بين حنينه للطفولة/ الطبيعة، وعشقه للمرأة/ الغزالة، يتعثر نداؤه كحجر في دروب لا تستنجد بعماه.. هكذا، وبأبعاد وجدانية ووجودية، حسية وفلسفية.. يدوّر الدكتورخالد حسين مفرداته "الخاصة" في نصوص تلامس الشعر وترتقي بأشكالها ومضامينها.. تصبو الرؤيا في انزياحات ومجازات لافتة تارة، وتضيع بضباب الغموض تارة.. تتشكل الحكاية بعفوية تارة، وتغيب تحت سطوة الوصف تارة أخرى.. وتسير نصوصه في ثلاثة منعطفات، وتتوزع على أكثر من مئة صفحة، يقطّعها العديد من العناوين الفرعية والأرقام. 

الطبيعة/ الطفولة 

بدءاً من العنوان " نداء يتعثّر كحجر" ومروراً بكل النصوص، وانتهاء بفهرس الكتاب، يظهر بوضوح وفاء خالد حسين للطبيعة وهيامه بمكوناتها، فإضافة إلى العنوان الذي يشكل تناصاً مع أجواء "نص للغلاف الأخير" بما فيها من ليل وعتمة ودروب ونداء يتعثر كحجر..  وزع نصوصه على ثلاثة منعطفات، لا يخلو نص منها من مفردة تشير إلى مكون أو أكثر من مكونات الطبيعة، وتوّج ذلك بإطلاق اسم "تضاريس" على فهرس الكتاب.. ولكن مع كل هذا الوفاء والهيام يرسم خالد حسين طبيعته الخاصة، وبلغته الخاصة، إذ تحت سطوة الوصف تغيب الحكايات ومشهدية الأمكنة، لتبدو الطبيعة كاستعادة طفولة لذاكرة بعيدة أو غامضة، وإن كانت بعض الأسماء تشير إلى مكان ما، لكنه يظل ضبابياً لدى القارئ: 

(علي أن أتذكر الحلم، كأنّ الحدث مطعون بالغرابة، سفح مدهش كأنني في أقصى " شرق الجزيرة" أتقصّى شؤون النبع هناك، وأي نبع أنت يا " أناهيتا"..!).  

وفي الكتاب نصوص عن الريف الكردي بدبكته وتراثه وعاداته وتقاليده ونار نوروزه.." إنه عطرك يُوقظ تلك البيادر الهائجة بروائح الخبازى والبيرقلاجك Pîrqlaçik والبابونج sêva Geyakê وأزاهير الأحصنة ليتفاقم الحنين كثافة في جسدي.).. ونصوص عن المدينة بمعالمها وحضارتها.."يشعلان برد المدينة.. ويبتكران قبلة للوداع على رصيف المترو..". ونصوص غزلية حسية مباشرة، وغزلية شفيفة مرهفة: 

(كالعشب/ الذي ينحني في شهوة المطر؛ / كهسيس رغبةٍ يَشتهي التوغل في ظلال عاشقة.!/ يتقفى أثرك./ يفتقد شموسك، كما لو أن حقل قمح شهق صباحه من دون طيور وغفا إلى الأبد..). 

وثمة نصوص يسترجع الكاتب عبرها "يوسف" الذي ينحدر في غفلة الإله إلى الوادي العميق.. والفيلسوف "نيتشة" الذي يتابع شؤون النقطة البيضاء، وحوارات مع العدم الرحيم.. وثمة استعادة لملاحم وأساطير كملحمة "سيامند وخجي".. ولكن تظل الطبيعة وجمالياتها ومكوناتها هي الحاضنة لرؤيا هذه النصوص، ومرجعياتها اللغوية: 

(سمّاني أبي "سيامندو" حتى أحبك فيسحرني صوت الناي بين يديك في تلك الأعالي؛ وحيث تغفو في الدرب الأفاعي ويستكين الحراس إلى الظلام غفوة عميقة، أهرق لهفتي في شفتيك أنّة لذيذة..). 

ثمة حالات تنفلت فيها المفردة من بيئتها، فتختلط مكونات الطبيعة/الطفولة، وتضاريسها ومناخاتها، وتضيع سمات الأمكنة.. كأن يحضر البحر إلى البحيرات والجبال والبساتين والغابات:  

(زبد يلهو بالبعيد/ زرقة تقتحم يدي بأصابعك - النايات، ينبوعان من كحل! حورية البحر إذ تغوي الإله - الوسيم على مرأى من شبق حجر/ أي أسراب طيور هائجة تستوطن هذه السفوح اليمنى لجسدك- القمح؟ / أي موجة تزيح الياقة عن أرض الرمان...؟). 

تدوير المفردة 

يعتني الشاعر خالد حسين بمفردته، ينمقها ويشكلها، كلياً أو جزئياً، وإضافة إلى كونه حاصل على درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، يمتلك حساً مرهفاً وخيالاً خصباً، ولغة بليغة وجزلة ورشيقة، لا تمنح كتابه التسمية التي أضافها " اشتباكات سردية في إهاب الشعر" وحسب، بل ترتقي بنصوصه إلى مصاف الشعر عامة، وقصيدة النثر خاصة.. ولو قام حسين بتقطيع نصوصه أو توزيعها على سطور، كما هو سائد الآن عند شعراء قصيدة النثر، لتجاوز ديوانه المئتي صفحة. 

ومع كل هذه البلاغة والجمل الشعرية اللافتة والانزياحات والاستعارات والمجازات.. " الغيوم - إناث يملن تحت وطأة الشغف، إناث يتساقطن قطناً.."، تجنح بعض نصوصه للغموض، وتثير تساؤلات عن اشتباكات مغايرة لدلالات المفردات والتراكيب وتأويل معانيها، وكأن الشاعر يفكر ويحن ويتذكر ويستعيد طفولته باللغة الكردية، ويكتب باللغة العربية: 

(كذئبة جريحة تعوي عَلّ إلاهاً يكسر ظمأ الثأر في دمها...! هي قسوة الأيام. والرغبة قدر لامهرب من يقظتها كسيل مباغت! تنبح كلبة في دمها، الصياد النغل على مقربة من أشجارها والرغبة شر تفيض في عينيه، تغط الغزالة في هَسيس السواد حقلاً من الرماد). 

 وثمة حالات تحدثها المفردة في سطوتها ومساراتها، كالمسار السائد في نصوص الوصف بمفردات من مكونات الطبيعة، إذ لاتكاد تخلو قصيدة أو نص من إحدى المفردات " كالشجر والظلال، والجبال والسماء والبحيرة..”، وقد نرجع ذلك إلى وله وهيام الشاعر بالطبيعة/ الطفولة، والمرأة/ العشيقة، ولكن ثمة مفردات " كالغزالة والعسل والآلهة والأصابع.."،  تتكرر أيضاً في العناوين والنصوص بشكل لافت، مما يضعنا أمام عدة تساؤلات: هل نرجع ذلك إلى حالة شعورية محددة عاشها الكاتب؟ لكن ثمة نصوص كُتبت في أمكنة وأزمنة متفرقة.. إذن هل لذلك علاقة بمخزون الشاعر اللغوي في ظل سطوة الوصف، أم أنه يشتغل بدراية وعناية على "إعادة تدوير" المفردة؟ 

ثمة نصوص يبدو فيها التكرار دون تغيير لدلالات ومعاني الكلمات وتأويلاتها، " سر الزنبق في أصابعك.. أصابعك زنابق.. أصابعك النايات.. تزهر أصابعك ريحاناً.." لكن ثمة تكرار يعيد تدوير الكلمة، ويمنحها معاني إضافية في سياقات ومجازات واستعارات مغايرة، تشكل انزياحات لرؤيا جديدة، مثل " أختفي بلا أثر بين أصابعك.. أصابعك المصقولة بلهفة الآلهة مع أصابعي.. كغيمة بين أصابع الموج..". وثمة نصوص تتكرر فيها أكثر من مفردة، لكنها تنحو بأغراض ومواضيع متباينة، فيها الغزل والوصف والريف الكردي بطبيعته الساحرة.. وبتراكيب وجمل كثيفة وأخّاذة، ودلالات مفتوحة، ولغة شعرية مرهفة ورشيقة:  

(في الطريق/ إلى أصابعك، / لا لغة لأمتدح هذا القصب بأسراره/ مذاق العنب في شفتيك يختلسني مساء بأكمله/ وبين نهديك تفور رائحة القمح "الجزري" على سفح الليل؛/ انحدري إليّ، انحدري بالسر الذي في خلخالك أيتها الأميرة الكردية، يا إشراقة الصمت، أيتها الرهيفة كلغة الآلهة.). 

الرؤيا/الحكاية 

العديد من الآراء النقدية تتناقض وتتقاطع حول الشعر وقصيدة النثر، لكن الجميع يتفقون على أن أي نص يجب أن يترك عند القارئ أثراً ما، رؤيا، حكاية، فكرة، وخزة.. فهل يتحقق ذلك في كتاب " نداء يتعثّر كحجر"؟ 

ثمة نصوص تحاول تجاوز سطوة الوصف وتجنح نحو بلورة رؤيا ما، ونصوص غائمة يضيّع رؤياها الشغل على شعرية اللغة وتميزها، ونصوص يغلب الوصف فيها على الحكاية.. وقلما نجد نصوصاً تحقق الحكاية/الرؤيا بلغة جزلة وموحية: 

(عنك، عن تلك الشجرةِ التي يَسْتَضيء بها الليلُ في سيره الأعمى يتورد الكلام...! يقودني ظلك إلى أوراق ريح ناضجة. أيها الليلُ أَدْلِق غَرَابَتكَ، أَدْلِق هذا العسل المصفى اللائذ بأسرارك أدلقهُ لأقبض على أنين هارب من لهاثها الآفل.). 

في أغلب نصوص الكتاب تغيب الحكاية ويسود الغموض، ولكن تتخلل هذا السائد محاولات عفوية، تقترب من الحكايا ببنائها، أو بزمنها الوقائعي ومشهدية أمكنتها، كالأشجار والنافذة والشرفة: 

(الأشياء كلها؛ / الأشياء كلها تنتظرُ إشراقةً شَفَتَيْكِ حيث تَسْرَحُ شَمْسُ أيلول الصباحية بأغنية لذيذة./ كتاب الغَنَاءِ العَمِيق، الطيور التي تُضيء الشجرة العالية بمشاغباتها، النافذة ذاتها، الشرفةُ بشجيراتها الصغيرة التي تنتظر لمسة أصابعك المحتشدة بالرّقة، الخطوة المعتادة المرتقبة ..الأشياء كلُّها وأنا بدوري سأنتظرك باحتدام لسراب آخر.). 

ومع هذه المحاولات العفوية، ثمة اكتمال لحكايات ما، ولكن بهذا الاكتمال وبحضور الحكاية تتراجع اللغة المغايرة، إلى لغة قصصية نثرية:  

(يستفزني ذلك الوشم على كتفك كظل داعر! في الحقيقة لا الوشم هو الذي يستفزني إنما أمر آخر تماماً أقصد اليد الفاسقة لـ"معلم التاتو" التي كانت تمسك بالريشة وتحدد خطوط الوردة السوداء...! يد مبدعة وأخرى فاسقةً تشدُّ كتفَكِ الأيسر قليلاً؛ لتنحدر الأصابع اللعينة فتحيط بالنهد العاري، وأنا هنا تَلْتهمني ظنون مريعة...!). 

يوزع الدكتور حسين نصوصه على ثلاث منعطفات، تندرج تحت كل منعطف عدة عناوين، يقطّعها أيضاً بعناوين فرعية وأرقام.. بيد أن ثمة خيوط وأجواء تربط بين النصوص في كل منعطف، وثمة حكايات قد يلتقطها القارئ تربط بين منعطفات كل الكتاب.. فالشاعر حسين يبدأ كتابه بنص "نشيد الأزل":  

(يا ليتني/ كنتُ حجَراً مَلْمُوْماً على صَمْتِي؛ / يَعْبُرُني الرُّعاة ويبكيني العُشاق، تعبرني الرِّياح والعواصف تجتاحني/ وأبقى، كما أنا، حجراً أُلقن الأبدية نشيد الأزل./ يا ليتني كنتُ حجَراً؛ ليعبرني الحب كمسافر دون أثر، لتعبرني الغزالة ولا تطعن قلبي بالنَّوى!/ ياليتني كُنتُ هناك ويسكنني حَجَر..).  

إنها حكاية الحجر الذي كان ملموماً على نفسه، يعبره الرعاة والرياح ويبكيه العشاق... وبتدوير الشاعر لمفردة "الحجر" تتغير أمنياته بأن يكون حجراً إلى أن يسكنه الحجر.. ليكمل حكايته في ختام ديوانه بقصدة" نص للغلاف الأخير": 

(في غيابك/ الذي يتخثر كليلة مطعونة بعتمة آثمة، / لا علامة تغيث انتباهي، لا دروب تستنجد بعماي، كأنني لا أتقن النداء! أناديك بقوة، ولكن ندائي يتعثّر كحجر.). بتدويره الشاعر للمفردة فإن ندءه لايتعثّر بحجر، بل يتعثر كحجر..

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).