صباحٌ أشبه بمولودٍ قدمَ من رحمٍ أصمّ، عاجزٌ رغم كلّ ما تعانيه من آلام المخاض، وبدت كأنها ولادة عقيمة ليست إلا.. كلّ الوجود هادئة، والأماكن تستعدّ في أغلبها للرحيل، وهي لا تدري! .. توقّفت للحظاتٍ قليلة عساها تستعيد رغم كلّ مافيها من عجزٍ وألم بصيصاً لأملٍ! … الوقفة طالت لساعاتٍ وأيام، لا لا بل سنين تتالت لسنين من الذكريات، وأغمضت عينيها الناعستين وأنزوت بجسدها المعتّق جدلاً واقتعدت شرفتها الهادئة، والصمت قد طوّق كلّ كيانها، تعفّها عن النطق آهاتٌ، وهي هذه الآهات المتعثّرة في ولادتها على شفاهٍ غاب عنها وميض انتعاشها يوم حكمَ البشر عليها بألف سيفٍ وحدّ بحكم شريعةٍ قالوا فيها: إنها سنّة الحياة..

القلق يدفعها بلا أدرية، فتتصرّف وكأنها تهمّ بالرحيل.. جالست شرفتها تتفقّدها، وكمن تريدها صوراً، لتترسّخ في ذاكرتها، وتنهّدت عميقاً لتتسلّل إلى عميق كيانها، فتلامس فؤادها، هي التنهيدة دفعتها لتتساءل: أيّ نوعٍ من البشر سيحتلّ بقاعنا هذا فيمسخ جمالك! ويجتزّ منك ذكرياتنا؟! مَن سيكون ياترى؟ والأهم: هل سيرأفون بك أيها العصفور؟ هل سيعتنون بوريقاتك يا زهوري؟ وانا أدرك أنّكنّ لا تقبلنَ السقيا سوى من يدي ؟

انقباض نفسي شديد.. وجومٌ تخلّله عنف مشاهدٍ لرحيلٍ جمعي متراكم من عميق آلام شعبها، جاهدت بقوةٍ تضغط على تلك الصور؛ عساها ترحل من مخيلتها، فتدفعها بعيداً حتى تهدأ روحها، وتركن بعواصفها الهوجاء، فكانت أول ما نطقت بها ذاكرتها المتجمّدة: هو الحيّ القديم، فأصرّت لتنطلق إلى حيث تخالها نقطة البدء من سفر الرحيل ووصلت إليه!.. وأخيراً: وكمَنٔ يزيح من قمقم الذكريات غطاءه، هاهو الباب الأخضر بلونه الحبقي المنقوش، وقد زاده العتق رونقاً وبهاءً، وأصبح بحدّ ذاته لوحةُ فسيفساء راقٍ.. فتحت الباب بكلّ هدوءٍ وحذر، وقدماها ترتجفان وكادت لمراتٍ أن تتعثّر.. هي ذاتها الخطوات المرتبِكة خوفاً من أمرين: إيقاظ النائمين لا وعياً، أو الخوف منها عينه الرحيل، فتطير من فضاء هذا البيت العتيق بضجيج الذكريات.. وشدّت من عزائمها وتخطّت بسرعةٍ أكثر، وأخيراً دخلت.. يا إلهي! .

هذه هي شتلات الحبق لازالت تبتسم وتعبس.. وتلك هي شجرة الليمون وقد تفرّعت تعانق شجرة البرتقال، والتين قد التفّ بدائرية لتحتال وتطوّق شجرة التوت.. وهاهو جدول الماء مازال يتوسّط الزرع بكلّ أنفة، ربّاه ! أجل؟ ..هاهي بقعتك.. مجلسك جدّتي و(الجهوني ) يبدو كمخزنٍ لإرثٍ متراكم من أحاديث وقصص بعد أن كانت حبّات القمح تئنّ فيه تحت وطأة مهدات – ميهكوت – وقوة أيديهنّ، كنّ جميعهنّ صبايا البيت وهنّ أمي خالاتي كنّ .. أجل! وهاهي جرّة الماء.. يا الله ؟ كم عطشةٍ أنا! ..

اقتربت بكلّ هدوءٍ عساها تروي عطش سنينها الغارقة في عمق الذاكرة، وصلت الجرّة وأزاحت غطاءها، وتناولت ذلك الـ – غاريف – وشربت.. شربت حتى ارتوت ولسان حالها يردد: الآن ارتويت .. نعم هو ذات الماء سلسبيل زلال ، لكن ؟! .. إلهي ؟ ماهذا الفوح العطر الذي أخذ ينثر وتتلقّطه أحاسيسي ، فتنتشر في كامل جسدي البائس ؟! .. تراجعت بعدة خطواتٍ إلى الوراء .. فاحَ في المكان رائحة قهوةٍ ألفتها ! ياه ! .. هي ذاتها دلّة أمّها النحاسية وقهوة أمّها الفائرة أبداً برائحتها العبقة كانت دائماً كساعةٍ زمنية عليها وبها كنّا نستعدّ للنهوض والذهاب إلى مدارسنا، وهي جدّتي الحنونة كانت.

في أيام عديدة عندما كان المطر ينهمر بغزارةٍ، أو الثلج يفترش ببياضه فتناديها: اتركيهم لنومهم وتعالي لنجهّز قهوة الصباح، فقد أشعلت الموقد… وهي أنت ياجدتي! ومجرد حضور طيفك، يستعيد الزمن حضورك بكيانك وصوتك.. ركّزت لثواني خلتها ساعاتٍ طالت وغمغمت: كم هي روحي توّاقة لاحتضانك فتعانقيني، ومعها تجترح مني آلام السقم الذي يحوطني، عساها تهدّئ بعضاً من وجعي ، وتهدّئ من ثورة براكين جراحي المتراكمة.. أجل جدّتي! كنت يومها غافلة عني، وكنّا أطفال البيت الكبير نشارككم جولةً في كرم جدّي وبين اللعب واللهو وساعات النهار كانت قد مضت وعدتم إلى البيت!.. دقائق ربّما مضت على أمي كأنها دهرٌ. فجأةً صرخت: أين هي طفلتي؟.. لقد اختفت الطفلة ؟ هي أنت التي كنت تحبينها وصرخت جدّتي منادية أمي :أين هي ابنتك ؟

لا آعلم جميعهم في الداخل؟.. وكان ماكان وسادَ الحزن والبكاء تعالى! .. أجل! أيّتها الشقيّة.. طفلتي لم ترجع معهم، ولو أنها عادت لكانت تسابقت مع أطفال الدار، وفور وصولنا، كعادتها ستهرع إليّ فتخبرني بما شاهدته ولسان حالها يعبّر عن جوعها أيضاً. انطلقَ جميع مَن في الدار يبحث، والغيم لم يبخل بمزناته الربيعية المعتادة، ووميض الرعد يتماوج مع صوته فيمتزج الغضب ببعضه البعض، وأنينٌ لا يقلّ شحوباً مصحوباً بقلقٍ مدمّرٍ! يا إلهي ولقلب أم تاهت عنها ابنتها وسط هيجان السماء وفيض  الساقية! أيعقل أن يكون النهر قد فعلها وجرفَها؟.. هي جدّتي كانت! وبقلبها المركّب عطفاً وأمومةً وكأنها نبضات قلبها تصرخ فيها ثقةً، وصرخت: كفّوا عن النحيب؟ واثقةٌ أنها بخير، ارأفوا بها ؟ .. أعرفها صغيرتي؟ ألم أقل لكم قبلاً مدى عشقها للساقية، وشغفها بالجلوس على مقربةٍ منها؟! . وكأية أمٍّ كانت الجدّة ذاتها في قرارة نفسها تداري رعباً حقيقياً أن يكون الفيض غدّاراً للطفلة المسكينة.. هي تلك اللمعة القوية كانت، وجلجلة صوت الرعد الذي امتزج مع صوت الجدّة وهي تصرخ: هيّا تعالوا.. الحقوني ! أعرف أين هي؟

وبين انفعال الطبيعة وضجيج أزيز الريح واصطكاك فروع الأشجار ببعضها، وتداخلات بقع الوحل والحفر المخفيّة، وسط كلّ هذا الضجيج كانت جدّتي أول مَن وصلت البستان، واتّجهت مباشرةً صوب تلك الصخرة التي كان جدّي يقتعدها للراحة أو الصلاة ! وإذ بها الطفلة وبعفويةٍ تجلس في الجانب المحميّ لها من قطرات المطر بعد أن استفاقت من نومها والظلام قد حوّطها مع عنفوان هذا المطر.. هرعت جدّتي وطوّقتني بعنف حنينها وشدة دفئها وهي تعانقني، وشدة زفيرها تعيد لي بالهوينى بعضَ ممّا افتقدته من دفئي..

كنت أدرك بأننا ذاهبون الى البيت، ومع ذلك شعرت بالرعب حينها؟ وها نحن في البيت وكلّ الأطفال نائمون، والموقد مشتعلٌ وأنا هائمة.. نعم هائمةٌ أنا والوهن يزحف الى أوصالي تدفعني إلى ما لا أعرفه؟! .. لملمت ذاتي قدر استطاعتي ودفعت ببقايا الذاكرة إلى أعماقها وعدت بأدراجي متيقّنة بأنني لن أستطع تحمّل استحضار المزيد.. لقد تعبت! أجل ؟ تعبت وأصبحت أتحسّس بقواي الواهنة تشي بقرب انهيارها، لا سيّما أنّ الصور أخذت تزحف لتشتدّ قساوةً، والأحداث تسير فينا صوب إنهاكٍ فظيع.. الله جدّتي! يا الصدر المتدفّق حناناً وقوةً بعنفوان أملٍ كنت، كم نحتاجك الآن جدّتي… وكمَنٔ استفاقت من حلمٍ عميق، حاولت رغم كلّ وهنها أن تفتح باب الدار من جديد!

بئساً لك يا الوهن؟ أجل ! لقد خارت منها قواها ورائحة الدم المسفوك في البقاع طمست نسمات الحبق، وسادَ الصمت في الأزقة والشوارع، والدور هجرها ساكنوها الى أصقاع جديدة، والقلق أطاح بظلال الشجر وطمست نمو الأزهار، ومع كلّ هذه العواصف، وزخم هيجان المطر! والساقية تعدّدت فيها أشكال الجفاف، وماتت حيواتها التي كانت تولد منها وفيها وعليها :

استندت تحاول التمسّك بوميض أملٍ صغير، رغم قلّة فرصه فتسعى لتصنع من الموت حياةً تؤسّس لميلاد حلمٍ تتنفّس من خلالها الصعداء.

وكمَنٔ استفاقت من ضجيج ذكرياتها صرخت في أعماقها وردّدت :ويل لي.. ويلٌ لأيامي وروحي الهائمة إن مات العصفور الدوري .. ويلٌ لي إن جفّت السماء وتيبست الأشجار! هل سأرحل من هنا وأترك كلّ الذكريات بأحلامها؟ أم هي الحياة ستستمرّ بكلّ طغيانها والجراح ستتعفّن وستنفّذ حدّها لتقضي على الأحلام؟ كانت لفتة منها لأباصيص وردها وقليل من الماء أيّتها الشتلات توحي ببعضٍ من الأمل.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).