تنبهتُ من نومي فجراً، الساعة الثالثة، من يوم السبت 12-2/ 2022، دققت في موبايلي. لم يكن ذلك الاستيقاظ المفاجىء دون سبب، كما لو أن هناك هاتفاً خفياً، ومؤلماً، ويأتي من بعيد، في لحظة لا تقدَّر في وجعها وسطوتها ومحتواها حرَّك هذه اللحظة غير المرغوبة. كانت لحظة سماع رحيل أبو رشيد: محمد سيد حسين. يا للصدمة الأليمة !

لم أستطع نفي الخبر..وقد اتصلت في الحال بالصديق إبراهيم يوسف، وأنا متلبك، وبي وجع مرَضي منذ أيام، فأكد صحة اللحظة القاتلة: وقد ودَّع الروح في بيته ، مصاباً بكورونا، الجمعة مساء: 11-2/ 2022، ومعه ابنه الكبير: رشيد..! يا لمفارقة الرحيل الكبيرة الكبيرة الكبيرة.

أي جسد نحيل وهو يشكو عللاً كثيرة، أفظعها، وأوجعها مرض أكثر من مرض، مرض الأعصاب المحيطية، الذي لطالما كنا نتحدث مع بعضنا بعضاً، وهو في تشيك" تبليتسي، وهو يشكو ألم هذا المرض الذي ينفذ في كامل الجسم: لحماً وعظماً، وهو في عمره المتقدم...

لطالما كان يشكو حرقة هذا المرض، حين نتحادث، وفي الفترة الأخيرة، ويشكو ذاكرته التي لم تعد تسعفه كثيراً، في سرد ما كان يحدث في وسطه، وصعوبة الحديث عما كان يقرأ أحياناً، حيث النسيان كان يجتاح ذاكرته، وكنت أقدَّر وجعه المضاعف، البكاء الصامت الذي يشبه الاختناق، حيلة العاجز عن فعل أي شيء، ولديه رغبة في أن يكون نشطاً، كما كان في ذاكرته، أن يمضي مع كتابات أرادها أن تبصر النور وهو يقاوم الألم، ويا لها من ذاكرة كانت في رحابتها وروعتها، وها هي نفسها تنغلق على نفسها، ها هي تنزل ستاراً أبدياً على حاملها، على نفسها، وإلى الأبد على وقع الرحيل الأبدي، رحيل من عاش مأخوذاً بحياة تسمّيه في العمق..

ها هو الكبير الأثر...عفواً.. عفواً، وأنا أكتب هذه الكلمة، جاءني صوت العزيز نجله الكبير رشيد، وهو بجوار والده المسجى وقد أصبح في عهد موت ثقيل الوطء منذ ساعات، راداً على نعيي السريع لهم، ليعلمني أنه أيضاً في هولير ، لينطلق صباحاً صوب قامشلو ، ولنتواسى معاً، فأواسيه وبي وجع الأخ للأخ، عارضاً عليه الذهاب معهم صحبة الجنازة حتى حدود سيمالكا، فلا يقبل بعد إبداء التقدير، لأن وضعي الصحي لا يساعدني كما يجب من المضي إلى هناك، لنتحدث عن اللحظات الأخيرة في حياته، والألم الذي كابده عموم أفراد أسرته وأهله عن قرب، وحيث كانت أم رشيد: هي التي أشغلتهم كثيراً هي الأخرى بوضعها الصحي المتدهور، وليتقدم عليها أبو رشيد بثقل مرضه: الكورونا، مضاعفاً ألمه وألم الأهل، ويعنى به، كما تكون العناية، لعله يتحرر من سطوة كورونا... إنما للأسف.. لقد نفد رصيده الحياتي، وليخبرني العزيز رشيد، أنه قدِم سريعاً من تشيك، على أمل أن يراه وعيناه مفتوحتان، إنما ...وكان قد فارق الحياة..تلك صدمة أخرى في مفارقات الجاري .. 

ربما هي المرة الأولى التي أكتب بالطريقة هذه، مبعثراً جملي، كلماتي، رؤاي عما جرى، وأنا أستعيد شريطاً لا يحاط به عن هذا الإنسان الإنسان، وكيف دخل حياة حياة بجدارة مسجَّلة ..

أبو رشيد الكبير :

يا عزيز الروح التي عرفتْ بك طويلاً، ولم تبخل بكدك الحياة، في أن تمنحها شرف الإقامة في حياة لا تتوافر مكانة واعتباراً لأي كان من كرديتها، لا بل من كردستانيتها  !

يا عزيز القلب الذي يتبصر الأشياء في عميق معانيها، وفرادة الربط بينها، كما لو أنها تتفهمه وتصغي إليه بعمق .

يا عزيز القول والفعل أبو رشيد، كما تشهد قامتك الشامخة على شجاعة الرؤية، شجاعة الرأي، شجاعة التفكير، شجاعة الكتابة، شجاعة التعبير عما تحسسته طويلاً، وعانيته طويلاً طويلاً...يا للرصيد الكردي الإنساني الباهر!

أيها الأخ الأخ الذي عرفته طويلاً، الأخ الذي تقاسمنا هموماً كردية في شأنها اليومي، وفي وضعها الفكري والأدبي، وفي حال الكردية وأحوالها ومن يتنفسونها ويتعاطونها، طويلاً طويلاً!

أبو رشيد، محمد سيد حسين، الإنسان الكاتب، الكاتب الإنسان، الكردي الذي ارتقى بحياة كلمة تنفس فيها النثر والشعر حامليْن بصمته التي لم تشبهها بصمة أخرى لأي كان، كما تشهد كتاباته المطبوعة التي تناولتها سابقاً، وكتابات أخرى لا بد أنها تنتظر الإقامة شأن شقيقاتها المطبوعات، في القرطاس، وفي كتب تستحقها باقتدار ..

أبو رشيد، الذي آخى بين شعر بالكردية، ليس كأي شعر تعبيراً، وتوصيفاً وتمثيلاً لحيوات تترى، ونثر بالكردية، ليس كأي نثر ، كذلك، تعبيراً، وتوصيفاً وتمثيلاً لحيوات تترى.. وفي تنافس ودي كان يشهد على القدرة اللافتة في مناقشة قضايا، ما أدقها من قضايا، وهواجس تتجاوزه، وهي في كردستانيتها الجلية طبعاً !

أبو رشيد، أي محمد سيد حسين، أيها الكاتب الكاتب، أيها الناطق بلغة ابتدعها لنفسها، بكلمات تشير إليه في ثراء دلالاتها ومنابتها الكردية الأصيلة وفولكلوريتها، لكم أفلحت في تدبير ما يرتقي باسمك كاتباً كاتباً بامتياز ..

كثيرة هي الطرق، الدروب، التي عرفتك في خطاك، وأنت تلتقط الإشارات لتحيلها كلمات مضاءة بك، وأنت بين شاعرية قريتك تل عربيد، وقامشلو، حيث بيتك الحجري الآن يبكيك كما تستحق، وتشيك التي أورثتك أوجاعاً وأنت في وحدتك، وعينك على محيطك القامشلوكي، كما لو أن صهارة روحك الحية والوقادة هناك، وفي وضع شهد انفجار البلاد، وتشتت العائلات، الأصحاب، الأخوة والأخوات، الجيران، المعارف، حتى المكان الواحد نفسه تمزق، ولا زال التمزق طابعاً كل شيء، وأوجاع الفراق، والمعاناة المترتبة على تمزقات كهذه، وأن في عمرك المضني، وفي مرضك المضني، وروحك المضنية حتى اللحظة الأخيرة ..

أي حزن أكبر ممن يُرى فيه هذا الحضور الكردي الذي تشهد كتب تقاوم النسيان، كتبه، تشير إليه، إلى اسمه، وقد رحل أبدياً، وللحزن أنساب ومراتب ، أسماء ومذاهب..هناك أكثر من حزن، ففي حزن من هو كبير، ثمة ما هو أكبر من الحزن المعتاد، والحزن الموصوف في الكتب وعلى ألسنة العامة.. حزن يكون في مقام عالي القامة الكبير هنا: أبو رشيد..

أي مأساة لحرف لا أظنه عادياً، حرف متشح بالسواد الجليل الذي يليق بالاسم الذي منحه الكبير من الدفق الحياتي !

أي عجز عن وصف فاجعة الغياب الأبدي لمن عرفته عن قرب، لمن تشهد الأيام على روعة ما كان، وهي لحظة الفراق المباغتة تمضي به إلى عالم آخر...تبقى ذاكرة الألم في الواجهة الآن ..

تبقى المؤاساة وتحمل ألم اللحظة المرة، والصبر والنظر بعيداً، تقديراً لمن يستحق التقدير ..

لأحبة أبو رشيد: أم رشيد الغالية بداية، وأفراد عائلته: العزيز رشيد وأخوته وأخواته، أخوة أبو رشيد وأخواته، أحبته من الأصدقاء والأصحاب والمعارف،وما أكثرهم، ما أكثرهم لقاء عمر مديد ومفعم بثراء الروح وألقها.. للأخ الكبير شأناً :

عزاؤنا الجمعي لكم.. عزاؤنا العائلي، عزاؤنا الكردي- الكردستاني، من هنا إلى رحابة قامشلو الحزينة، وحداد تل عربيد قريته.. عزاؤنا لكم، وهو عزاء مشترك.. وهو عزاء حياة وارف الظلال، عزاء من أمِن على نفسه لكي يبقى الاسم الذي لن يفلح النسيان في طي ولو لحظة شاردة منه، وقد حل في ذاكرة جماعية كردستانية الاسم والمسمى !

دهوك، فجر السبت، 12-2/ 2022 

ملاحظة: جرى تصويب خطأ في النص،وهو أن الراحل أبو رشيد، توفي في بيته وليس في أحد مشافي هولير، كما نمّي إلينا كتابةً. كامل الاعتذار للقراء الأحبة ، وللموقع .


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية