لم يُنصف يوماً إلياس الرحباني. رحل الموسيقار الكبير من دون أن يعرف كثيرون أن أشهر وأكثر الأغنيات ترداداً على ألسنتهم هي من موسيقاه، وربما من كلماته، وأن أشهر أغنيات الإعلانات التي حفظوها صغاراً، هي من خصب مخيلته، وكذلك أغنيات أفلام حضروها ولم ينسوها أبداً.

هل ظلمت الرجل مواهبه المتعددة الكثيرة، التي كان يتنقل بينها بخفة وسهولة ويسر؟ هل أن ترتيبه كأخ أصغر للأخوين عاصي ومنصور، هو السبب؟ أو أن روحه المرحة، جعلت جمهور الناس لا يقدرون عبقريته حق قدرها؟

توفي إلياس الرحباني، أمس الاثنين، عن عمر ناهز 83 عاماً. بقي ستين عاماً في عطاء فني كثيف ومبهر. واستمر حتى سنوات قليلة خلت، يبدو في عز عطائه، وكأنما العمر لم يتمكن من أن ينال منه. كان يؤكد تكراراً أنه لا يعرف من يمكن أن يكتب الموسيقى بسرعته وأريحيتيه، وأنه في حالة خلق دائمة لا تتوقف، وهذا أمر خارج عن إرادته. كتب آلاف المقطوعات الموسيقية ولحن أغنيات عربية وإنجليزية وفرنسية وإيطالية وحتى إسبانية. متواضع، وربما هذا ما ظلمه أحياناً. بدأ وهو في سنة السادسة عشرة يكتب مقطوعاته. وفي سن التاسعة عشرة، كان يضع موسيقى وأغنيات لأشهر الإعلانات التلفزيونية التي ذاع صيتها. يمكن القول إنه ابتكر أسلوباً جديداً في هذا المجال. في تلك السن الصغيرة، اتفقت معه «بي بي سي» على تأليف 40 أغنية وعدد من موسيقات البرامج.

ولد إلياس الرحباني في أنطلياس، شمال بيروت، توفي والده وهو في الخامسة من عمره، فتعهده أخواه عاصي ومنصور الرحباني اللذان صارا بمثابة أبوين له. وبعد «المعهد الوطني الموسيقي»، درسه أخواه الموسيقى لمدة 12 عاماً على يد أستاذين فرنسيين. فنشأ إلياس، وقد انطلقت مسيرة الأخوين الكبيرين، وشق درباً صعباً، وتمكن من أن يخط طريقاً استثنائياً بموازاتهما وباستقلالية عنهما، سواء في نوعية موسيقاه وكلمات أغنياته وطبيعة أعماله، أو في شخصيته الدمثة القريبة من القلب، وروحه المرحة، والنكتة الحاضرة أبداً على لسانه.

بدأ باكراً التعاون مع مغنين معروفين. أولى أغنياته كانت «ما أحلاها» أداها الموهوب نصري شمس الدين، ومن بعدها كرت السبحة. وبدأ إلياس عام 1962 العمل مخرجاً ومستشاراً موسيقياً في إذاعة لبنان، وتعرف على حبيبته نينا خليل التي ستصبح زوجته، وينجبان غسان وجاد اللذين بدورهما، سيلعبان دوراً في عالم الفن.

يتحدث إلياس الرحباني عن أكثر من 90 فناناً عربياً وأجنبياً أدوا أغنياته. والحقيقة أنه برع في وضع الأغنيات الغربية، كما الشرقية وبالمهارة نفسها، وكذلك المزج بين النوعين، ببراعة وذكاء. أشهر من غنى له بطبيعة الحال فيروز، من أشهر أغنياتها «طير الوروار»، و«ليل وأوضه منسية» و«يا قمر الحلوين»، و«بيني وبينك»، و«قتلوني عيونا السود». وكذلك له من الأغنيات المعروفة جداً، «يا مارق عالطواحين» و«حنا السكران»، «ياي ياي يا ناسيني». برع في الأغنيات الكلاسيكية والرومانسية والشعبية الممزوجة بالسخرية، وكتب الكثير للأطفال، للأم والأب، والمطر.

جيلٌ بأكمله تربى على أغنياته الظريفة، المرحة التي تنعش القلب، مثل «عمي بو مسعود» - «عيدك يا ماما»، «مبروك يا بابا»، «كلن عندن سيارات»، «طلع الضو عالوادي، عالوادي طلع الضو».

روح الفرح رافقته أينما حل، وبها مزج أغنيات له، من ينسى «يا بو مرعي» و«بنسى كل مواعيدي»، وكذلك «موري موري» الشهيرة، التي جاب بها سامي كلارك مسارح العالم.

والسؤال من لم يغن لإلياس الرحباني؟ جميع الكبار تقريباً، ماجدة الرومي، وصباح، ووديع الصافي، وجوليا بطرس، وملحم بركات. وهو من المحبين للأصوات الجميلة الناشئة أيضاً، وله فضل على العديد من الشبان المغنين. ولم يكن يعبأ لمن يعطي الأغنيات بقدر ما كان يهتم لجمالية الأداء. وهو صاحب أغنية «بدي عيش» كلماته ولحنه وتوزيعه التي غنتها هيفاء وهبي، بعد أن دربها وشحذ صوتها لتخرج الأغنية كما يتمنى.

إلياس الرحباني، هامة فنية شاهقة، ترك وراءه ربرتواراً، لا يعرف اللبنانيون قيمته بعد، ولا بد سيكتشفون أن الرجل أكبر مما كانوا يعتقدون، وهم يشاهدونه يلقي نكاته بروح طفولية، في لجان تحكيم البرامج الفنية. وسيدركون أن هذه الموهبة العملاقة التي كانت تنضح إبداعاً، لم تحظ بما يحيط بالفنانين اليوم في زمن الترويج للاشيء.

هو حقاً من أبرز الموسيقيين العرب. ملحن وموزع، كاتب أغنيات، شاعر، وقائد أوركسترا، ومكتشف مواهب. كما أن أنتج وألّف عدة مسرحيات، منها: «وادي شمسين»، و«سفرة الأحلام»، و«إيلا». إضافة إلى آلاف الألحان والمعزوفات، كتب أجمل الموسيقات التصويرية العربية. من لا يتذكر موسيقى الفيلم المصري الشهير، «دمي ودموعي وابتسامتي» وموسيقى «حبيبتي» ومسلسل «أجمل أيام حياتي» و«عازف الليل» و«لا تقولي وداعاً». هذا عدا أعماله الكلاسيكية الخالصة، التي كان يكتبها ويضعها جانباً، معتبراً أن أحداً لا يعبأ بها، في الزمن الذي نحن فيه. ومن دون أدنى شك، إن في جعبة ولديه اليوم، الفنانين غسان وجاد، من الكنوز التي لم تُنشر بعد، ما يمكن أن يُفرح قلوب الكثيرين، بعد وفاته الحزينة بمرض «كورونا» اللعين، تماماً كما كان بهياً في حياته.

المصدر: الشرق الأوسط

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).