لوحة للفنان زهير حسيب

I

عطرُكِ؛

يَسْتَعِيْدُ المكان تحديداً؛ فتنمو بينَ يديَّ تلك البيادرُ المنحدرةُ من التَّل الصَّغير وتمتدُّ بهدوءٍ غريبٍ لتحيطَ بتلك البيوتِ البسيطةِ إحاطةَ يديَّ بخصركِ العالي آنئذٍ...! إنَّهُ عطرُكِ يُوقظُ تلك البيادر الهائجة بروائح الخبَّازى والݒپيْرقلَاجْك والبابونج وأزاهير الأحصنة ليتفاقمَ الحنينُ كثافةً في جسدي. 

ولكنّي لن أتلكأَ؛ 

لأسرد عن شؤون نبتةٍ في أعلى البيادر تنمو بكثافةٍ؛ تشاكلُ رائحتُها الهادئة عطرَكِ تماماً. هكذا ألمسُ أصابعك؛ فتهبُّ روائح العشب البريِّ من تلك الأمكنة العميقة...! 

عطرٌكِ بسيطٌ كسماءٍ زرقاءَ بحيث لا يتكرَّرُ كهذا المكان اللذيذ الذي يتوطّنُ في روحي باغتباط! 

 

II

والحقُّ 

غَالباً ما أُشبّهُكِ بقصيدةٍ نادرةٍ؛ 

ما يجعلني أركنُ إلى غموضٍ شبقٍ كلما ألتقي بكِ على حافَّةِ الحقل، هنا يصحُّ القول: حقل القمح أجملُ من أيِّ وقتٍ مضى! تذكّري: على الحافّةِ الجنوبية منه تماماً مالت علينا السّنابلُ بكثافةٍ غريبةٍ، لتستحيلَ إلى طيور بأذيال مزركشةٍ وأنا أميلُ عليكِ برشاقةٍ المطر. 

وليس من المغالطة أبداً حين أتحدَّثُ عن أصابعكِ،

 أتحدّث مع امرأةٍ ترتدي الصَّباح نعومةً وإشراقةً، أنثى أخرى يختلفُ في حضورٍهَا كلُّ شيءٍ: هنا يلتمُّ الحمامُ على النَّافذة بكلِّ تُؤدَةٍ، الكتب تتراصف بجمالٍ أخاذٍ في المكتبة الصغيرة...! 

على السّرير يومضُ بينَ يديكِ كتابٌ صغيرٌ؛ امرأةٌ مختلفةٌ تمنحُ الفوضى معنىً...! هكذا يمتدحُكِ عاشقٌ فاشلٌ انهارَ في أثركِ في وقتٍ مرتبكٍ. 

عليَّ أن أشيرَ إلى أفقٍ آخر: 

ما هو أكثر جدارةً في مشاغلكِ الكثيرة في البيتِ هو صونُ فناءِ الدَّار؛ هذه المساحة الخضراء التي تجعلُ جمالَكِ فائقَ الثَّراءِ...!!! 

 

III

شَعْرٌ أًجَمَةٌ؛

شفتان تنزَّان عسلاً؛

قوامُكِ الذي يَسْتَفزُّ الدَّهشةَ ذاتِها!!

أنظرُ إلى عينيكِ كما لو أنَّ البحيرةَ التي تَسْتَوْطِنُهَما تناديني إلى أَسْرَار باذخَة، هكذا أَنْسَى ذَاتي، أنني أتفرَّسُ في صُوركِ غير أنَّ ما يشدُّني: هذا العَسلُ الذي يتقطّر من شفتيكِ على نحو مَارقٍ! 

أصابعُكِ زنابقُ خجْلَى حيث تختبىءُ في حضنكِ!

لكنَّ نظراتي تحيطُ بكِ من الجهات كريحٍ تجتثُّكِ من هذا الخَوفِ العَميقِ؛ وأنتِ كما لو أنَّ "بعيداً ما" يفترسُ اهتمامكِ:

 كما لو أنَّكِ تنتظرين عاشقاً منذ ألفِ سنة! 

لن أنسى أن أبوحَ لكِ في آخر الحَفْلةِ: صَوْتُكِ مُمزوجٌ بحنينٍ مجنونٍ! 

 

IV

 

جَسُوْرةٌ أيَّتها العاشقةُ، جَسُورةٌ وكلُّكِ مُشتهاةٌ كَعِنَبِ أيلول...!

 تُلمْلَمِيْنَ العَاداتِ والإرثَ والوصايا الشَّائكة كمن يجمعُ حوائجَ رِثَّةً ثم تَضْطَرِمينَ فيها ضحكةً مدوّيةً!

 ترمي العاشقةُ نظرةً إلى الأعلى حيث عُصفوران يَتَغَازلانِ ثم تُصَالِبُ فخذيها العَاريين فَيُضيءُ العشبُ النديُّ قمراً من نحاسٍ. لاتَسَعُ العاشقةَ إلا غابةٌ على كتفِ جَبَلٍ، لا شأنَ للعشقِ بحربٍ تُدار بأحقاد قديمةٍ، يحتدمُ العَاشِقَانِ، يتوقَّدانِ كأغنيةٍ وحشيةٍ، يَشْتعَلانِ كنيران المجوس في غفوة الإله، تَصْعَدُ بهما السَّماءُ وتهبطُ، تميلُ الأشجارُ يُسرةً ويُمنةً على إيقاع نَايَيْنِ ونجوماً تتناثرُ، تدورُ الغابةُ والأرضُ تدورُ والسَّماءُ تحتسي قهوةَ الرَّغبةِ إذ يَطْعَنُ ضوءٌ جائرٌ ظِلّاً مُشتهى؛ جَسُوْرَانِ أيُّها العَاشِقَانِ! 

إنْ هي إلا رميةٌ وتفترعُ الصَّرخةَ قصيدةٌ من أنين!! 

 

V

أكان 

لابُدَّ من ضِفّةِ نهر لكي يفاجىءَ لُغَتَها؟

تندُّ وردةٌ عن شفتيها إذ تلتقيهِ، تحتفلُ موجةُ ماءٍ بهسيس القبلةِ الأولى إذ تعبرُ بعيداً، يترافقان كطيري قطا، ينظرُ إليها كمن أمسكَ بنجمةٍ في عتمةٍ مستحيلة. يعصفُ به قلقٌ، الحيرةُ تهوي به، تغيبُ فيه اللغةُ، والإشاراتُ، صمتُ المكان ينهضُ بين عينيه كعشبٍ طارىءٍ، يحضنُ وجهها بين أصابعهِ: "مسافةُ من اختلافٍ تبطشُ بالافتراض في بهاء حضورك"؛ يقولُ لها العَاشقُ المقامرُ وهو يرمي وَرْدَهُ جزافاً...! 

أكان لابُدَّ من ضِفّةِ نهرٍ لكي يفاجىءَ يديها؟

في الغرفة يمضيان إلى العِنَاقِ؛ ليَهْبطا في قبلةٍ، تمضي بهما القبلةُ شراسةً ليتخثرَ الوقتُ نكهةً أبديةً على شفاهٍ تسيلان منّاً وعسلاً: "تضيعُ منكَ الخبرةُ"؛ تقولُ له ضاحكةً؛ لتَلفَّ يديها حول عنقهِ؛ فيصعدَان ويهبطان على إيقاع اللهاث: "العشقُ يقينُ الحضور فحسب...!" 

يقول لها ويغفو في يديها شهقةً. 

أكان لابُدَّ من حافة العالمَ لكي يأخذَ الأفق أجنحةَ يمامٍ؟ 

في الطَّريق إلى تلك المدينة حيثُ تزهرُ أصابعُهَا ريحاناً ونرجساً بين يديه، يقطعانِ المسَافةَ الجائرةَ برمشةِ عينٍ؛ كأنَّ لا مسافةَ، كأنّهما يعبران اللامكان...كأنما غفوةٌ تطيرُ بهما؛ سيودّعان بعضهما على مضضٍ بغيابٍ لايندمل...! 

سيسمّي المدينة باسمها، سيسمّي الكافتيرا باسمها، حيثُ انكسرتْ شوكةُ الغياب على شغب شمس الصباح.

 هكذا وحيدان يحنو عليهما الصَّمتُ في غرفةٍ تضيئها خمسُ نجماتٍ، هكذا يضمّهما سريرُ الأبد: عنقٌ رخامٌ، نهدانِ نافرانِ، شفتانِ من وردٍ، سرّةٌ، كأسُ خمرةٍ، حافتان تلمعان، سفحٌ، وردةٌ شقراءُ.. ذئبةٌ وذئبٌ على حافة هوّة يعويان حتى الأبد...! 

ثم كلٌّ إلى بعيدهِ ...!! 

 

VI

كلامٌ أخيرٌ

فِسْحَةٌ أَخِيْرةٌ 

بعد مسافاتٍ وشموسٍ وأقمار، بعد مدنٍ وشجاراتٍ ومباهج بتفاصيل لا تُروى 

أَنْتَظِرُ الحُبَّ الذي لمّا... 

من صَاغكِ بهذا القوامِ؟

مصقولةٌ عوارضُكِ، بهاءٌ صفاؤك، يداكِ سَرْبَا يمامٍ، يا لاشتعالكِ أيتها المصاغةُ من الزَّعفران والنَّارنج، الموشومةُ بظلالِ الشَّجر ويقظةِ الطَّير، نداوةِ العشبِ وسرِّ الليلِ؛ من صَاغكِ؟ من أيّ نشيدٍ للحَجرِ صاغكِ الإله تحت وهج الرّغبة ...؟ 

كلامٌ أخيرٌ

فِسْحَةٌ أَخِيْرةٌ 

سرٌّ

شهقةٌ 

وليلٌ يكحّلُ رموشَكِ بحكاياتِ آفاق بعيدة؛ 

سأدعُ النَّشيدَ مفتوحاً على ألغاز الأبدْ ــ 

وأَنْتَظِرُ الحُبَّ الذي لمّا... 

 

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية