"من ينظر إلى امرأة ترتدي ثيابها، أو تضع المكياج فلا بدّ أن يكون فيلسوفًا أو مجنونًا" هذا ما قاله بلزاك، فما رأي بلزاك في رجل لا ينظر بتاتا إلى امرأته وهي تتبرّج أو تستحمّ أو ترتدى ثيابها، ما رأيه؟ تلعثم وراح يعبث بالسيجار بين يديه، ويرفع كأس النبيذ إلى شفتيه، وقبل أن يلثم شفته وضعه على الطاولة بحركة عصبيّة، وترك مقعده، واتجه نحو النافذة المطلّة على البحر، وقد بدا الموج المتلاطم يتدحرج نحو الشاطئ، ليُلاقي حتفه على الرمل الحار في لهيب شهر آب أغسطس، لم أستغرب حركته العصبيّة، ففي النهاية هو رجلٌ شرقيّ.

أخذت فنجان قهوتي، وسكبت المزيد، واستندت إلى الحائط القريب مني، وأخذت هاتفي، وراحت أصابعي تعبث بمفاتيحه، لم أكن أدري عما أبحث، حتى وصل بي المطاف إلى قناة اليوتيوب، واخترت أوّل أغنية صادفتني: أمّ كلثوم والأطلال. الأطلال عنوان قصيدة فريدة، سرقت قلوب الكثير من المعجبين، أما أنا فمجرّد العنوان يصيبني بنوبة عصبيّة، لا تستغربواُ وتستعجلوا بالحكم عليّ، فلكلّ واحد منّا مذاقه في الأغاني، وفِي الكلمات والصوت والموسيقا، اعتراضي ليس عليها بل على المعنى المبطّن الذي تحمله في طيّاتها الكلمات: " أعطِني حرّيّتي أطلقْ يديّا" جملة تصيبني بالإعياء، وأجزم أنّ كلّ امرأة تعشق الحرّيّة سيكون لها رد الفعل نفسه.

ما بالنا نحن النساء ولا سيما العربيات، نترك الحاضر، ونعود إلى الماضي نجلس القرفصاء حول الخيام المهدومة، وحول رماد المواقد، ونبكي على من كانوا يشغلون المكان، نبكي على الأطلال، ونُمجّد قيودا، ونتغنّى بعبوديّة المرأة، قيد أدمى القلب قبل المعصم، ونبجّل عهود رجل لم يصنْ واحدا منها، والمرأة المسكينة المتّشحة بخمار العشق حتى الآن تُبقي عليه برغم كلّ عاهته، وما فعله ويفعله في حياتها من استبداد، تبًّا، إذا كانت هذه هي الرومانسية فلا.. لا أريدها، أريد أن أعلن الثورة عليها، وأن أتحرّر منها تماما، ما زلت غارقة في أفكاري المتمرّدة وكيفية الإعداد للانتفاضة على عبوديّة الرجل الطاغية، وعينيه الساحرتين وما فيهما من جلال وعزّ وحياء.

خيّل لي أن هذا الرجل الذي تتغنى به أمّ كلثوم ذكرٌ يتبختر كالطاووس، يتباهى بألوان ذكوريته بين النساء، وفِي المساء يجلس على عرشه ومن حوله الجواري وكأنه أحد السلاطين من العصور الغابرة.

لا ينظر إلى امرأته وهي ترتدي ثيابها وتتزيّن، وتضع العطر تحت أذنيها، وتغلّف جسدها المرمري بقطعة قماش حريرية تكاد لا تغطي جزءا منها، وتضع أحمر الشفاه، تبرز ذلك الثغر الكرزي الذي يدعو إلى حفلة عشاء شهية، ويزور معابد نهديها، ومنحنيات خاصرتها، ومغاور سرتها، بأنامل فاحصة، وتمتدّ اللحظات إلى ساعات، ويهيّئ جيشا عرمرما، ليقتحم قلاع كتفيها، ويفترش زنديها، ويقبل أنفاس الحياة في لهب أنفاسها، يغوص في هذا الكائن الجميل، ويرفع القبعة احتراما وإجلالا، تنهد، وأضاف قائلا : يكون زنديقًا من يدع امرأته ترتدي ثيابها، ولا يشارك في تمجيد هذا المخلوق الذي يدعى المرأة. عندها تنهدت واتسعت عيناي، ورحت أحدّق في ظهره ومنكبيه، وأقيس مساحة كتفيه، مشدوهة مشدودة إلى هذا الغريب الذي التقيته للتوّ في المطعم الصيفي للفندق الذي أقيم به لمدة أسبوع في إجازة بعيدا عن ضوضاء المدينة وضجيج المشاغل.

عندما بادرني بابتسامة يسأل إن كان يستطيع مشاركتي الطاولة، أومأت بحركة عفويّة من رأسي بالإيجاب، فجلس وتجاذبنا أطراف الحديث، وكان قرص شمس الغياب كتلة حمراء تتأهّب للغوص في مياه المحيط مثل حوريّة تستعدّ للاستحمام بعد يوم طويل من الدوران في قبة السماء، ربما تبرّد انعكاس اللهب المتصاعد من جوف الأرض، وكانت قد نثرت حممها على طول وعرض المدى، فاصطبغ الأفق كله باللون الأحمر، وبدت صفحة اليمّ غجريّة ترتدي بدلة الرقص المزركشة، وراحت ترقص على موسيقا الموج المتلاطم نحو الشاطئ في حركة آلية تنذر بليلة عشق لفتاة يافعة، تتأبّط ذراع شاب أسمر، يسيران على الشاطئ منهمكين في الحديث والضحك واللعب، حتى جلسا تحت مظلّة مصنوعة من أوراق الموز، وراحت الفتاة تخلع ثيابها قطعة تلو الأخرى، وهو مستوقف إياها بين القطعة والقطعة، يتأمّلها ممسكا بيدها، وتستدير معه وكأنه يريد التأكّد من أنّ كلّ جسدها هنا وعلى ما يرام، وفِي مرمى شفتيه، وهي تضحك وتطبع على ثغره قبلة، وتستكمل خلع ثيابها، وهنا لاحظ ضيفي انشغالي بالنظر إليهما، فقال لي جملة بلزاك الشهيرة: "من ينظر إلى امرأة ترتدي ثيابها أو تضع المكياج فلا بد أن يكون فيلسوفًا أو مجنونًا "

فمن منهم أنت يا تُرى؟ سألته بنوع من الفضول، هل أنت الفيلسوف أم..؟ لم يدعني

أكمل، فقاطعني مبتسما: أنا المجنون.

سحرتني ابتسامته، وزادت رغبتي في عناقه كي أعبّر له عن إعجابي به، وابتسمت لخيالي، ليس المريض بل الجريء:

وماذا عن المرأة؟

ماذا عن المرأة التي تحدّق في الرجل الذي يرتدي ثيابه؟ قال ضاحكا ويضع العطر، ضحكت من انتقائه لكلماته:

ما رأيك؟

لم أستطع الإجابة الفورية، خانتني سرعة البديهة هذه المرة، ورحت أفتّش عن مواقفَ وكلماتٍ وواقع فيه امرأة تحدّق في رجل يرتدي ثيابه دون أن تُنعت بالمجون والخلاعة، امتعضت لمجرد الفكرة، أطلال مجون عبودية، أغلال قيود، متى يحقّ للمرأة أن تحدّق في جسد رجلها دون أن تشعر بعقدة الذنب أو العيب أو الحرام؟ متى تستطيع أن تتمتع بجمال جسد رجلها، والتغزل به دون أن تخشى حكم ضمير مريض، وتعاليم توارثتها من أجيال مضت، ومفاهيم من عهود غابرة؟ أليس الله هو من خلقهما ذكرا وأنثى؟ أوليس حين خلقهما كانا عاريين، ولَم يخجلا من جسديهما؟ تململت في مقعدي، وأنا أرى علامات الاستفهام في نظراته إليّ، ينتظر مني الإجابة، أصابتني الحيرة.

جميلة قال؛

من أجبت

عيناك

تلبّكت مثل طفلة

جميلتان عيناك وهما تعكسان صورة البحر،

ليست زرقاء

لا أقصد اللون بل الموج.. العمق.. الأسرار

ابتسمت وقلت: شكرًا.

لم تجيبي بعد، آسف إن كنت قد أحرجتك.

لا.. لا أبدا، ولكن ما زلت أفكر.

تفكرين بإجابة دبلوماسية منمّقة؟

لا.. لا

لا بأس لم أقصد إرباكك.

وكان على حقّ، فلقد كنت مرتبكة للغاية، ليس من الإجابة وحسب، بل كنت مرتبكة في إحصاء عدد ارتعاشات جسدي تحت وطأة نظراته، وتحت إلحاح خيالي الذي يحثّني على عناقه وتذوّق شفتيه.

لا بدّ أنّ هناك شيئا في القهوة، نوعا من المُسكر، قلت له، وضحكنا معا، أعتقد أنهم مزجوا مشروب المارغريتا مع قهوتي، لذا تراني مشتتة مرتبكة..

لم أكمل حين شعرت بضغط يده على يدي، قادني إلى حلبة الرقص مطوقا جسدي المرتعش بكلتا ذراعيه، مغلفا روحي بدفء أنفاسه، قابضا على كياني بسحره، استسلمت بين يديه، تركته يقود خطواتي، وأنا أرقص طربا، نشوى عشقا، وكلّي متأهّب وكأنّي في ساحة معركة.

اقتربت من أذنه، وهمست: لم أرَ بعدُ رجلا يرتدي ثيابه، ويتدثّر بعطره، فانحنى قليلا، ليسمعني عن كثب في وسط ضجيج الموسيقا والنَّاس مستفسرا عما قلته له، فقلت: لم أرَ بعدُ رجلا عاريا يرتدي ثيابه، لذا لا أستطيع الإجابة عن سؤالك، استغرب من كلامي، ورفع يدي التي تحمل خاتم الزواج، وقال: وهذا من يكون؟

لم تفهم قولي: لم أر رجلا، وهذا تابع لذكر.

ابتسم، احتضن جسدي من جديد، وهمس: أيتها الأنثى، وقبّل أرنبة أذني، واستيقظت من حلمي على صوت الرعد في منتصف آب، وأغنية معقول تشتي بآب ترنّ في أذني، نعم معقول، لكن من غير المعقول أن ألتقيك أيها الرجل إلا في أحلامي.

٢٥ آب ٢٠١٨



الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).