كأنَّ الغَيَابَ قَدَرٌ؛ كأنَّ الحُبَّ لا يكونُ...،

 كأنَّ الحُبَّ هُوّةٌ، كأنَّكِ لستِ أنتِ...! 

 

I

الأشياءُ كلُّها؛

الأشياءُ كلُّها تنتظرُ إشراقةَ شَفَتَيْكِ حيثُ تَسْرَحُ شَمْسُ أيلول الصَّباحية بأغنيةٍ لذيذة في تلك السُّهوب الممتدة:

كتابُ الغَنَاءِ العَمِيقِ، الطُّيورُ التي تُضِيءُ الشَّجرةَ العَاليةَ بمشاغباتها، النافذة ذَاتُهَا، الشُّرفةُ بشجيراتِها الصغيرةِ التي تنتظرُ لمسةَ أصابعِكِ المحتشدة بالرِّقة، الخطوةَ المعتادةَ والمرتقبةَ ...الأشياءُ كلُّها وأنا بدوري سأنتظرُكِ باحتدامٍ لِغَايةٍ أُخرى.

بدايةً سأدوّن يديكِ للحديقةِ كزمنٍ وحشيٍّ للعشب الذي يجتاج مَفَاصِلَها، هذا العشبُ ذاته يذكّرني بك؛ وتحديداً بجسدِكِ الملغَّم بالاحتواء...

هكذا تَتَدفَّقُ الشَّمسُ شالاً إثر شالٍ، هكذا تنظرينَ إليَّ حَيْثُ يَحْتَضِنُكِ السَّريرُ، الذي مَا أنْ أُزيحَ حريرَ النَّومِ عن عينيكِ بصوتي الخافت حتى يغدو أوركسترا.

مكْبُوبَةٌ على بَطَنكِ الضَّاربِ إلى رُخَامٍ ناصعٍ البَيَاضِ؛ تمتدُّ أرضٌ أٌسْطُوْرِيةٌ لا يُحاطُ بها...! حيثُ تنطفىءُ شموسٌ، وتنهضُ شموسٌ حَارقةٌ...

ظمأٌ غدَّارٌ يقتلُني إليكِ!

يا لهذه الأرضِ الأُسْطُوريةِ التي تَسْحَرُني ...!

ميدي يا أرضُ ميدي حَتَّى ينبلجَ فجرٌ...!

عِنَاقٌ أَخِيْرٌ يروّضُ أفراسَ التَّيه، يقولُ التائهُ في مَعَارجِ الحَيرة مَسْكُوْنَاً بالعَدَم.

II

تَغُوْصِيْنَ

في الغِيَابِ كسَمَكَةٍ مَاكِرَةٍ؛

في غيابِكِ الذي يَتَخَثَّرُ كَلَيْلةٍ مَطعونةٍ بعتمةٍ آثمةٍ، لا عَلَامةَ تَغيثُ انتباهي، لا دُرُوْبَ تَسْتَنْجِدُ بَعَمَاي، كأنَّني لا أُتْقِنُ النَّداءَ!

أَناديكِ بقوةٍ، ولكنَّ ندائي يَتَعَثَّرُ كَحَجَر بالهَواءِ فَينْهَارُ بالقُرْبِ من قَدميَّ.

أهجسُ لنفسي كلاماً مضجراً:

مع هَذَا الغِيَابَ البَاهِظِ الذي لا يَتَبَدَّدُ، يَزْرَعُنِي الصَّمتُ حَيْرةً تتراكمُ بغَزارةٍ عَلَى كَراسِي الحَديقة كأكوام القشِّ المرصوصةِ في بَيَادِرِ تِلكَ القَرية البَعِيْدَة. حديقةٌ أنيقةٌ هنا وقريةٌ بائسةٌ هناك! أبتسمُ كأيِّ امرىءٍ غَريبٍ يُخفّفُ من وَطَأةِ المَكان. لكن الأمر لا يختلفُ كثيراً فيما يخصُّ "الشَّارعَ" الذي يَقُوْدُنِي دُوْنَ رَحْمَةٍ إلى الحيرة ذاتها، لا أَمْلكُ من أَمْري سِوَى القَوْلِ:

أيّتها السَّمكة الماكرةُ!

لا بلاغةَ تُرتَجَى في هذا الموقف؛ هكذا أبوحُ لنفسي بهدوء.

كأنَّ الغَيَابَ قَدَرٌ؛ كأنَّ الحُبَّ لا يكونُ...، كأنَّ الحُبَّ هُوّةٌ، كأنَّكِ لستِ أنتِ...!

أتذّكرُك، أتذكّر جَسَدَكِ ــ حقولَ الحنطة الممتدة على مرمى اللهفةِ، أتذكرُكِ مدىً شاسعاً في هذه الكَثَافَةِ الفَادِحَةِ لِلْغَيابِ، أتذكّرُ شعرَكِ، تلك الخُصُلاتِ الهَائجة كأمهارٍ في برية الرِّيح، خَصْرَكِ العَالي كَأميرةٍ من العُصُور الوسْطَى، ابتسامَتَكِ الممزوجة بالزبيب ورائحة الأقحوان.

أَلْفِي نَفْسِي على ضفافِ مدينةٍ حجريةٍ؛

كما لو لا "كائنَ" يؤنسُ هذه المدينة!

طَيْفُ أُمّي؛ أُمّي ذاتها بقفطانها الكرديِّ ترفعَ حقيبتي المنسيَّة في الحديقةِ عن المقعدِ؛ وهي تروي للِطُيورِ في أعشاشها حكايةً ما، يدها ذاتها تُضيَء ليَ الطَّريق هناك؛ لا أرى سِوَى سَمَكةٍ تَغُوصُ بِفَرَحٍ في الغِيَاب، لا أَرَى سوى حقولِ رمادٍ في هذا المدى يا أمي...!



III

في وصفِ انتظاره لانعطافاتِ الغيم...! 

 

ينتظرُهَا كما لم يَرَهَا شَسَاعةَ صحراء؛

الوقتُ باهتٌ يقول متململاً، الوقتُ أعرجُ لا تسعفُهُ العَكاكيزُ ثمَّ يرمي بروحهِ على السَّرير كقَصَبةٍ منكسرةٍ في انتظار ما لا طاقة له عليه.

يغرقُ في قصيدةِ شعرٍ انعطافةَ زمنٍ:

يتخيَّل قامتَها التي فاجأته على ضفة نَهر النمور يوماً، شعرَهَا المنذورَ لفجاءاتِ الرَّيح، أصابعَها النَّاياتِ، شفتيها النبيذَ، عينيها حيث انعطافاتُ غيم على بياض ناصعٍ، معطفها الكحليّ، شالها الكاشف عن ألقِ كتفيها، بنطالها "الجينز" الذي يمنح فخذيها شهقةَ منحدرٍ، ساعتها الذهبية... يتخيّلها فرساً جموحاً تناكدُ الرّيحَ والجهاتِ بعُرْفِهَا...!

يُطلُّ من النَّافذة... يَنْتَفِضُ فجأةً لرنّةِ رسالة على الهاتف: بعد شجرةٍ سأنتظرُكَ على الباب....

معها يأتي اليمامُ والدُّوريُّ والحجلُ،

يتنكّبها الغيُم والنّسيمُ والغيث والشَّجر.

يصعدانِ، يطّيرانِ، تزيحُ الستارةَ قليلاً لتتدفّق الظهيرةُ قصيدةً ملتبسةً تضيءُ عتمةَ الغرفة، يقول لها ارتباكاته، تبثُّ له أسرارَ شفتيها. على حافة السَّرير يجلسان، إذ تميلُ إليه، تندلقُ رشفةُ عسلٍ بريٍّ على شفتيه، إذ تميلُ إليه، إناثُ الأرضِ كلُّهُنَّ يَمِلْنَ إليه في هيئةِ أميرةٍ من حكايا الشتاء!

لا نهارَ أعمق من الابتداء بحرف من اسمك. يقول لها ذلك وحنانه يفيضُ على ضفافها!

شيئاً فشيئاً يَصْعَدُ للصَّمتِ حَفيفٌ، هَسيسٌ، يقفُ العَاشقانِ الغريبانِ متخاصرين كغصنينِ يَضجّانِ يماماً، متخاصرين يطرّزان العناق وردةَ صباحٍ يتفتّحُ فيها شبقُ النَّهار.

هيتَ لكَ؛ أنا غزالتُكَ تقولُ له وتأخذُهُ إليها، ويأخذُهَا إليه في رقصةِ البَجْعِ على ضفاف البحيرة، تنفتحُ أجنحةُ الطَّيرين وتلتمُّ، يهْبطُ بها وتصْعدُ به، يرتفعُ نزيبٌ من الظَّبيين، تلتمُّ الأجنحةُ على بعضها في خفقةٍ أخيرة؛ تنفتحُ سماواتٌ نحو أفقٍ بعيد...

V

ثُمَّ كلٌّ إلى سرابه ...!


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية