د.خالد حسين - اللوحة للفنان رحيمو (عبد الرحيم حسين)

«لِنَتَقدَّم أَخيراً بِهَذَا الْبَوح»

آرثر رامبو


وَهَا أنتَ تَقُودُ للحَذَرِ مجْرَاهُ في ظِلالِكَ...وتُمجِّدُ اليَأسَ على مَصَاطِبِ الفَراغِ ثُمَّ تَلُوْكُ الحَسراتِ ريثما تَنْبَثقُ من خطوةٍ شاردةٍ موسيقى جائعةٌ و/ أو ذِئْبٌ وديعُ أَوْ عُصْفُورٌ يُزَرْكِشُ أُفقَ الدَّهشةِ بالسَّراب.

للمرَّة المئة:

حَذارِ أَنْ يُدشِّنَ الفَرحُ عَلَى حافّاتِ أيَّامِكَ أقداحَ غبطَتِهِ...للمرَّة المئة كنتَ تَقولُ: هَذِهِ المَدينةُ لا تُتْقِنُ القَلقَ... لا تُتْقِنُ سوى نفسِهَا.

في غَفلةٍ من العُزْلَةِ المتعرِّشةِ على خَلايا الرِّيحِ...في توحُّدٍ مع الفَرَاغ.... أَعلَنَ الشَّارعُ كلمتَهُ المهيبةَ....

كُنْتَ كَمِنْ يُهِيْلُونَ على رأسهِ أباريقَ طافحةً بليلٍ ورماد فرحٍ نيء...لكنكَ لم تُحرِّكْ صدىً...

أبداً، أبداً كُنتَ وجبةً سريعةً للتردُّدِ والغبطةِ المذبوحة على مشارفِ الكلام.

كَعادتكَ الخضراء؛

حيثُ يَأْوِي إليكَ العَالمُ،

الجدرانُ الحزينة، عصافيرُ الصمتِ...أحلامٌ زرقاء؛

لِهَذَا وَمِنْ بَابِ الغِيَابِ؛ كُنتَ تَودُّ أن تُشَارِكَ الشَّارعَ في مَهْرَجَانِ هلعهِ؛ لَعلَّكَ تُواظِبُ على مهارتِكَ في اصطيادِ الغامض.

فَجأةً؛ وَقَبلَ أنْ ترسوَ بِغنائِكَ على تُخُومٍ العُزلةِ، كُنْتَ مَسْكُوْناً بالضَّجَرِ، وتَودُّ أَنْ تَتَشظّى في اتجاهِ الجهات.

لَمْ تَكُنْ تُدرِكُ أنَّ المَحَطاتِ المهْجُورةَ تُخبِّىءُ لَكَ فُجَاءاتٍ بِلَونِ الشّرودِ.

بغتَةً تَتَلمَّسُ ذاكرتَكَ المثْقُوبةَ ....

ثَمّةَ أُنثى تَتَمدَّدُ عَلَى مَسَاحةِ الوَجَعِ. أُنثى تُرَاهِنُ الزَّمنَ بالحُبِّ؛

أُنثى مَسْكونةٌ بالبعيدْ...ربما.... مَسْكونةٌ بالخوفِ...ربما، هاهي

تتلو لكَ أبجديةً لِحَدائقَ تَحْتِرقُ.

وَهَاأَنْتَ تَقَعُ لِلْمرَّةِ المئة شَهيدَ التردُّد، وجثةً لحموضةٍ تَنْهَالُ عليكَ بِمَطَارقَ مِنْ قَيظٍ وَسَعِير.

وهَا أنتَ بيديكَ تُشْعِلُ سَهْلاً أجردَ:

السَّهلُ الأَجْرَدُ، صبيةٌ من قوس قزح، أَلسنةُ النّيران تمضي في غنائِهَا الأبدي ....

ثَمَّةَ كَائناتٌ تُهلِّل لهسيسِ النِّيرانِ، عَمَدْتَ إلى دمائِكَ تُحَاصِرُ الحريقَ، كُنْتَ تُنادي بِهَلع الصَّمتِ: الحريق، الحريـ...ق.

لِلْوَهْلةِ الأُوْلَى:

كَانتِ الدَّهْشةُ تَفْتَرسُ الفتاةَ؛

وَبَألقِ القَمرِ تَقْتَحِمُ السَّهْلَ النَّاريَّ، وتُواصلُ المَسَافَةَ:

يَا لِلهُاثِهَا كَنَهارٍ أتعَبَتْهُ ظَهيرةٌ فاسقةٌ

ـ هَكَذَا يَرْصدُ الرَّاوي ـ

يَا لِلْمِسْكينةِ نَسيتْ صَنْدَلَهَا عِنْدَ يَنْبُوعِ الحُبِّ:

ـ هَكَذَا هَمَسَتْ امرأةٌ مُسِنّةٌ ـ وَهَي تَغْزِلُ النَّهارَ عَلَى رغبتِهَا المُنْدَثِرَةِ في مَهَبِّ الذُّكورة.

ألسنةُ النِّيران تُمارِسُ إغواءَهَا كديوكً حَبَشِيَّةٍ في أَزقّةِ قُرىً تعشق المللَ.

مَلَلٌ أَسودُ كانَ يجتاحُكَ حينَ قادَكَ السَّرابُ إلى مُدُنٍ من مَاءٍ وآجُر. السَّهلُ الأَجردُ يَمْتدُّ بِشَغَفً إلى أَعماقِكَ، وَيَغُورُ بِنَهَمٍ، بِافْتِرَاسٍ في عُزْلَتِكَ حَيْثُ تَمْكُثُ ليلةٌ مَصْلُوبة.

هَاهِي الفتاةُ تُكَافِحُ اشْتِعَالاً وتُمْسِكُ البِدايةَ مِنْ قِرْنيْهَا؛ لِتَسْأَلَ النَّهايةَ عَنْ عَصَافيرِ الجّنَّةِ الُملوَّنةِ.

بغتةً ... الرِّيحُ بِثَعَالِبَهَا الزَّرقاءَ تَنْشُرُ فُحُولتَهَا؛ حَيْثُ لا مغيثَ... لا نَجْدَةَ مِنْ حَارِسِ الماءْ.

وَكَمُحَارِبٍ مّلَّ عُواءَ الحُرُوبِ؛

هَاهِي الفَتَاةُ تَرْجِعُ القَهْقَرى إلى قَوسِ الحِكْمَةِ؛ لِتُلقِّنَ العَابرينَ حِكْمَةَ الألَمِ، ومَوَاعِظَ الموَاسم الفجَّةِ. 

أَلْسِنةُ النِّيرَان تَمْضِي بِزَرَافاتِهَا المُشْتَعلةِ أبداً.

لَيْسَ ثَمَّةَ سِوَاكَ مَنْ كَانَ يُقدِّمُ لَهَا جرعةَ أو مِحْنةَ مَـاءٍ، وحِفْنةً مِنْ كَلمَاتٍ زَرقاءَ تُعيدُ لِلْسَّمَاءِ عَبَثَهَا اللازْوَرْدِيِّ كُنتَ تَتَّكِىءُ التَّردُّدَ..... وَكَحَكيمٍ بُوذيًّ تُسْدِي غُمُوضَ يَديكَ للمُسَافِرينَ إلى حُقُولِ الضَّوءِ...مُحْتَفِظَاً في الآنِ ذَاتَهِ بِنَصَائِحِكَ

لِلْعَائدينَ مِنْ مَرَافِىءِ الغُبَارْ.

هُنَاكَ و/أو هُنَـا ـ هَكَذَا جَمْهرةٌ مُكْفَهرَّةُ الأصَابع تَبُوحُ هَسْهَسَةً لمساماتها:

ثمَّةَ كَائنٌ يـَؤوْبُ المَدينةَ، يَخْتَزِلُ الوجودَ بِأُناسٍ يَسِيرُونَ مُطَأطِيء الكَلامْ.

بَعْدَ قَليلٍ ـ قُلتُ لَهَا ـ سَتَمِلُّنـَا الشَّوارعُ...المُدنُ؛ بعد قليل..... سَتَمِلُّنَا الأَشَجَارُ التي نُحبُّ......لَكنَّكَ كُنْتَ تَودُّ أَنْ تُوقِظَ قَمراً في حُنْجرتِهَا.

«لَيَالِي السَّأم كَثيرةٌ»: كانَ هَذَا جَوَاب أصابِعِهَا قبلَ أَنْ تَلِفَّ أَوْرِاقَ اللّيلِ في شَعْرِهَا، وتَمْضِي بِشَالٍ يُنْشِدُ آثاراً حَمْرَاء.

«وَأيُّ إلهٍ أَنتِ.... وَأيُّ صَهيْلٍ يَغفُو في خَصْرٍكِ»: تَقُولُ لَهَا ذَلكَ؛ وَأَنْتُمَا تَقْطَعَانِ مَتَاهةَ الكَلامْ.

وَعَلَى مَسَافةٍ مِنَ الافْتراقِ؛ قُلْتَ لَهَا أيضاً:

«كَمْ أَودُّ أَنْ أُحدِّثَكِ طويلاً عَنْ وَردةِ الغَمَامْ»، وكانَ الأَجْدرُ بِكَ أنْ تُحَدِّثَهَا عنْ كائنٍ يَتَقَمَّصُ رأسَ بَقرةٍ، وَيَجُوبُ المَدينةَ ذاتَ مَسَاءٍ.

كُنتَ تُدفِّق ذاتَكَ في الشَّارعِ كَنَهرٍ كَئيبٍ ....

وَبِغْتةً شَعَرْتَ أَنَّكَ وَلِيْمَةٌ مِنَ التَّعبِ لِذَلكَ المَسَاءْ.

وَهَا أَنتَ لا تَكْتَنِهُ كُنْهَ السَّرابِ؛ تَشْعُرُ أَنَّكَ وَحِيدٌ في غُرفَةِ الكَلامْ....

تارةً تُلوِّنُ المُدنَ بالأَزرق؛ وأُخْرى تُعيدُ تَرتيبَ الأَشياءِ؛ وَلَكِنَّكَ سَطَّرتَ في كَراسةٍ صَغيرةٍ:

«الهَواءُ خَانِقٌ والمدينةُ ضَيْقَةٌ»، ولَكِنَّكَ في مَساءاتِ كَائنٍ مَقْطُوعِ الرَّأسِ كَانَ يَصْطَحِبُكَ أَنتَ؛ فَتَشْرٍعُ أَبوابَكَ لِرذاذَ الذكريات......؛ وَتُبيحُ عَيْنَيْكَ لخطِّ الأُفُقِ: تَسْتَجْدٍي لَونَ الحُزنِ حَيْثُ تَنْهشُ ذاكرتَكَ الأَسْمَاءُ: كُوردٌ، آشورٌ، عَربٌ، غَجَرٌ، قُرباطٌ....، لكنَّ ثمَّةّ نِساءٌ ـ عَلَى طَرَفِ البُحيرةِ الصَّغيرةِ؛ أَتذكَّرُ ذلك جيداً ـ يَصْهَلْنَ بأجيجِ الرَّغبةِ، والرُّعاةُ إذاكَ يَهْرٍسُونَ أَرْغِفَةَ الخُبزِ المتيبِّسةْ.

كَأنَّكَ عَائدٌ مِنْ مَأساةٍ؛

حَيْثُ تَبْكِيكَ الأَشْجَارُ...أَعْشَابُ ـ الفريز...وَطُيورُ حَمَامٍ تَسْتَمرُّ بِنشيجِهَا العَميق.

تَمْلأَ رَاحتيْكَ بِأعشابٍ نَديةٍ ثُمَّ تتذكَّرُ:

اِسْتيقظِي أَيَّتهَا الصَّبيةُ، اِستيقظْ أَيُّهَا السَّهلُ الأَجْردُ من رِمَادِكَ:

آنَ لَكِ أَيَّتُهَا الصَّبيّةُ أنْ تَهْرُبِي بِأَغانِيكِ، بالنَّوافِذِ الجَميلةِ في أَصَابِعِكِ وارْسُمِي عَلَى سَبيلِ الذِّكْرَى: قَمَراً...وغَيْمَةْ.

بَعْدَ قَليلٍ:

سَتَغْدُو ذَاكرتُكَ بَيْضَاءَ...بَيْضَاءَ...سَالِكَاً دُرُوْبَاً بَعِيدةْ، نَاسِياً العَالَم؛ مُفْسِحَاً لِطَير المَوْتِ بِالحُضُورِ:

المَوتُ يَنتظِرُنـَا...لَيْتَنِي أَنْ أَمُوتَ دُوْنَ أَلَمٍ؛ هَكَذَا حَدَّثَنَا أُحَدُ الأَصْدقاءِ عَنْ أُسْطُورةِ المَوتِ، وَمَضَى، هَكَذَا حَدَّثَنا تَحْتَ شَجَرَةِ نَخِيلٍ ذَاتَ مَساءٍ مِنْ بَنفسجٍ، وَمَضَى......................

غَيْرَ أَنَّكَ الآنَ وَاحَةٌ بِلا ذَاكِرة...كَائنٌ كَسِيحٌ، مَثْقُوبُ القَلْبِ؛ تَخُطُّ عَلَى رِمَالِ الضَّوْءِ تَشكيلاتٍ لِكَائناتٍ مِنْ جَمْرٍ وَحَجَرٍ.

لَكِنَّ رَجُلاً يَقيسُ سَأمَ الطَّريقِ كَانَ يَهَذْي: عَلَينَا أَنْ نَسْتَمِرَّ في الرَّكْضِ؛ إذْ لَيْسَ ثّمَّةَ فَائدةٌ مِنَ الغِنَاءِ؛ إذن:

يَا مُسَافرُ، يَا مُحَارِبُ، يَا سَليْلَ كُوْجَرو: اِرْفَعْ لِفَيالقِ السَّرابِ ضَجَرَكَ بَيَاضَاً...لِلْسَأمِ شَمْسَاً مَرِيْضَةْ، لِلْعُزلَةِ طيِّرْ طُيُوراً بِلَوْنِ الآجُرِّ؛ وَلاتَنْسَ في رِحِيْلِكَ المَقْبَرةَ الكَائنةَ شَرْق القَريةِ حَيْثُ يَرْقُدُ: "مُحَمَّدُ العَمْشَات".

وَاهمِسْ قَليْلاً لَهُ: أَمَا زَالَ لُعَابَكَ يَسيلُ بِالشَّتَائِم حَيْثُ مَرَّتْ صَبَايَا مُدَججَّاتٍ بِخُصُورٍ رَهِيْفةْ، يَقْذِفْنَ كَلْبَكَ حِجَارَةً.

لَكَ أَنْ تَعْترفَ الآنَ بِقَليلٍ مِنَ الْجُرْأَةِ:

إنَّ العَالَمَ خَرابٌ، خَرَابْ...والصَّدى كَانَ يَنْمُو مُصْفَرَّاً كالزِّعْفَرانِ عَلَى كَتْفِ المَدَى.

يَا لِلْمُفًاجأةِ الجَميلةْ:

 هَا هِي الصَّبيةُ تُغَنِّي وَتَهَرُبُ بَعيدَاً عَنِ السَّهلِ الأَجْرَد ...وَشَفَتَاكَ تَفْتَرانَ عَنْ شَجرةٍ مُتَيَبّسةْ...طَائرٍ يَحْتَرِقُ...وَغَزالٍ يَفرُّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ بَعيدَاً.

غَيرَ أَنَّ الفَتاةَ تَنزعُ عَنْ يَديْهَا أَسَاورَ الخَديعةِ ...تُزيْحُ عَنْ خَصْرِهَا أَحْلامَاً شَبِقةْ...هَاهِي تَبْكِي مَدينةً مُنْطَفِئةً تَسْكُنُ أَصَابعَهَا ...تَبكِي وَرْدَةً أُبِيْحَتْ في مَحَطَّةِ مَهْجُورة.

هَكَذَا أَيَّتُهَا الَمحطَّةُ اللعِينةُ تَفْتَحِيْنَ أَبوابَكِ وَحِيْدَةً...لَكِنْ لا قِطَارَات تَئِنُّ في خَصْرِكِ اليومَ...وَحْدَهَا أَعْشَابُ الدَّنْدَفْرِيْش تُمَارِسُ عَوِيْلَ المَكَانِ.

هَكَذَا يَعْبِرُكِ الْقَادِمُوْنَ مُتَنَاسِينَ خَسَارَاتِهِمْ أَبَدَا؛

هَكَذَا الصَّمت نَفِيْرُ الجُدْرَانِ المُتْعبَةِ، وَعَبثُ الحِجَارَةِ؛

هَكَذَا يَزْهُو بِأَسْنَانِهِ الْبَيْضَاءَ وَيتَرَصَّدُ الكَلامْ.


[من مجموعة "وردة الغمام"،1993/ Tirbespi].


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية