باقي الأجزاء، لأعرّف القارئ  على منير المجيد أكثر وأكثر. منير الذي كان صديقاً لصبحي حديدي كما ذكرت، وسليم بركات، رياض صالح الحسين، بهرم حاجو، وغيرهم الكثيرين من الوسط الفني والأدبي. هو نجمٌ يلمع في ذاك الوسط، لا يقل أهمية عن أي اسم من الأسماء الكبيرة في الاوساط الفنية والأدبية. عاش حياته كما لو أنه يرسم لوحةٍ فنية عن الأبوة. استغل فيها جميع الزوايا ونثر ألوانه في كل مكان. تنازل فيها عن الكثير من حياته وأهمها الرسم من أجل البقاء بجانب أولاده.

زرتُ القامشلي مرة واحدة في حياتي. كان ذلك سنة 2012. لم أبقَ فيها غير ساعاتٍ قليلة. تعرفتُ فيها على حيٍ صغير من الأحياء الشعبية البسيطة. تناولت طعامي وأخذتُ قسطاً من الراحة في ذاك الصيف الحار، وطبول الحرب تقرع بالقرب منها. لكن في كتاب "قامشلو" يستطيع أي شخص لم ير المدينة أن يعرفها ويغرق في تفاصيلها كما لو أنه يشاهد فيلماً سينمائياً. وبعض الأماكن سيشعر كما لو أنه ابن المدينة نفسها حتى لو كان من غير دولة.

لنغوص معاً في كتاب "قامشلو".

يقدّم الناشر وليد عكاوي الكتاب في صفحتين عن بداية علاقته مع منير في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق سبعينيات القرن الماضي. ويوضح بأن منير عبدالله ( هكذا كان اسمه سابقاً ) كان صارماً ولم يقترب منه الكثيرون. وأحبَّ موسيقاه من مسجّل الأشرطة، وكان يكتب في صحف دمشق في النقد السينمائي، وكان رساماً مبدعاً، ويسأل سؤالاً في المقدمة، ويقول: (من أين أتى هذا المتعجرف إلى كلية الفنون؟)، ليكتشف أنه من القامشلي الذي لا يعرف عنها سوى أنها مدينة بعيدة وموطن للسريان والآشوريين والأكراد والعرب، ويختتم المقدمة بقوله: "عندما قرأت قامشلو لمنير أحسست وشعرت بحب حقيقي لهذا المكان. منير المتعجرف والمحبوب في نفس الوقت، جعلني أعشق هذه المنطقة".

يكرر الناشر كلمة "المتعجرف" مرتين عند تقديم منير، رغم أني لم أجد شيئاً من ذاك التعجرف الذي يقوله، من خلال متابعتي لمنير في صفحته، وحين التقينا. منير يملك ميزة خاصة في شخصيته، كما هو واضح، لا يقبل بالقليل ولا يريد الكثير، هو معتدل ويحب الحياة، يحاول أن يكون لكأس الماء الذي يشربه نمطٌ أنيق يليق به كإنسان أولاً، وكمنير ثانياً.

في لقائي معه في منزله في شهر آب الماضي، وجدته كما توقعت في أماكن، وفاق توقعاتي في أماكن؛ شخص محبوب ولطيف، أناقة روحه فرضت نفسها على المكان. يملك من الخبرات والتجارب كشخصٍ تجاوز المئة عام في منعطفات الحياة القاسية والمرفهة؛ ولديه ما يكفي من شعور بأنه في الخمسين من العمر من طريقة تعامله. لقاء منير جعلني أصل إلى شخص مكون من ثلاثة مراحل عمرية. الخبرة والثقافة توحي بانه تجاوز المئة عام من عمره، اللباقة التي كان يتمتع بها وخفة دمه كما لو أنه في الأربعينيات، وفي نفس الوقت هو الرجل السبعيني الذي وصل إلى سن التقاعد، وراض عمّا قدّمه في حياته المهنية والعائلية.

فيما بعد يقدم إياد الغفري في أربع صفحات، ويسرد فيها بعض تفاصيل الكتاب، وكيف قام منير برسم المدينة بالكلمات بطريقةٍ احترافية، كما لو أنه قام بتسجيل فيلمٍ وثائقي عن المدينة في رأسه، وترجمها إلى بياض الورق مستخدماً فيها أحرفاً من حنين في سطورٍ من الشوق إلى تلك الأيام.

قامشلو أو قامشلوكي أو قامشلي.

يبدأ منير الكتاب بإشكالية الاسم، والأخبار المتضاربة عن ولادة المدينة، ويؤكد فيما بعد بأن "اليهود أول من استوطن في الموقع الذي ينفصل فيه نهر جغجغ ويشكّل فرعين". ليرسم المكان منذُ بداية نشأتها وتكوّن خليط المجتمع هناك، ليشكل نسيجاً مختلفاً من المعتقدات والخلفيات، لكنهم متفقون على أنهم أبناء تلك المدينة الصغيرة. أسماء شوارعها، وبعض العائلات، أماكن العبادة والمقابر، صالات الأفراح والسينما والمركز الثقافي الوحيد الذي كان يستلمه شخصٌ أُمّي لا يعرف من القراءة والكتابة سوى أسمه. الحديث عن فصول السنة وتأثيرها على المدينة: حرارة الصيف وظلم الشتاء. الأعياد الرسمية وغير الرسمية، المناسبات الدينية وغير الدينية، وطرق تعاملهم مع بعضهم البعض، وكيف يقوم رجال الدين المسيحيين بالصلاة مع المسلمين في أعيادهم، والعكس. الأطفال والشباب والنساء والعجائز والزعران والعاهرات، وكل طبقات المجتمع من الأغنياء والفقراء والمخبرين والسياسيين ورجال الدين لهم وجود في الكتاب. وطيش الأطفال وتهورات الشباب، رزانة الأهالي وطرق تدبير يومياتهم في تفاصيلها التي نشعر بصعوبتها اليوم.

باختصار، لم ينسَ منير حجراً أو بشراً أو شجراً في القامشلي رغم أنه خرج منها في بداية السبعينيات. ولكل شيء من تلك الأشياء في المدينة له وقعٌ خاص في ذاكرته. اصطياد العصافير، واللحاق بالأطفال المسيحيين ليجبروهم على نطق الشهادتين، الهروب من العقاب، والإمساك بالمذنبين، وكل التفاصيل التي كانت تحصل مع الأطفال في تلك المدن والبلدات.

الكتاب بالتفصيل

يبدأ من العام 1951، أي السنة التي ولد فيها. يرسم المكان مع الإشارة إلى بعض التفاصيل المهمة عنه. يتكلم عن موسم هجرة الطيور وبحثها عن الطعام والدفء وينتهي الحال بها إلى موائد الطعام بعد اصطيادها. يتحدث عن نهر جغجغ بتفصيل، عن مكان مروره، ويشير إلى الجسرين الموجودين في القامشلي، الصغير والكبير. يروي عن الأماكن المحيطة بالجسر.

والده المطارد والمحكوم عليه بالإعدام غيابياً، لأنه كان ضمن مجموعة حاربت الاستعمار، وشارك في غارات مسلحة على الثكنة الفرنسية. والدته كانت تصف الأب بالقسوة لغيابه كثيراً عن البيت، الذي يمتد إلى أشهر. ولكنها تفتخر به. وتمدحه أكثر. يروي عن موت أخوة وأشقاء له بسبب سوء التغذية وأمراض لا حصر لها على حد قوله. وبقي خمسة منهم بنتين وأربع أخوة، اجتازوا الامتحان الخشن للحياة كما يقول. تهدد الأم زوجها بالبقاء في البيت أو الرحيل إلى مكانٍ مجهول لا يعرفه، ليقبل الأب البقاء بجانب أولاده وينتقلون إلى القامشلي. ويروي عن تفاصيل الحياة فيها وكيف وَفَدَ العرب والكرد والسريان والأرمن من نصيبين وماردين ومدياد فارّين، من ظلم الأتراك أو لتحسين معيشتهم.

سوق عزرا الذي حاولت كل الحكومات تغيير الاسم دون فائدة. ويروي عن اليهود - النسيج الهام فيها. ولم يبق منهم سوى الاسم الآن كما يقول. المسيحيون وأعمالهم التجارية الذين كانوا من المؤسسين للحياة الثقافية فيها. يذكر عدد السكان في المدينة التي كانت بلدة في بدايتها. يدخل في الحديث عن البيت الذي استأجره والده وأصبح يعمل في تجارة الحبوب؛ وكان صلة الوصل بين الطوائف في لعبة الفرنسيين بلعبتهم المكشوفة بكسب المسحيين لصفهم وإثارة الفتن بين باقي الطوائف. الأخ الأكبر كان موظفاً في البريد، والثاني طالب ولاعب كرة قدم، أجبره الروماتيزم مُقعداً في أيامه الأخيرة. يرتفع منسوب مياه نهر جغجغ في ليلة، لينهار المنزل بعد خروجٍ صعب منه. ويموت الأب وأخيه الكبير والأصغر منه الذي كان يعاني من الروماتيزم.

يدخل في الحديث عن اسم المدينة، عمرها، والإشكالية عن ولادتها بإيجاز. الحديث عن حي اليهودي وكيف تم تغيير اسم الحي بعد حرب ٦٧ إلى اسم فلسطين لإغاظتهم. ويتكلم عن منع اللغة الكردية، ولهجاتهم.

هو ينتمي إلى حي قدور بك، إلى مدينةٍ يكون الخط الفاصل بينها وبين الدولة التركية سكة حديد برلين - بغداد، وحقول مثخنة بالألغام. والده مهاجر حفظ القرآن ونهل من تعاليم الدين، ينحدر من منطقة بحيرة ڤان. تنقلَ بين مدنٍ عدة وقرى لطلب العلم كما يقول. الانقلابات في الحكومة، والقتل والاغتيالات التي طالت الكثير من رجالها.

يتحدث عن الأرمن الذين قاموا بتصليح وتصنيع "قطع غيار"، كان من الصعب استيرادها في ذاك الوقت.

يذكر الأحزاب السياسية التي ظهرت في القامشلي حينها. كالحزب الشيوعي، البعثي، الپارتي الكردي، الوطني، الإخوان المسلمون، الشعبي، القومي السوري، وأحزاب أرمنية، وسريانية. مما أعطى القامشلي لقب كاليفورنيا الشرق. الازدهار يطال كل شيء من المكان، والصناعة والتجارة والزراعة والثقافة فيها. "سُمح لليهود بتدريس العبرية في كنيستهم، أما الأكراد فلم يسمح لهم أحد بافتتاح مدارس لهم".

يروي عن تأسيس السريان لنادي لهم في المدينة والذي لعب دوراً مهماً حينها، وأطلق عليه اسم الرافدين. وكيف أدت الخلافات السياسية إلى إغلاقه وتأميمه "وتغيير اسمه، فيما بعد، إلى اسم يثير الحفيظة كما يقول (نادي الجهاد)". ويروي عن نادي خاص للأرمن الذين عوملوا دوماً بحنان: "ربما بسبب ما تعرضوا له من الفظاعات على يد الأتراك".

يذكر تأسيس مكتبة الإسكندرون على يد عائلة مديوايه عام ١٩٤٦، ومطبعة الرافدين بعدها، والخابور وطيّارة. ويتحدث عن فترة إقامتهم في دار الحاجّة فاطمي بعد انهيار منزلهم. ويعيشون على معونات رسمية وغير رسمية. "جاء أناس كُثر وقالوا أنهم كانوا مدينين لوالدي ودفعوا لوالدتي بعض النقود. وجدوا أيضاً بعض الأموال في الركام الطيني في موقع البيت المهدوم. والدي لم يكن يكترث بوضع أمواله في البنوك، متبعاً تقليداً مارسه معظم المهاجرين. كان في الواقع يخطط للانتقال بنا إلى دمشق. (شاما شريف) حسب المصطلح الكردي".

يصف المنزل الذي كان يسكنه، مع طريقة ذبح الديكة والخواريف وتحضيرها لمونة الشتاء. وعن طريقة تنظيف المكان الخاص لتجمع فضلات التواليت. وعن أختيه التي تعلمت إحداهن الخياطة والثانية على وشك أن تدخل إلى المدرسة.

يتحدث عن الحالة التي أصابت والدته بسبب خروجها من المنزل ليلاً لتجلس بالقرب من قبري ولديها. وبمساعدة الجيران يعودون بها إلى البيت الذي قاموا بتأجير غرفة منه لشرطي مع زوجته وابنته التي تأخرت في المشي، نصحت والدته الجيران الذهاب بالبنت إلى باب الجامع لتسول الرقيّة. يتطوع منير لذلك رغم اعتراضات والدها الشرطي الذي اعتبر الفكرة بغيضة. لكنه فعلها في ظهيرة يوم الجمعة، حملها على كتفه ومدَّ يده متسولاً. في اليوم التالي خطت الفتاة أولى خطواتها، وكان للموقف أثر في الحي لفترة تحدثوا عنه. وكانت المرة الأولى التي يتصور فيها مع المسدس، بعد أن قامت أخته بإلباسه قميصاً جديداً ووضعوا مسدس جارهم في يده وأحبَّ رائحة الفولاذ والشحم، مما منحه شعوراً جديداً كما يقول بأنه ذكر، الشعور الذي ذكّره بديك إسطبله المتبجح، المراهق الأبدي.

يتحدث عن مصدر رزقهم في تلك الأثناء من خلال عمل أخته كخياطة في الحي. وتحسن والدته في بيتهم في شارع ٦١ حي قدور بك. يروي عن بعض الانقلابات السياسية التي حصلت في سوريا في الخمسينيات من القرن الماضي، وعن عبد الناصر وغيرهم من الزعماء والسياسيين. وعلاقة القامشلي بتركيا والموصل.الحجي والحجية جيرانهم الذين يفصل عن بيتهم سور طيني واطئ، ويملكون راديو يسمعون منه الأغاني التركية والأخبار، كان لهم أثر خاص في داخله.

ذهابهم إلى قرية والدته "سرمساخ" بحافلة الويلليز التي يملكها زوج خالته، وحافلتين يقودهما شابان أرمنيان. والوحدة بين سوريا ومصر، واللحاق بالسياسيين وزيارة جمال عبد الناصر للقامشلي. والطريقة التي استقبلوه بها. ودخوله المدرسة والمشاكل التي كانت تحصل بينه وبين أخته وتفاصيل صغيرة عن دراستهم. وعمل أخته على ماكينة السنجر. ووالدته التي كانت تخبز التنور عند جارتهم.

 الفصول الأربعة في تفاصيلها الصغيرة التي يرسمها في بيته والقامشلي. علاقته مع الخواريف والقطط. ولادة قطته الفاجرة واصطياده لعصافير الدوري. تمديد الكهرباء. بناء مشفى القنواتي في حي قدور بك بعيداً عن مركز المدينة ، وموته بعد تجهيز المشفى. ليستوطنها خبراء النفط من السوفييت فيما بعد، بعد اكتشاف النفط في المنطقة، هناك. اللواط الذي كان يمارس مع الصبي المعاق عقلياً، ورؤية الأطفال لتلك الصورة، دون التجرؤ على قول شيء للأهالي عن ذلك. موت صديقيه محمد ومحمود، أحدهم بلعبة القفز على الظهر حين سقط على رأسه وكسر عنقه. والثاني بعد انتشار سرطان كلية التهم أحشاءه: "حينذاك فكرّت ان الذين يموتون أسماؤهم متقاربة فاستبعدت احتمال موتي".

الاعتقالات السياسية التي انتشرت زمن انفصال دمشق عن القاهرة. والانقلابات التي حصلت، والبطالة، والمظاهرات التي خرجت في المدن السورية، بعضها تريد الوحدة وبعضها الانفصال. لتنتهي الفورة تلك بحل البرلمان.

شبه مأساة تقع عليهم في يومٍ بارد في الشتاء، حين يتسرب المازوت إلى أسفل المدفأة، لتشب النار فيها. لم يتأذى أحد من العائلة غير الأخت الكبيرة، حين انتزعت أنابيب المدفأة الصاجية لترميها إلى الفناء، مما أحرقَ كلتا يديها، لتتوقف عن العمل لمدة أسبوعين، وتبقى العائلة دون مصدر دخل تلك الفترة. كان يرافق والدته إلى السوق. ومشاهدة مجنون حي قدور بك "هنانو" الذي يمارس العادة السرية أمام الجميع. والسيدة المختلة "خاتون" وهي تتغوط على طرف النهر. وعراك الكلاب في الساحة، ولعبة الغميضة بعد تمديد الإنارة في المنطقة، وطيش الأطفال ومحاولتهم كسر لمبات الأعمدة، ومطاردة الحارس لهم في الصيف، والتمديدات الصحية التي انتشرت حينها وردم المراحيض والآبار، ونقص المياه الجوفية مما جعلت البلدية تحفر بئراً ارتوازياً، وركبت حنفية لها، ليصبح مكاناً للقاء المراهقات.

عودة جارهم الشرطي إلى دمشق، بعد المعجزة مع ابنته وأصبحت تمشي وتركض. يسكن جار جديد حموي بدلاً عن الشرطي. ويقدّم نفسه كموظف حكومي. لكن يكتشف فيما بعد بانه من المباحث، ويستجوب المعتقلين ويعذبهم فترة غيابه عن البيت.

يروي عن قرية والدته "سرمساخ" وكيف قام شاب باغتصاب فتاة في القرية أثناء زيارتهم في الصيف. مما دفع أهل القرية الى محاولة إبعاده عن الفتاة بشتى الطرق، لكن دون فائدة حتى قام أحدهم وضربه بحجر كبير على رأسه ليسقط ميتاً. تدخل حكماء القريتين لإيقاف الفتنة التي كادت أن تحصل، وعادت العلاقات كما كانت معتبرين الحادث "ميتة جيدة"

يروي عن الخنازير البرية التي كانت تمر على تخوم سرمساخ، وكيف كان شباب القرية باصطيادها، وتحميلها على البغال لمبادلته بالعدس أو الخضار او أشياء اخرى مع السريان. ويروي كيف قام بحماية أخته التي كان يتعارك معها عادةً، حين طلبت خالتها منها قلي البيض، ونسيت أن تضع السمنة في المقلاة. لتضحك عليها خالتها، وتقول لها: "ما الجحيم الذي يعلّمونه لكم في المدرسة؟"، ليقف أمام خالته ويقول لها: "لا يعلموننا قلي البيض في المدرسة".

يتحدث عن ذهابه مع والدته في رحلة تشبه مناسك الحج، لزيارة الشيخ حقي في قرية بياندور طلباً للتبريك والأدعية: "نظر الشيخ إلي وقال أنت إبن عبدالله؟ الله يخليك، واضعاً يده على رأسي بلطف. اعتبرت الأمر حينذاك معجزة من معجزات الشيخ حقي".

خوف سكان القامشلي من السياسة والحديث عنها. طريقة السفر من القامشلي إلى دمشق، وتبديل الباص في حلب وابتزاز السائقين للناس البسطاء هناك، والتركيز على انطلاق السينما وتعددها في المدينة: سينما كربيس وشهرزاد وفؤاد. طريقة عرض الأفلام في الهواء الطلق، وارتياد الناس إليها بصورةً كما لو أنهم في رحلة. وتجمع الزعران، وأفلام هندية وعنترة بن شداد. والنكات التي كانوا يصنعوها القامشلاويون، وغيرها من الأحداث.

المدرسة وتفاصيل من الطرقات التي كان يمشي فيها. وتذكره بالخاروف البني، كلما مر من فسحة المسلخ القديم. سيدة عجوز تجلس على الرصيف لتبيع السجائر وتشفي المرضى. السينما والباعة الذين يحيطون بها. وصاحب صهريج، والحلبي أبكريم "أبو كريم" بائع المشبك واللقم. موت أحد الشبان بطعنة من صديقه خلافاً على عاهرة. الأعراس وطقوسها بتفاصيلها، وشهرة آرام ديكران قبل سفره إلى أرمينيا، والمطرب اليهودي موشيه الياهو الذي أعجب به الرئيس الفلسطيني محمود عباس. وغيرهم من سريان وأرمن ومردليون وبدو. وحلقات الدبكة وشرب العرق في أعراس الأغنياء، بينما اقتصرت أعراس الفقراء على قرع الطبل والنفخ في الزرناية. وأثناء انقلاب عسكري سمّي بثورة الثامن من آذار في الدولة انتقل إلى مدرسة صلاح الدين الأيوبي.

دروس الديانة وصلاة التراويح التي حرضَ عليها أستاذ المادة، والصلاة في المسجد والرائحة القذرة التي كانت تفوح من السجاد فيها. انتقاله إلى مدرسة صلاح الدين بعد أن عانى من مدرّس الديانة في المدرسة السابقة. في المدرسة الجديدة يتعرف على صبحي حديدي. زيارات خاله مع أصدقاءه ووصولهم من سرمساخ منتصف الليل، وهم يقرعون على النافذة ويضطر الاولاد النوم في المطبخ لإتاحة المجال للضيوف في الغرفة الوحيدة. وقضاء أيام بورشات التعزيل في البيت، للقضاء على القمل والقذارة التي يتركها أصدقاء خاله، جعلت من الأخ الاكبر أن يطرد الضيوف. وفي الصيف لم يذهبوا إلى سرمساخ لأن الأم خجلت من ذاك الموقف الذي بدر من ابنها الكبير الذي لامته لفترة طويلة، مما جعل منير يعمل في مشفى الدكتور رفيق أبو السعود لمساعدة المرضى في شراء الأدوية ويحصل على نسبة من الصيدلي. تعلم أثناءها حقن الابر وجرب لأول مرة القبلة، أثناء لعب ممرضتين مع ممرض لعبة العريس والعروس وأمها. في إحدى الأيام جاء نجار يدعى جوني لإجراء بعض التصليحات في المشفى. فأصبح يشاركهم في لعبتهم. وتوطدت علاقته مع إحدى الممرضات بدعوتها من خلال رسالة أرسلها مع منير بأن تلتقي به في مهرجان الحبوب. اصطحبها إلى مكان مظلم وفضّ بكارتها. قتل الأب جوني بطلقة على باب البيت بعد أن طلب قدومه لإبرام صفقة لتصحيح الأمر. يقول منير في النهاية "هذا يجعلني السبب غير المباشر في مقتل جوني ".

يوضح منير الوقع التراجيدي لأغنية إنت عمري لأم كلثوم عليه، ارتبطت الأغنية بحادثة مقتل جوني. وفيما بعد أصبح لها جانب معاكس، حين يروي طرفة أو حقيقة كما يقول، بأن جمال عبد الناصر انشغل عن حضور حفلة لأم كلثوم على غير عادته، وفي منتصف الحفل أدار الراديو ليسمعها، نادى للحاجب وقال "اسمها ايه؟"، الحاجب ارتبك للحظة وتلعثم قليلاً قبل أن يجيب: حضرتك عمري".

يروي عن طريقة استعمال المهربين البغال للمرور من حقول الألغام على الحدود مع تركيا. يموت طفل بعمر السنتين برصاصة طائشة من حرس الحدود أثناء اشتباكهم مع المهربين. يروي عن النوم على أسطح المنازل في الصيف، للحصول على نسمة هواء باردة. يصبح المسؤول عن شراء مستلزمات البيت، ويروي من خلالها عن تفاصيل اللحوم وتقطيعها، وصنع اللحم بعجين والكليچة، وطريقة صنعهم. "في حلب تُقيّم المرأة بمدى إتقانها تحضير الكّبة، في حمص حجم اليبرق، في الموصل الپاجه، في القامشلي الكليچة".

بعد الحادث الذي تعرضوا له بوفاة الأب والشقيقين، يطلب أولاد عم والده العودة إلى "ڤان" في تركيا مسقط رأس الأب لاستلام الأرض التي باسم والده هناك، لكنهم قوبلوا بالرفض.

إعادة محاولة دعوة العائلة إلى العودة لأرضهم في تركيا، من خلال وساطة بين ابن العم عبد المجيد ومهرب يدعى باڤي مراد يملك عائلتين. واحدة في نصيبين، والثانية في القامشلي. لتوافق الأم على الرحيل من القامشلي. يغادرون في ليلة كاحلة إلى تركيا، ويشرح كيف وصلوا إلى قريتهم، بعد رحلة لا تخلوا من المخاطر.

ويسرد في تفاصيل الرحلة مروراً ببعض القرى والمدن والتسوق فيها. ليروي فيما بعد عن كنيسة الصليب المقدس المطلة على جزيرة اختامار.

"الكنيسة الوحيدة التي لم يطلها ديناميت الكماليين بُعيد مجازر إبادة الأرمن التي امتدت حتى عام ١٩١٥." يروي بعدها عن استطاعة الاتراك بضم بعض الأكراد لصفوفهم بواعز من الرباط الديني ومكاسب قومية على حد قوله لإبادة الأرمن، "بالمقابل، قام الكثير من الأكراد بحماية جيرانهم وأصدقائهم الأرمن وساعدوهم على الفرار".

يروي عن وجود الأرمن في القامشلي، وهجرتهم من تركيا هروباً من المجزرة. عن صديقه هاكوب. وطريقة تعبيد الطرق بالإسفلت في القامشلي، وتفاصيل لعب الفتيات برسم الطباشير عليها. جلوس النساء على مصاطب البيوت وتسريح شعرهم دلالةً على أنهم مارسوا الجنس مع رجالهم ليلتها. الإصلاحات التي حصلت في بيتهم، وترتيبه. رحلات على دراجة أخيه الهوائية مع قطته بالقرب من نهر جغجغ. وتوافد أبناء القرى إلى القامشلي لطلب العلم في مدارسها الإعدادية والثانوية. يتعرف على صديق من قرية گركيلگي القريبة من رميلان، يدعى أمين. يروي عن زيارته لقريته وسهراته هناك ولعب الورق مع الشباب في المقهى. التمدد على الأسرّة في ليالي الصيف، جعلهم يسمعون أحاديث الجيران بغير قصد. ليروي طرفة مضحكة عن شخص يدعى حمو متزوج من امرأة تدعى عيشكي، "ولأسلوب التواصل الاجتماعي هذا صلة بقصة حمو المتزوج من عيشكي. لاحظت عيشكي أن حمو هجرها في فراش الزوجية فبدأت تحقيقاتها البوليسية الخاصة واكتشفت أن حمو يعاشر الأرملة الحسناء گلي التي كانت تؤدي خدمات جنسية بمقابل مالي، كي تؤمن العيش لأطفالها الصغار، في كوخ مهجور على طرف القرية. ضاعفت لها المبلغ لقاء أن لا تذهب تلك الليلة الحالكة. عيشكي ذهبت إلى الكوخ قبل الموعد بساعة وتمددت هناك بانتظار حمو. جاء حمو وقفز عليها ناطقاً بكلمات غزل رقيقة، بعد هنيهة سألها باستغراب: ماذا جرى لك بحق الله؟ أنت الليلة أحسن من كل مرة. عيشكي أشعلت القداحة التي كانت بيدها، فلاحظ الرجل أنها زوجته، فقال: الحرام يحقق المعجزات. ثم تابع"

ذكريات عن الرسم مع بهرم حاجو والمدرسة وتخصيص قاعة خاصة له للرسم على جدرانها. تمثيل في مسرحية بدور يهودي والذهاب إلى عامودا لتأدية الدور كذلك الأمر. الحديث عن اليهود باختصار ووجودهم والمقبرة المسيحية في القامشلي التي تضم قبوراً لليهود أيضا. في الصيف العمل في عيادة ومشفى الدكتور ماجد، حالة اسعافية في يوم من الأيام لإخراج جنين ميت في رحم امرأة، قام بدور مساعد الطبيب في غياب الممرضة يومها.

المد العروبي نهاية الخمسينيات جعل المنطقة على كف عفريت. عمليات التعريب التي طالت المناطق الكردية وتغيير أسماء القرى، وحرمان بعضٌ من الأكراد الجنسية السورية تحت ما يسمى مكتوم أو أجنبي بانهم عبروا الحدود من تركيا. وغير ذلك. منع الآباء من تسمية مواليدهم بأسماء كردية. التغيير الديمغرافي لم يقتصر على المناطق الكردية في سوريا فقط. بل في الجانب التركي أيضا، حين قامت الحكومة التركية بتوطين مئات الآلاف في هضبة الأناضول إبان الحرب بين روسيا والعثمانيين خوفاً من تحالف الأكراد مع الروس، وسميت العملية ب تتريك.

يتكلم عن تاريخ المنطقة وما لحق بها كثورة حاجو آغا، ومطالبة أهل الجزيرة بالحكم الذاتي، على غرار دولة الدروز والعلويين. وكانت المنطقة على وشك حرب اهلية لولا وقوع الحرب العالمية الثانية. والحديث عن تفاصيل عيد نوروز، وكيفية تعامل المخابرات مع العيد والأكراد وحملات الاعتقالات. وشرب منير لأول مرة العرق في تلك الأثناء رغم أن والدته كانت ملتزمة وتقرأ القرآن.

     يصف المكان بعد تلاشي الطرقات وتشقق الاسفلت. ويصف الحيوانات والأطفال. يذكر هجرة الأرمن إلى أرمينيا. ويدخل في الحديث عن بعض الأشخاص كالراقص حسنيكو والذي كانوا يلقبوه بــ "الراقص الهندي". يتكلم عن خيم الغجر على طريق العنترية شرقاً والسهرات التي كانت تقام هناك بشرب الويسكي والرقص مع النساء وأزواجهن يعزفون على الآلات الموسيقية. كان يعشق الأغاني الفرنسية واليونانية، حين كان يسمعها من راديو أخيه "الترانزيستور". في امتحانات الشهادة الاعدادية، يرافقه ألمٌ في الخاصرة اليسرى، والتحاليل لم تكشف عن شيء، مما جعلت الأخت والأم في قلقٍ دائم.  وفي منتصف الامتحانات سحبوا الأوراق من الطلاب بسبب حرب حزيران 1967.

يتحدث عن تفاصيل حرب حزيران والعار الذي لحق بهم، وبعض التفاصيل عن حالة حب مع فتاة دون تطور الاحداث بينهم، وحصوله على شهادة الدراسة الإعدادية مما جعل أخاه بدعوته لشرب النبيذ في نادي الموظفين. وبعد عودتهم دس في جيبه سبع ليرات، ليذهب إلى الماخو، "أول امرأة عارية شاهدتها في حياتي كانت عاهرة ".

الحديث عن الدراسة الثانوية ومرافقته لبعض الشبان كانوا ينتمون للحزب الشيوعي مما أدى إلى طلبه للأمن بغية التعاون معهم، لكن تدخل الأخ في حل الموضوع ابعده عن ذلك بشرط أن لا يتردد لعند الشباب. والحديث عن الأحزاب التي كانت في المنطقة.

الحديث عن السينما والافلام التي كانت تعرض وأول مرة حينها كان يكتب مقال في النقد السينمائي عن الفلم الفرنسي "لا غراند ڤادرويل" باسمه المعرب "الرحلة الكبرى". والحديث عن فيلم فندق الأحلام لدريد لحام وصباح، الفيلم الذي أخذ شهرة كبيرة في المدينة بسبب مقطع ظهرت فيه صباح بصورة شبقة بعد خروجها من مسبح الفندق، ويلتصق ردائها المبلل الشفاف بحلمتي صدرها. والحديث عن بعض الصداقات. وانفجار دولاب شاحنة في شارع مروان حين كان ينفخه السائق مما أدى الى موته.

الانقلابات التي حصلت في العراق، واستلام حزب البعث الحكم هناك. سفر الطلاب إلى الموصل وتعرضهم للتفتيش من قبل المخابرات بعد أن قام احد الطلاب بإخراج مسدس بلاستيكي من النافذة معبراً عن فرحه لوصولهم إلى هناك. الاقامة في فندق دون أسرّة على فرشات. زيارة المركز الثقافي في القامشلي. يقرر البوح بحبه لجورجيت بكتابة رسالة لها، يرميها أمامها ولا تهتم بها، مما يجعله يشعر بالإحباط بعد أن أسرف وقتاً طويلاً لكتابتها. الحادثة هذه دفعته لكتابة قصة قصيرة تدور حول حب شاب لفتاة تقوم برفضه، وأرسلها إلى الصفحة الأدبية لجريدة الثورة في دمشق. حين نشرت القصة عرضها صديقٌ له في المدرسة لأستاذ اللغة العربية. يتردد إلى المركز الثقافي وعن أمسيات شعرية لصبحي هناك. "في إحدى الأيام، كنّا صبحي وأنا في طريقنا إلى المركز الثقافي حينما سألنا زميلنا في الصف سليم بركات عن وجهتنا إلى المركز الثقافي، قال صبحي. هل بوسعي المجيء معكما؟ . بعدها كنّا نقابله كل يوم هناك، وبحسبي أن قرأ مكتبة المركز الأدبية كلها في فترة زمنية قياسية. أحياناً كان يرافقنا في مشاوير شارع القوتلي. سليم كتب الشعر أيضاً وصار ينشر في صحف دمشق".

يحصلون على هاتف ويذكر الرقم. والاتصالات التي كانت تأتيهم لأهل الحي بما أنهم كانوا الوحيدين الذين يملكون هاتفاً. نجاحه في الثانوية، ورغبته في دراسة السينما، لكن لم تكن متاحة، مما جعله يختار الفنون التشكيلية، ليغادر القامشلي مع صبحي الحديدي إلى دمشق والدراسة هناك.

بهذه التفاصيل التي ذكرتها كانت حياة منير المجيد أو منير عبدالله كما يعرفه القامشلاويون في ذاك الزمان. سردٌ للمدينة بشكلٍ تفصيلي ودقيق، لم ينس ذكر أسماء المناطق في المدينة، والأشخاص، الذين كان لهم أثر فيها، سلباً أم إيجاباً. بعض الأطعمة وأنواعها. الأعياد والمناسبات. الحجر والنباتات والحيوانات. الحوادث والكوارث. كتابٌ يدخل في تفاصيل المدينة وسكانها بشكلٍ كبير، لم يقترب في الحديث عن مشاعره بعمق، ذكر بعض المواقف التي حصلت معه بشكلٍ مناسب، صداقاته واهتماماته كان لها دورٌ جميل، لكن دون الحفر في عمقها.

الكتاب يحمل اسم العنوان أكثر من أن يحمل اسم المؤلف. استطاع في بعض الأماكن التوازن بين الاثنين، وفي بعض الأماكن كانت قامشلو موجودة أكثر. الجميل والغريب في الكتاب، هو طريقة الحفر في الذاكرة بشكلٍ استثنائي يضع القارئ في حالة التعطش للحدث الذي يليه، أي كان التشويق مُخيماً على صفحاته وبين أسطره. وكما قال محمود درويش "بدون الذاكرة لا يوجد علاقة حقيقية مع المكان". وعلاقة منير بالمكان كانت حقيقية لدرجة كبيرة، جعلته يسّطر كتاباً كاملاً مؤلفاً من 130 صفحة عن مدينةٍ كان لها وقعٌ جميل في ذاكرته ومشاعره، وجعلته يكتب عنها بعد خروجه منها بعد أكثر من خمسين عاماً. المكان الذي نبدأ به حياتنا ونتعرف فيه على مشاعرنا وهواياتنا وصداقاتنا، يقيم في الذاكرة كصفحةٍ من كتابٍ مقدس.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية