حربان على مدى القرن العشرين شغلتا العالم وأيقظتا إنسانيته، أو ما يمكن تسميته بالوعي السلمي في العالم، هما حرب الفيتنام وحرب الجزائر. 

أما الأولى فقد شنّتها القوة العظمى الأولى في العالم الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها عوضا عن السيطرة فقد تكبدت خسائر بشرية ومادية على مدار عشر سنوات أو أكثر، دفعت بالنخب السياسية الأمريكية وأمّهات الجنود بطبقاتهم المختلفة بأصولهم المتعدّدة إلى الضغط على القادة السياسيين والعسكريين لإنهاء الحرب بأي شكل من الأشكال. أما الحرب الثانية فقد دارت رحاها في الجزائر (واستمرت من 1954 إلى 1962)، لم يكن الشعب الأمريكي وحده بنخبه من ضغط على السلطات الكولونيالية الفرنسية هذه المرة بهدف توقيف حركة الإبادة والقتل التي لم تشهد البشرية-ربما-أبشع منها، بل شعوب العالم أجمع نادت بالطرق الديبلوماسية المتاحة على أيقاف هذه الحرب وما خلّفته من صور دامية. 

هذه الصور الأليمة وهذه الحرب القاسية التي يسميها الجزائريون "حرب التحرير" وفي فرنسا يُطلقون عليها "حرب الجزائر"، تم توثيق يومياتها بصورها وأبعادها السياسية والايديولوجية والاقتصادية بين دفّتي كتاب-أقرب إلى السفر-نال حظوة كبيرة في العالم (وبالأخص داخل البلدان الانجلوسكسونية). مؤلف هذا الكتاب -الزاخر بالوثائق والمعلومات- هو السير البريطاني الأبرز "ألستير هورن"، الذي عنونه بـ(الحرب السلام البربرية). يُلاحظ أن ترجمتها الفرنسية هذّبت نوعا ما من عنوان الكتاب الضخم في أصله الإنجليزي، حين استعمل المترجم الفرنسي عبارة "حرب الجزائر"، مُختزلا ربما قرنا وثلث قرنٍ من السردية الكولونيالية  لما جرى في الجزائر.

السير ألستير هورن


ما يؤسف له بحق هو أن الكتاب لم يحظ -على حد علمنا- بترجمة عربية تنقل ما فيه من قيم معرفة وإنسانية وتاريخية، رغم أنه يستحق ذلك لعدة أسباب، من أهمها أن من كتبه نخبوي وسياسي بريطاني بحجم السير ألستير هورن هو أمر نادر، إذ في العادة لم يكتب عما جرى في الجزائر إلا مؤرخو البلدين (فرنسا والجزائر) وباللغتين الفرنسية أو العربية. والسبب الآخر الذي قد لا يقل أهمية هو إلمام الرجل بكل حيثيات الصراع وأبعاده، ومعرفته الشخصية ببعض من صنعوه (من الشخصيات الفرنسية بالتحديد).

فيما سيأتي هي محاولة لترجمة مقدمة الكتاب، التي قد تُعطي للقارئ صورة عامة عن محتواه، وغن فلسفة السرد فيه. كما أن فصول الكتاب بعناوينها-التي حاولتُ نقلها بأمانة من الفرنسية بروحها الأصلية-تختصر الكثير من خلفيات الصراع ووحشيته.

*** 

 مقدمة

في شهر جانفي 1960، كنت في باريس أقوم ببحث عن الحرب العالمية الأولى، عندما اندلع "أسبوع المتاريس" بالجزائر العاصمة. ثار الكولون الأوربيون والأقدام السود ضد الجنرال ديغول، وتم إنزال قوات خاصة من المظليين بالعاصمة لأخذ زمام الأمور. لأول مرة استعملت الصحافة [لفظ] "المتمردون"، هذا المصطلح المخيف الذي جعلني بشكلٍ ما أستحضر حقبة الجنرال فرانكو والحرب الأهلية الاسبانية بطريقة أقرب ما تكون إلى التهديد. استطعت أن أتخيّل أن البنية الهشة للجمهورية الخامسة بقيادة ديغول ستتجه، في تلك الفترة نحو الانهيار. في هذه الأثناء ألقى ديغول أحد أهم نداءاته وأبرزها خلال مسيرته المهنية. وكأنها معجزة، إذ تلاشت الأزمة بعدها لتمسي خيط دخان.

 أما الذكرى الأكثر تأثيرا والتي ما زالت محفورة في ذاكرتي، كانت الارتباط العاطفي الذي رافق الصحفيين الأجانب، خلال هذا الأسبوع المشحون. بعيدا عن التزامهم المهني، استشعروا بأم أعينهم قلقا عميقا أمام الورطة الفرنسية المأساوية، وأثناء سماعهم لديغول، بالكاد لجّم الصحفيون الأكثر صلابة شعورهم العاطفي هذا. (التاريخ الفرنسي، المستمر بأعجوبة، كما قال "أندري موروا" له تأثير قوي ومتفرد على الشعوب التي افتتنت به، من زاوية أن له المقدرة على وضع كل نزاع من نزاعات فرنسا على حدا). يبدو محقا، فأي أحد يكتب عن تاريخ فرنسا يقف أمام الأحاسيس ذاتها، التي قد يشعر بها أحدهم في علاقة عاطفية مع امرأة متمردة، ومُقلقة، ومعربدة ولكنها مثيرة، مما يجعله خلال ابتعادها يسارع إلى البحث عنها من جديد. 

بعدما قضيت حوالي عشر سنوات في تأليف عددٍ من الكتب حول الصراعات الألمانية الفرنسية شعرت، بصورة غريزية بأنه سيكون عليّ عاجلا أم آجلا المشاركة بالكتابة عن آخر مأساة في التاريخ الفرنسي، بطريقة أو بأخرى، عندما يتاح للأحداث أن تستقر بشكل كافٍ.

خلال أحداث الجزائر التي هدّدت بدرجة كبيرة بقاء الجمهورية ووجودها، كنت في فرنسا في مناسبتين اثنتين : في كل من ماي 1958، وأفريل 1961، عندما جابت دبابات "الشيرمين" القديمة ساحة "الكونكورد"، تحسبا لإنزال محتمل من أوربيي الجزائر بعد قدومهم عبر الجو، وحماية للغرفة السفلى للبرلمانيين. بدا لي لاحقا بعد عملية استحضار لتلك الفصول أن كل فصل منها متعلق بالنسق الأساسي لباقي الأزمات الكبيرة لتاريخ فرنسا المعاصر، سواء تعلق الأمر بـ 1789، أو 1870، أو 1916، أو حتى بـ 1940. إنه أقرب إلى سباق مجنون نحو حافة الهاوية، بل أبعد من هذا، إذ هو سباق متواصل عبر استرجاع غير عادي، وتجديد للقوة الخلاقة لبريق فرنسا. 

خلّفت حرب الجزائر، التي دامت لحوالي ثمان سنوات، من الخسائر ضعفي ما خلفته الحرب العالمية الأولى. وشهدت إسقاط ستة رؤساء حكومات للجمهورية الرابعة. وكادت أن تؤدي إلى إسقاط الجنرال ديغول نفسه وجمهوريته الخامسة، بل وتضع البلاد أمام تهديدات الحرب الأهلية.

على الرغم من ذلك، عندما أدت الخسارة إلى التخلي عن الجزائر، التي كانت في يد فرنسا لما يربو على 132 سنة، واعتبرت حجر الزاوية للإمبراطورية، برزت فرنسا جديدة، لا تقارن مع سابقتها. فرنسا أكبر تأثيرا من تلك التي عرفها العالم خلال أجيال عديدة.

إن ما يسمى في فرنسا بـ "حرب الجزائر"، وفي الجزائر "بالثورة التحريرية" كانت آخر الحروب الاستعمارية بل وتعتبر أهمها تاريخيا، وأعظمها بالمعنى الحرفي للكلمة.

الكثير من المسؤولين الفرنسيين وبالأخص الأقدام السود كانوا يعتقدون –ربما بحسن نية- أنهم سيواصلون حمل "إرث الرجل الأبيض". والكثير من الجنود المظليين يعتقدون جازمين بأن شجاعتهم في وهب الحياة [لفرنسا]، هي بهدف الدفاع عن معاقل الحضارة الغربية، بينما فزاعة الطيران السوفيتي فوق المرسى الكبير تؤرق الروح المعنوية للفرنسيين حتى آخر أيامهم بالجزائر. في الحقيقة، ومجاراة لفكرة الكاتب البريطاني كيبلينغ "حرب السلام"، لم يكن هناك أبدا بهذا المعنى إعلانٌ للحرب (إذا لم نُلْبِس إعلان جبهة التحرير الوطني الفاتح من نوفمبر 1954 لبوس إعلان الحرب) وأنه طوال سنوات الحرب الثمانية، لم يتضرر الفرنسيون في أغلبهم من هذا العداء. بينما الأمر متعلق بحرب فظيعة وقاسية، تسببت في موت ما يقرب من المليون مسلم، وتشريدهم من منازلهم، بما يوازي تقريبا تشريد العدد نفسه من الأوربيين. إذا كان أحد الطرفين متهم بتشويه غير مسبوق للجثث، فإن الآخر لجأ إلى التعذيب، وهكذا عندما يترك العنف بين الطرفين أثره، لا أحد بوسعه إيقاف تمدّده القاسي. مثل بعض الأوقات أثناء معركة فاردان لسنة 1916 بدا لي أن أحداث الجزائر فلتت من كل تأثر إنساني. بينما لو أتيح الوقت والفرصة لقليل من الشهامة، ولشيء من الثقة والاعتدال والرحمة، لكانت [الإنسانية] ربما قد تجنبت هذا الذي السوء وقع في الجزائر.  

إن معنى الثورة بالنسبة للجزائريين أكبر منه عند الفرنسيين. على الرغم أن هذه اللفظة سجلت تاريخ فرنسا كله.

"الحرب تنجب الموت، وتهبه للأمم"، قالها الجنرال ديغول. بالنسبة للجزائر كانت الحرب قد أجبت لها الموت. ولكن طوال هذه الحرب، كان هناك شيء أكبر من سؤال ما إذا كان تسعة ملايين مسلم سيفوزون بحريتهم. لم يكن هناك سير واحد للثورة، بل العديد من الثورات على مستويات منفصلة. في هذه الأثناء كان اضطراب اجتماعي عميق داخل المجتمع المسلم في الجزائر. من جانب الفرنسيين كانت هناك "ثورات" الجيش أولا، ثم المنظمة السرية AOS، المعارضة لسياسة فرنسا. وهناك أخيرا مقاومة أخرى تدور في منبر الأمم المتحدّة بصورة علنية من أجل روح الجزائر ذاتها، أمام جلسات العالم الثالث ومجالس الكتل الشرقية والغربية. شكّلت حرب الجزائر بالنسبة للغرب في معظمه، دروسا لخسارتين تقليديتين:  قبل كل شيء، الغرب لم يقبل أبدا بل لم يفهم تطلعات العالم الثالث. عدم الفهم هذا ما زال مستمرا، لأن الجزائر الحالية، في نظري على الأقل، ولدت في الواقع من تجربته الثورية.

إذا كانت ظروف هذه القوة تؤثر على العالم الثالث، فإنها لا تجعل البلدان الغربية في وضع مريح، علينا البحث عن أسباب الأحداث التي وقعت بين 1954 و4962. من جانب آخر، الدرس الذي يتوجب أخذه من الإخفاق المتكرر والتعيس للمعتدلين (للقوة الثالثة) لمجابهة المتطرفين أن كونه جزءا لا يتجزأ من الأحداث المعاصرة في [بقية العالم]، سواءٌ في أولستر (أيرلندا الشمالية)، وفي جنوب إفريقيا، وفي أمريكا اللاتينية. كان علينا ألا نغفل بأنه ، خلال ثورات فرنسا الحديثة في سنة 1793 أو في 1917 : "الجبليون" هم من انتصروا على "الجيرونديين".

على القارئ ألا ينفر من الصعوبات التقنية، التي قد تواجه المؤرخ في مساره إلا إذ أثّر ذلك بشكل ظاهر على فهمه للأحداث أو أمانته التاريخية.  

"تاريخ حرب الجزائر"

العنوان الأصلي: "حرب السلام الوحشية" 

لـ  : ألستير هورن

تر جمة : محمّد فتيلينه

A Savage War of Peace

By: Alistair Horne

- المقدمة

I

  • تمهيد 1830-1954

  • مدينة لا أهمية لها

  • هنا، فرنسا

  • وسط الوادي

II

  • الحرب 1954-1958

  • يوم "التوسان" 1954

  • في مبخرة السحار

  • جبهة التحرير الوطني: من باندونغ إلى الصومام

  • الجبهات الأخرى لـ "غيمولي"

  • لماذا علينا أن نربح؟

  • معركة الجزائر

  • "ج ت و" يفقد ذراعا

  • اهتمام العالم يستيقظ

  • الربع الساعة الأخير

III

  • أقسى مراحل الانتصارات 1958-1962

  • البعث

  • "فهمتكم"

  • ج.ت.و[جبهة التحرير الوطني] تسترجع أنفاسها

  • لا الجبل ولا الليل

  • "إلى المتاريس"

  • "أمير الغموض"

  • ثورة داخل "الثورة"

  • ديغول في مهب الريح

  • انقلاب الجنرالات

  • نحو السلام

  • الحقيبة أو النعش

  • الهجرة الجماعية

  • قُلبت الصفحة

         

- الخاتمة


الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).