كيف للقراءة أن تكون لذّة؟

القراءةُ سفرٌ، رحلةٌ في لغة النَّص المرصود للقراءة: سفرٌ واختراقٌ. وما دام السَّفرُ انفتاحاً على الآخر، أي معرفة به واكتشافًا له، فالقراءة هي إدراك بأحوال هذا الآخر وشؤونه، إنّها مرورٌ في تضاريسه واستكشاف لعوالمه ومخاتلاته، وهي بذلك نشاطٌ، اقترابٌ وعشقٌ لا يتوانى عن الاتصال بموضوعه- النص- دون تحديد ماهيته، فربما يكون المرصود أدبًا أو لوحةً فنيّةً…إلخ. والقراءة بوصفها فاعليّةً ووظيفةً لإدراك العالم عبر مساحة النَّص ولغته، تتموقع -وهذا قدرها- في فضاء القارئ والنّص، لكونها ثمرة صدمة، ونتيجة اشتباك بينهما؛ ومن هنا تفترض وجود هذين الحدين، ودونها لا وجودَ فعليًّا لهما. فالنَّصُّ يبقى في حالة كمون من دون “حدث القراءة” الذي ينقُلهُ بمجرّدِ اشتغاله من الوجود بالقوة إلى الوجود الفعلي، من السُّبات إلى اليقظة. والقراءة، كذلك، في اقتراباتها من الموضوع، تتسلّح بالإصغاء إلى روح النّص ولغته وحركته المتغيرة و/ أو المستمرة، وهي بذلك رصدٌ لعذابات القارئ من جهة، ومعرفة لعلاقة النّص بالعالم والواقع، وكيف يحيل إليهما من جهة أخرى، وكيف ينجز قطيعةً معرفيةً/ جماليّةً معهما. فالنّصُّ صياغةٌ جديدة للعالم، والقراءة إصغاءٌ إلى هذه الصياغة. إصغاءٌ إلى الأصوات البشرية التي ما تلبثُ -بعد إتمام ولادة النص- أن تنبعث من مغاراته وكهوفه؛ ذلك أنَّ النص ما هو في النهاية إلّا أقوالٌ من هنا وهناك، استجلاباتٌ، حُرِّفَتْ وصِيغَتْ من جديد عبر لغته، عبر رؤية ما. لكن هذه “الأقوال”، هذه “المسروقات” أصداءٌ قديمةٌ وجديدة، تتردَّد بصوت مبحوح في أرجاء فضائه اللغوي والشكلي.

إلى فضاء هذه المساحة اللغوية تُقدّم القراءةُ، وتكون في ضيافة النَّصِّ لتقيم هناك، وبهذا الحضور على تخومه أو فيه، تختلسُ النَّظر، وتسترق السمع لأسرار النصّ وحجراته المغلقة، لتكون شاهدًا على ما يقوله وما لا يقوله، على المفكَّر وغير المفكَّر به من لَدُن المؤلف. وهكذا فالقراءة تُقدِّم ذاتها بوصفها إنتاجًا وكتابةً للموضوع، أي نصًا آخر يتشكّل مع و/ أو بعد الانتهاء من قراءة النص المرصود.

وفي واقع الأمر، نحن نتكلم على القراءة المنتجة، القراءة بمحصول وفير. والقراءة في غفلة من قارئها ترتكب خطيئة التفكيك وتنسلُّ إلى جسد النصّ؛ تبعثره تاركةً إياه نهبًا للتأمل والتشريح، وإلّا فكيف لها أنْ تكون مُنتجة وفي الوقت ذاته لذّة؟ فهدف القراءة من مقاربة النصّ هو الكشف عن فضائحه، حيث كل نص يخفي فضائح المؤلّف ومراوغاته للُّغة، أي أنَّ القراءة حين تمسُّ النصَّ؛ فإنها في الواقع تأمل بالكشف عن المغيّب فيه وإضاءة زاوياه المعتمة. وتقف القراءة على مدار الرعب الذي انطلق منه النص وتشكّل. ألم نقلْ إنّها لا تُتقن سوى الإصغاء والتنصت والتحرُّك مع حركة العلامات (المفردات) أفقيًا وعموديًا، وذلك بعد أن تُشعل في النص أسئلتها؛ فكلُّ قراءةٍ سؤالٌ أو مجرّة تساؤلات واستفزازات للمقروء؛ ودون تسديد الأسئلة إلى خاصرة النَّصِّ، لا يمكن الركون إليه، فهو يمارس المراوغة والمخاتلة، وبخاصةٍ النصّ الأدبي، لأنه يلعب لعبة الظلال والأضواء: نهار وليل، ثنائيات زمنية ومكانية تحكمه، هكذا ينبني النص؛ حينًا يبوح ويومئ وآخر يسكت ويصمت، يقول القليل ثم يتنكَّرُ للذي قاله، كالمرأة المتمنّعة تمامًا، لا شيء يكشفها سوى صمتها! وهكذا هي اللغة في علاقتها بالقارئ والوجود والواقع. على أن القراءة، لكي تُداري شؤون النصّ من صمت وممانعة، عليها أن تتقمَّص دور العاشق تجهد وتناور: أن تقوم بمغامرة استدراجه بهدوء إلى فضاء الإغواء، أقصد ساحة الاستنطاق والتفكيك. كلُّ ذلك في محاولة للإيقاع به وكتابته، أي جعله فعالية مُنتجة، فلا يكفُّ عن الإنتاج الجمالي والدلالي، مع كلِّ قراءة جديدة. وعلى هذا الأساس فالقراءة –أيضًا- هي نصّ لم تعدْ وظيفة شفويّة، أو كلامًا طارئًا يُقال في مناسبة ما، ليُعلي من شأن الحضور الميتافيزيقي للمعنى والمؤلّف. فهي لم تعد بحاجة إلى هذا الحضور. لقد ولّى زمن المؤلّف الذي أعلن عن موته مع “ما بعد الحداثة” وأضحى النصّ وفق مفاهيم “ما بعد البنيوية” ملكًا للقارئ أي للقراءة بعد أن جُرِّدَ المؤلّف من حقوقه وممتلكاته المزعومة.


إذًا، القراءة عندما تُغازلُ النصَّ إنما تحاولُ أن تنبني كنصّ، ككتابة، فهي انكتاب للموضوع المرصود واستنطاق لطبيعته وعلاماته وأنسقته، برؤية أخرى، رؤية القارئ، هذا القارئ المتعدد في حقيقته (في تكوينه) والمختلف والمُختَرقُ من قبل كتابات وقراءات متعددة، أقصد القارئ المتشكّل كنتيجة لما قرأ ويقرأ؛ فهو كائنٌ لغويٌ عرْضة لاختراق اللغات والمفاهيم والأفكار. إنه بمنزلة مسطّح مفهومي بلغة جيل دولوز، تتقاطع فيه الأفكار وتتشابك ليبدأ القراءة ويُفعِّلُ النصَّ المقروء، يُخرجه من صمته وبُكمه، إلى مشهد حواريّ. وفي إثر ذلك تبدأ رحلة القارئ في مجاهيل العلامات وعتمتها؛ كما لو أنَّ النص أرضٌ لا تعرف نعمة الضوء. وقراءة اللّذة لا ترصدُ النصَّ لهدف إيديولوجي، ولو أنَّ كلَّ قراءة آثمة في النهاية، أي ليست بريئة من أثر أيديولوجي، أقولُ: تتجاوز قراءةُ “ما بعد الحداثة” ملامسة الدّلالة المباشرة أو أن يتحول النصُّ إلى انعكاس لمنطلقاتها، إنّها تتجاوز هذه السّطحية، وتأنف عن ممارسة الأيديولوجيا في تفكيكها للموضوع حيث تقوم استراتيجيتها على ترك النَّصِّ يقول ما يريد. فتطرح عليه الأسئلة وترافق حركة العلامات في اصطدامها بأسئلة التفكيك. فليس ثمة من دلالة معدّة سلفًا في النص، وإنما تتشكل مع فاعلية العلامات (الكلمات) في عملية القراءة وليس قبلها. إن النصّ كائن أجوف، فارغ (كما يقول بارت) يأتي القارئ ليملأ فيه التجاويف والثنيات، فدلالته ليست شيئًا متعاليًا على تجربة القراءة، كما أنّها ليست شيئًا أوْدَعَهُ النّاصُّ (الكاتب) في جوف الكلمات. وعلينا عندئذ التنقيب والبحث عنها، إذ المعنى ليس جوهرًا يقبَعُ في أعماق النص بل شيء عرضيّ، فلا دلالة لنصّ دون قراءة حيث المغزى يتراكم من خلال الاستنطاق والتفكيك. من هنا وجود أكثر من قراءة للنص الواحد مثلًا “أنشودة المطر”، ذلك أنَّ النصوص الرفيعة تَتَمتَّعُ بلغة عاتمة كتيمة لا تستنفذها القراءات (المواقف والمخاطبات/ النّفري). وما تعترف به القراءة من دلالة هو الدلالة النصية التي تتراكم مع اشتغال النص وتصادمه بالقارئ، أي حينما تفجره القراءة من الداخل، ولهذا فما تُعيره القراءة من انتباه هو النصُّ وليس المؤلّفُ، فالعصر الراهن هو زمن القراءة والقارئ، زمن موت المؤلِّف وإزاحة ظلاله عن المقارنة النقدية. لقد جاءت “ما بعد الحداثة” لتضعَ حدًّا لهيمنة المؤلّف على الدّراسة النقدية، ولتصدعَ من إمبرياليته وتفرّق وتشتِّت ظلاله السوداء في تحديد الدَّلالة والمغزى. لقد غاب القارئ طويلًا وهُمِّشَ وتأجّلَ دوره كثيرًا وأقصي بوصفه مسهمًا في تخليق النص وإنتاجه، وهكذا كان لا بد من أن تستقيم معادلة “الاستجابة والتلقي” على الشكل التالي: نص+ قارئ= قراءة.

لقد أُزيح المؤلّف عن عملية تلقّي النصّ ومقاربته، فالنصُّ بمجرد انتهاء المؤلّف (الناصّ) منه يخرج من ملكيته -كما أشرنا- ليُصبح في عداد أملاك القارئ والقراءة. عندئذ لا بد من أن تشتغلَ آليات القراءة وتقترب من النَّص، وهدفها أن تلتذ وأن تتحول من فعالية ميكانيكية إلى وظيفة دينامية: بالانتقال من الكسل (القراءة السيرية) إلى الاستنفار إزاء الموضوع. وإذْ تفعلُ ذلك: فإنَّما تهدف إلى إماطة اللثام عن النصّ حدثًا: كيف يُنتج الدلالة ويمتص العالم. وما شكل المعنى وكيف يتكوّن، فضلًا عن كيفيات الإحالة على الوجود وقوانينها. فالنصُّ تعبيرٌ حيٌّ عن تغييرات وتصدّعات “الحساسية” تجاه العالم المعيش، ولهذا فقراءة “ما بعد الحداثة” مشغولة بالنص كالعاشق مشغولًا بالطرف الآخر. من هنا لا تستطيع الفكاك عن موضوعها. ما إن تتركه تعود إليه لتقرأه مرة أخرى وأخرى، هكذا دواليك.

وتمرُّ القراءةُ في أطوار ومستويات، كما أنَّ كل نصّ يفرز نوع القراءة أو يحدّدُ مداخلَها ومع ذلك فكلُّ قراءة هي اقترابٌ ولمسّ. فجأةً تكتشف مناطقَ رخوةً في جسد النص فتتموضعُ فيها مؤقتًا، ثمَّ تتحرك في جغرافيا اللغة وطيّاتها تبحثُ عن منافذ وشقوق وأرصفة النص؛ لتهبط منها إلى جيولوجيا الدلالة المتعددة، ويبدأ القارئ بالاستماع إلى العصور. أليس النصُّ تاريخًا غارقًا في القدم؟ ذلك ما تقوله المفاهيم التناصّية، فأيُّ نصّ هو نسيجٌ محبوكٌ من نصوص، شذرات لغوية معروفة وغير معروفة النّسب: قَدمتْ إليه من أقاصي الثقافة، وبذلك يغدو النصّ بؤرةً أو أثافيَّ تتشابك فيه النُّصوص، تتحرك وتصطرع، وبالتالي فهو ساحة لصراع الذّوات والرؤى المتنوعة. كلُّ نصّ هو مجموع الذوات أيضًا، تلك التي انصهرت في لغته (نتكلم بالطبع على تفاعلات النصوص) فتأتي القراءة وتكشف عن هشاشة الذات الكاتبة في صنعه. من هنا، يجب أن نفهم مقولة “موت المؤلّف” في خطاب ما بعد الحداثة، فليس للنص بالمعنى المجازي مؤلِّفٌ واحدٌ، وإنما مؤلفون كُثُر يخترقون الذات الكاتبة لحظة انبناء الكتابة، ويتموضعون هناك، لينسجوا خفيةً مع المؤلّف الأساسي خيوط النصّ ونسيجه، يتنحّون عن الإطلالة المباشرة، ويهسهسون بصوت مبحوح حال نشيد الإنشاد مع نصِّ “يطير الحمام” لمحمود درويش. فما النصّ إلا ظلالٌ للنص الغائب الذي غُيّبَ في النص الجديد.

وعلى غير العادة، تستيقظُ القراءةُ وتستطلع “مدار الرعب” هذا وتبوح بهذه الفضيحة وتكشفُ أنَّ النصَّ طبقات جيولوجية من النصوص والدلالات، متحولة عن سياقاتها الأصلية وداخلة في مصهر نصيّ جديد لتغدو جزءًا من النص المتشكل راهنًا، ولتدّون “ما بعد الحداثة” قانونها في الكتابة: كلُّ ما يُقال قد قيل سابقًا، وكلُّ ما قيل يُقالُ بطريقة جديدة.

في هذا المدار، تكمن مكامن اللّذة والإبداع وصياغة العالم عَبْرَ اللُّغة وباللغة، تكمن متع القراءة، ولذلك تغدو القراءة مغامرة شاقّة في عالم المجهول، عالم العلامة، تحدّيًا من القارئ لمواجهة كتامة اللغة وعتمتها، وثورةً ضد استبداديتها، كما لو أننا بها نتحرر من إسار اللغة وقيودها، لنعيشَ ثانيةً جماليات الأشياء وطزاجتها. فكم منا يعيش تَسلُّطَ كتاب ما، كاتب ما، ولا يدعنا نفكّرُ إلا من خلاله، من خلال صوته، يشترع لنا طرائق الرؤية؛ فنُصبح في ممارستنا اليومية نسخةً عن هذا الكتاب أو ذاك المؤلِّف. ولهذا لا شيء يخيفُ الكُتّاب سوى القراءة، عندما تدكُّ عتبات النص دون تحديد، تلج ليله وتضيء ظلماته، وهي، بهذا الشكل، تغدو معرفةً بخباياه وجمالياته وتكوينه، وبهذا الشكل تغدو سفرًا، متعةً ولذّةً.

دمشق 1996

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية