سمي الفن بالايقونوغرافي نسبة إلى الأيقونة وهي كلمة يونانية تعني الصورة. اُطلقت كلمة أيقونة على الصورة الدينية التي تمثل أشخاصا أو مواضيع من الكتاب المقدس، ثم استقرت التسمية على الصورة المرسومة على خشب. وأشهر الفنون الأيقونوغرافية اليوم هي الفن البيزنطي والروسي والبلقاني.

بيئة الانتشار السرياني 

يعد مهد الفن السرياني في العهد المسيحي هو الأقليم الشرقي في الامبراطورية الرومانية. وكان هذا الاقليم المسمى "سوريا الرومانية" يمتد من البحر الابيض المتوسط حتى المناطق التي ترويها مياه دجلة والفرات يضاف اليها مساحة من آسيا الصغرى (تركيا). فكانت تشكل إطارا ديموغرافيا وبيئة سريانية .

يعود الدور الاساسي في تكوين وانتشار ونمو الفن الايقونوغرافي المسيحي كما هو الحال في الفن الهندسي، الى سريان منطقة سوريا وما بين النهرين.

ففي أعالي ما بين النهرين ولدت مدرسة فن تمثل التيارات الثقافية للشرق السامي ولليونان، وفي مدارس نصيبين والرها اللاهوتية وُجِد الدور الموجه لتنسيق مواضيع الكتاب المقدس وتصويرها.

بدايات الفن السرياني المسيحي في سوريا وما بين النهرين 

لقد تأثرت سوريا وما بين النهرين بالحضارة اليونانية لإتصالها وانفتاحها على البحر الابيض المتوسط. وشواهد الفن المسيحي كثبرة فيها. من بينها آنية مقدسة وادوات ليتورجية اكتشفت في بداية القرن العشرين شمال سوريا وفي مواقع قريبة من قبرص وقلقيا وروسيا. فكأس انطاكية وهو من تاريخ 450م (في متحف نيويورك) الذي اكتشف في حوالي 1910. تعدّ من الآنية الفريدة في الفن المسيحي المشرقي. نُقش على جهة صورة المسيح محاطا بمار بطرس وبولس ومن ورائهما يوحنا المعمذان ويوحنا الانجيلي. ومن الجهة الاخرى للكأس مريم العذراء حولها ملاكان.

تعد الرمزية المسيحية مأخوذة من رسوم وثنية اقدم منها، وقد انتقلت الى مفهوم مسيحي بعد انتقال السريان من الوثنية الى المسيحية. مثالنا على ذلك طائر الطاؤوس الذي يعتبر عنصرا هاما في الرمزية الوثنية انه طائر مجد الاباطرة وعلامة الخلود، وفي المسيحية اصبح طائر الفردوس ورمز الخلود.

هناك عناصر اخرى تزيينية وهندسية في كنائس سوريا الشمالية تعتبر في الاساس من التزيين الهندسي المعتمد فيما بعد في المنمنات المسيحية بشكل اقواس متكررة، كنعل الحصان واستعملت ايضا في مخطوطة رابولا.

الجداريات والفسيفساء في مناطق السريان 

اقتبست المسيحية الشرقية فنها التصويري من تراثها الوثني القديم الذي تسلمته من اجدادها الاراميين في منطقة تمتد من البحر الابيض المتوسط حتى بلاد فارس. لكن حذر الكنيسة، في بدء تاريخها، من عبادة الاوثان جعلها في موقف رفضي من النقوش والمجسمات الجدرانية ذات الصدى الوثني والمعنى الصنمي في ذهنية مسيحي الاجيال الاولى. وهذه دلالة على قلة المنحوتات والجدرانيات قياسا الى الرسوم والنقوش المسطحة التي تركها قدامى السريان على جدران الهياكل وقباب الكنائس.

علما ان عبث الازمنة وتعاقب المذاهب والاديان المتزاحمة في هذه المنطقة لم تترك لنا من تلك النقوش سوى نزر ضئيل جدا. فما جرى اكتشافة في نينوى وخرسباد قرب الموصل يبين تماما بان ستعمال الرسم الملّون كان سبق العهد المسيحي بزمان. اذ كانت العادة قد درجت في هذه المناطق بتزيين القصور والبيوت الخاصة بمثل تلك القصور. ومن القصور والهياكل التي اشتهرت بالرسوم والنقوش هيكل الآلهة في تدمر، وناووس هيكل أدونيس، وهيكل جاد في دورا اورويس (على الفرات 50 كم. شمال البوكمال بسوريا).

هذه المجموعة من الرسوم والنقوش والفسيفساء والجداريات التي تعود في الاصل الى العصور الوثنية تكشف لنا البيئة الايقونوغرافية ونوعية الالوان ومدلولها على اهمية الفن المسيحي لدى السريان . كما أنها بمثابة المهد الذي وجد الفن السرياني فيه ولادته .

وكما في فن الرسم كذلك في الفن المعماري. ففي دورا نجد اقدم بناء مسيحي مخصص لاقامة العبادة منذ بداية القرن الثالث. وبجواره كنيسة صغيرة بشكل مستطيل من الغرب الى الشرق مُسقفة بقُبّة تزينها كواكب. وقد كسيت جدرانها برسوم دينية اهمها: - صورة الراعي الصالح وفق الرسم المعروف منذ بداية القرن الثاني الميلادي- صورة آدم وحواء والشجرة والحية تحت الاقدام - صورة شفاء المخلع - صورة مشي بطرس على المياه صورة النساء حاملات الطيب وغيرها من الموضوعات الكتابية.

ان الحضور السرياني في حقل الفن الايقونوغرافي لا يظهر بوضوح الا من خلال مجموعة من جدارنيات وجدت في منطقة بعيدة عن شمال سوريا وما بين النهرين، هي جدرانيات (دير السريان) في وادي النطرون بمصر على منتصف الطريق الصحراوي بين القاهرة والاسكندرية. وكان هذا الدير يسمى قديما (دير والدة الله للأنبأ بيشوي) للسريان، وقد شُيد عام 535م ثم هُدم واعيد بناؤه في القرن السابع. ثم انتقل عام 710م الى ملكية السريان القادمين من بين النهرين وبالتحديد من تكريت (العراق) وبقي بيد السريان فأزدهرت فيه الحياة الرهبانية حتى نهاية القرون الوسطى حين عاد الى ملكية رهبان اقباط ولا يزال.

المنمنمات السريانية 

يقصد بالمنمنمة (رسم او نقش او زينة على ورق او قماش او جلد). المنمنمات التي تركها الكتبة والخطاطون السريان هي امتداد لتقليد كان معمولا به لدى اليهود في كتابة اسفار العهد القديم ولدى السريان الوثنيين منذ ما قبل التاريخ الميلادي. والحقيقة لولا هذه المنمنمات التي تركت على صفحات المخطوطات لكان التراث الايقونوغرافي السرياني قد ضاع تماما بعد ان اُتلفت وضاعت اصوله الجدرانية.

التأثيرين اليوناني والعربي 

تفاعل الفن الايقونوغرافي في المنمنمات السريانية مع تيارين اساسين من الفن الروسوماتي هما : الفن اليوناني والفن العربي . فالفن اليوناني تأثر هو أولا بالطابع الشرقي السرياني ثم ازدهر حتى عاد يؤثر بدوره تطورا في الفن السرياني كما في منمنمات مخطوطات سريانية كتبت باللغة اليونانية مثل مخطوطة سفر التكوين من القرن السادس المحفوظة في مكتبة فيينا، وانجيل روسانو من القرن السادس المحفوظ في مدينة روسانو بايطاليا، والانجيل الفاتيكاني تحت الرقم 354 في الرف اليوناني من عام 948 ، ومخطوطة اورشليم تحت الرقم 56 من القرن الحادي عشر، ومخطوطة باريس تحت الرقم 203 من عام 1059 ، ومخطوطة اثينا في مكتبة جناديوس تحت الرقم 15 من عام 1226. وهذه المخطوطات اليونانية اللغة هي سريانية الاصل والمنشأ. اما تأثير الفن العربي فيبدأ منذ القرن الثاني عشر.

ففي مخطوطة مسيحية مصرية محفوظة في مكتبة باريس تحت الرقم قبطي 13 وهي من فترة ما بين 1178- 1180 نرى بدايات تأثير الفن العربي .فالعرب بعد ان اخذوا عن السريان الفن الايقونوعرافي انعشوه وصبغوه بصبغتهم المتأثرة بالتفاعل الحضاري العربي والفارسي، حتى برز في بغداد منذ بداية القرن الثالث عشر، وقد عاد الفن العربي لينعكس تطورا في الفن السرياني كما هو في مخطوطة الموصل(انجيل نسطوري محفوظ في المكتبة الشرقية من المتحف البريطاني تحت رقم 7174 ) وتمتاز منمنمات هذه المخطوطة برشاقة الاشخاص. كما بالعمامة وبطريقة القعود والوجه المستدير ذات المسحة المغولية احيانا.

وهكذا فعبقرية الفن السرياني هي مرونته بحيث يتكيف ويستوعب ويقتبس دون ان يفقد هويته. بل لديه القدرة لجمع بين تيارات فنية مختلفة وصوغها في شكل يناسب تماما الاسلوب والتقليد السريانييين. ولسنا نغالي ان قلنا بأن السريان في المناطق المذكورة كانوا قبل الجميع واعطوا الجميع واقتبسوا من الجميع ليمدّوا من جديد شعوب المنطقة برصيد فكري وفني مستمر. وهوبانفتاحه غربا على البحر الابيض المتوسط واتصاله شرقا بالشرق الاسيوي الشاسع يُشكل نقطة التقاء حقيقي بين الشرق والغرب في مضمار الفكر والفن.

انه وحدة رائعة من مجموعة اساليب فننية اتت بها عبقرية مراكز حضارية في منطقة شرق الابيض المتوسط من:

آرامية وثنية

وعبرانية كتابية

وسريانية مسيحية

ويونانية هيلينية

وعربية اسلامية متأثرة بلمسة فارسية واحيانا مغولية.

عند تنصرهم منذ القرن الاول الميلادي نقل السريان معاني الصور ومدلولات النقوش الجدارية من المفهوم االوثني الى المفهوم المسيحي. فصوروا على جدران الكنائس موضوعات الدين الجديد.

وهكذا فالصورة السريانية تغرق المؤمن في انذهال متواصل ونظرة متبادلة بينه وبين الله. إلى حد أنه ينسى عبء الذات وأوزار الحياة والبؤس البشري. وهكذا فالوجوه في الصورة السريانية هي كلاسيكية تحدق بالمتأمل وتنشله من مخالب المادة وتحرره من اسر هذه الدنيا لترحل به الى عالم الاسرار الخلاصية وتفتح له ابواب الملكوت. ثم تأتي الالوان لتساعده على الارتفاع.

فمن خلال اللون الأزرق العميق يسمو القلب وترتفع العيون الى السماء حيث المدينة ذات الأساسات الباقية.

اللون الاحمر يحثه على البذل والعطاء حتى الدم اسوة بيسوع الذي ذهب به حبه لنا حتى الاستشهاد على الصليب. أما اللون الارجواني الذي يتفرد به رداء يسوع ومريم هو وعد بالغلبة وشراكة بملوكية يسوع ملك الدهور.

الرسامون السريان لم يعتمدوا على التقنية في فنهم كما فعل البيزنطيون والروس. ولم يفكروا ان يحّملوا الصورة معاني لاهوتية دقيقة من خلال القياسات والابعاد الهندسية التي قامت عليها الايقونة البيزنطينية.كما لم يهدفوا الى ابراز الهالة الالهية والعظمة الملوكية من خلال الوقفات والنظرات الامبراطوراتية.

ما ارادوه هو، بكل بساطة وبدون اي تعقيد ، ان يعبروا عمّا في نفوسهم من وصال بحقائق الاسرار الخلاصية وما في ارواحهم من صبابة وتوق. فجاءت صورهم بخطوطها المرنة وسذاجة تناسقها وبراءة الوانها شبيهة برسوم اطفال ابرياء لا تفتنهم التقنية ولا تعقدهم القياسات. بل جل اهتمامهم هو الاتحاد بيسوع المخلص والانضمام الى رفقة الرسل والانبياء والقربى من القديسين الشهداء حتى تتحول الارض سماء ثانية.

عن موقع bakhdida.com






الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).