البريدُ بطيءٌ هنا. إنْ متُّ فلن يتسنَّى لي معرفةَ ذلك إلا بعدَ أمدٍ طويل. لعلّني ميتٌ سلفاً. 

هاأنا أحيا، على أيّةِ حالٍ، في شكلٍ خاطئ من زمن الفعل بلغةٍ غريبة، فأنا بالكاد أملك أيَّة أفعالٍ، سوى عددٍ من الأسماء، حسب، برهاناً على وجودي. حينما أنشد كلمةً ما، أنبشُ بين الأسماء حتَّى أعثرَ عليها، بيد أنّ أعداداً كبيرةً منها تتساوى في الحجمِ واللون. 

 تَخْتَلِطُ عليَّ الكلمات فأقولُ ( caballo ) عوضاً عن ( caballero ) أو ( carne) عوضاً عن (casa). حتَّى أشردَ فأفقد عنانَ الكلماتِ المتناثرةِ في كلّ الأرجاءِ على آجُرِّ الأرضيةِ. أَجْثُو، فأنزلُ على أربعٍ ثم أحبو بين غابةٍ من الأرجل، مادّاً جسدي تحت الطاولات والكراسي بغيةَ التقاط تلكَ الكلماتِ؛ فأنا أعتقدُ جازماً أنَّهُ ليس من العارِ الحبو في الأماكن العامة إذْ بدأتُ أدرك أنّني غيرُ مرئيٍ معظمَ الأحيان، و كذا كنتُ مُذْ عبرتُ الحدودَ. الأرضياتُ كلُّها من الآجرِّ. 

كلُّ شرائحَ الأرضيةِ مبقّعةٌ، النماذجُ القلقةُ نفسُها في ثلاثةِ ألوانٍ مُعتَكرةِ المزاجِ؛ تناوبٌ بينَ الأصفرِ، البنفسجي والأخضرِ. ما يجعلني أفكر في قيءٍ جافٍ، كبدٍ نيئٍّ ورغوةٍ في وقبٍ. الأرضيةُ في غرفتي قيءٌ جافٌ، ولها حوافٌ مزبدةٌ. وكذا الكثيرُ من الأرضياتِ التي تفتقدُ شرائحَ شتى، ممّا تمنحني شعوراً غامراً بالراحةِ. فالثقوبُ تلك واحاتٌ في الصحراءِ، حيثُ بمقدوري إراحةُ عينيّ عليها لأنَّ الغثيانَ لديّ لا تُرَدُّ أسبابُهُ إلى مَأكلٍ أو مَشربٍ وإنَّما إلى الأرضيات. 

أدركُ ذلكَ لأننّي حينما أجلسُ في الساحةِ الكبرى، المغطاةِ بإسمنتٍ مجهولِ اللونِ، فإن الغثيانَ يختفي. المدينةُ صغيرةٌ، منعزلةٌ ولكنّها أكبرُ ممّا تتراءى للزائرِ، هذا إنْ لاح فيها زائرٌ. ليسَ فيها مطارٌ ولو لطائراتٍ صغيرة، بل إنَّ أقربَ سكةٍ حديديَّةٍ تبعدُ عنها مئةَ كيلو مترٍ شرقاً. الباصُ الوحيدُ الذي ينطلقُ منها، يتَّجه نحو (فيرا كروس). أتوقّفُ مراراً عند المحطَّةِ، مستفسراً عن المكانِ الذي ينطلق الباصُ منهُ.

 الأرضيةُ هناك رغوةٌ في وقبٍ على حافةٍ من كبدٍ نيئٍ، بيد أنّ عدداً كبيراً من الشرائحِ تُفتقدُ؛ فالمحطَّةُ دومـاً خاويةٌ ما خلا (رافائيل ) و (ستيفان). تارةً يجلسان على المقعدِ في الداخل، وتارةً أخرى يتسكّعانِ بجوارِ البابِ خارجاً. إنّهما يافعان، حافيان، وعلى قدرٍ كبيرٍ من الوسامة. أبتاع لهما (كوكاس) من إحدى الماكينات، وهكذا تعلّمنا التعايش معاً. يبهجُني أنْ أكونَ غيرَ مرئيٍ معهما،كونهما لا يمعنان النظر فيّ. إذ ليس بوسـعيَ أن أحتمـلَ المخملَ الناعم والهشاشةَ في أعينهما الجميلة. 

"متى سيمضي الباصُ إلى فيرا كروس؟"، أسألهم. لقد تمرّنتُ على قول هذا مراراً، واثقاً من استخدامي لزمن الفعلِ بشكلٍ صائبٍ. لكنّ الكلماتِ ترتقي إلى السقفِ، تتفجّرُ وتهمي كقطعٍ من الحلوى حولنا. تلتصقُ عدةُ قطعٍ متلألئةٍ كالجواهرِ في شعرهما الداكن. يسير رافائيل كاشطاً قدميهِ بالأرضِ. يرنو ستيفان عبر النافذةِ المتّسخة. أتساءلُ: لِمَ هما تعيسانِ هكذا؟ أَ هو بسبب تصوّرهما تعذُّرِ وجودِ باصٍ يقلّهما إلى (فيرا كروس) أم بسبب عدمِ معرفتهما موعدَ انطلاقِ الباصِ. " هل ثمة باصٌ إلى فيرا كروس؟ ". فجأةً سعداءُ مجدّداً، إذ ترفرفُ أياديهم طيوراً مفعمةً بالحياة. 

 

"SI, HAY! PORSUPUESTO, SENORE! ES VERDAD!"

حينها أدركُ أنَّ ثمَّة باص إلى فيرا كروس. أسألُ مجدّداً عن موعدِ انطلاق الحافلة. صمتٌ وأسى. يتفحّصُ رافائيل إحدى شرائحِ الأرضيَّةِ كما لو كانَ لديها جوابٌ. يلتفتُ ستيفان نحو النافذةِ. أبتاعُ لهما "كوكاس "من الماكينة، ثم أمضي في سبيلي. أتردَّدُ مرة كلَّ أسبوعٍ على مكتب البريدِ لأتسلّمَ رسالةً من تلكَ المرأةِ المسنّة، القابعةِ خلف قضبانِ الحديد. في حقيقة الأمر إنَّ الرسائلَ ليستْ لي. ويبدو أنّ المرأةَ قد فهمتْ ذلك منذ أمدٍ بعيدٍ، لكنّها لاتصارحُني بذلك، مثابرةً على مناولتي الرسائلَ بصمتٍ، مبتسمةً مطأطِئةَ الرأسِ بطريقتها المغناج، حريصةً على إرضائي. 

 

لها شرائطُ ملوَّنةٌ من الحريرِ تلفّ بها شَعرها، وقرطٌ كبيرٌ من الفضَّةِ يهسُّ عندما تومئُ لي بحماسٍ آنَ تراني مقبلاً. ليسَ بوسـعيَ أن أقدِّرَ عُمَرها. ربَّما هي نفسُها قد نسيَتْ ذلكَ. من المؤكَّدِ أنَّها كانتْ يوماً ما بديعةَ الجمالِ. ها هي الآنَ تمكثُ طوالَ النهارِ في القفصِ المعدنيّ لمكتب البريد، ظهورٌ لطيفٌ بحمرةِ شفاهٍ يضفي عليها رونقاً مُدهِشاً  كونها تفتقرُ إلى الأسنان. أعزو دخولي المرة الأولى إلى مكتبِ البريدِ إلى دافعٍ خفيٍّ؛ فكمْ وددت ُلو شعرتُ بالرضى بالرغم من أنّي لا أنتظرُ رسالةً البتةَ، إذ لا يُعْرَفُ مكاني. لكنّي كلَما مررتُ بالمكانِ شاهدتُها عبر النافذة، جالسةً في محبسها دونَ أن يؤمَّ المكانَ أحدٌ ما يخفّف من حدةِ الرتابة. تومئُ لي برأسها من خلفَ النافذةِ، باسمةَ الثغرِ تبتهجُ لكل فاصلٍ متاحٍ للاستراحة. حتَّى دلفتُ إلى مكتبها يوماً، بحجَّةِ السؤالِ عن رسائل لي، يقيناُ منّي ألّا رسائل لي لديها. 

مددتُ لها ورقةً دوّنت عليها اسمي، كي أتجنّب سوءِ فهمِ مرده ارتباكي عند نطق الكلمات. تنقّلتْ يداها الصغيرتان بخفةٍ بينَ الرفوفِ، ويا لشدّةِ دهشتي! فقد عثرتْ على رسالةٍ مرسلةٍ إلى عنواني في (بوست رستانت). كانتْ أمارات الرضا باديةً على محيَّاها حينما أخذتُ الرسالةَ ومضيتُ سريعاُ كي لا أسبّب لها ضيقاً. عرفت سرَ اللغز بعدَ فتحيَ الرسالةِ، إذ لي اسمٌ شائعٌ يتسمّى به الكثيرون ههنا، والرسالةُ موجّهةٌ لشخصٍ اسمه مطابق لاسمي. أسطرُ الرسالة خطّت على ورقةٍ زرقاءَ، بخطٍ أنيقٍ لا يشوبُه عيبٌ يحملُ توقـيعَ امرأةٍ بلا تأريخٍ أو عنوان المرسل. رسالةٌ مكتوبةٌ باللغة الإنكليزية. قرأتُها بلا تحفُّظٍ، متذوِّقاً كلَّ جملةٍ فيها. رغمَ شكوكي بأنّ الرسالة ليستْ لي؛ فالبريدُ بطيءٌ هنا لدرجةٍ أنّ الرجلَ الذي كانت الرسالةُ تخصُّه ميتٌ على الأرجح ولا يُمانعُ إن قُرأت رسائلهُ. ويقيناً مني أنّني قبلَ أن أفرُغَ من الرسالةِ سأعودُ إلى مكتبِ البريدِ لاحقاً، آملاً وصول رسائلَ أخرى. تبدو المرأة في طيَّات الرسالةِ مولعةً بالرجل، موقنة ًأنّهُ على قيدِ الحياة. بتُّ مذاك الحين أتلّقى رسالةً كلَ أسبوعٍ، وسطَ غبطة وإعجابِ صاحبتي العجوز في مكتبِ البريد.

أجلبُ الرسائلَ معي إلى البيتِ ثم أقوم بفتحها على البخارِ، متجنّباً تركَ بصماتٍ على الورقِ الهشِّ. كانت الرسائلُ دوماً من المرأةِ ذاتها، يخالُ لي أنّي أعرفها ويَصدفُ أن أحلمُ بها، كما لو كانتْ شخصاً من ماضيَّ: ممشوقةَ القامةِ شقراءَ، ليستْ بشابَّةٍ ولا بهرمةٍ. بوسعي أنْ أرى أناملَها الرهيفةَ الفارعةَ تمسكُ بالقلمِ وهي تكتبُ، ترفعُ أحياناً يدها لتزيح خصلاتِ شعرها. إيماءةٌ صغيرةٌ كهذه تعبّرُ عن البهجةِ. بُعيدَ انتهائي من قراءةِ الرسالةِ وحفظها كلمةً كلمةً أعاود لصقها وحملها مجدّداً، منتظراً وقتئذٍ العتمةَ لحملها إلى مكتبِ البريدِ سالكاً دروباً مختلفةً، متجنّباً فضولَ الناس. فمكتبُ البريدِ مفتوحٌ دوماً، ما خلا القفصَ المعدنيّ وتلك العجوزَ تكون قد غادرت المكانَ بحلول المساء. 

أدسُّ الرسالةَ في صندوقِ البريدِ المخصصِ للرسائلِ ذي العناوينِ الخاطئة وأسرعُ مبتعداً عن المكانِ. بدايةً لم أولِ أيَّ اهتمامٍ لمصير الرسائل المردودةِ، ولكنّني بدأتُ أتساءلُ لاحقا عن مصيرها فيما إذا كانت قد أُتلفت أو أُرسلت إلى مكتبٍ مركزي. حيثُ يقومُ أحدُهم هناك بتقفّي أثر المرسلِ، مكتشفاً آنئذٍ أن ّالرسائلَ قد فُتحت. لم أحتملْ فكرةَ قيام موظفٍ مجهولٍ من مدينةٍ نائيةٍ بقراءة الرسالة. باتَ منَ الصعبِ عليّ أن أتَصوّر الرسائلَ وهيَ لا تعود إليّ. ما زلت لا أحتمل فكرةَ أن يقرأَ أحدُهم كلماتِها ويعايشَ رقّتَها وترَدُّدَها اللطيف؛ حتَّى قرَّرتُ في نهايةِ المطافِ التحرّي عن حقيقة الأمرِ. ممّا استغرقَ مني شهوراً من الجهد، تمرّنت خلالها على التخفّي بمهارةٍ في مداخلِ الأبنية الظليلةِ لكي أتحرّى عن ملابساتها. وقد علمتُ أنّ رجلاً مجهولَ الهويةِ يدخلُ من البابِ الخلفيِّ إلى مكتب البريدِ، مرةً في الأسبوعِ، وبيدهِ كيسٌ من الكتانِ. تفرغ المرأةُ العجوزُ في الكيس صندوقَ الرسائلِ ذات العناوينِ الخاطئةِ قبل أن تقفلَ قفصَها المعدني بلحظاتٍ. وكان الرجلُ في تلك الليلةِ قد غادرَ المكانَ من البابِ ذاته الذي دخل منه.  

إذ يبدأُ الرجلُ رحلةً متعرجةً تستمرُ طويلاً في الليلِ. فقدتُ مراراً أثرَه في الليل، فترتّبَ عليَّ أن أعيدَ الكرَّة مُجدداً في الأسبوعِ التالي. كان يقومُ بجولاتٍ كاملةٍ في الأزقَّةِ و الشوارعِ المُظلمةِ. يلجُ مراراً إلى الأبنيةِ الخاليةِ من بابٍ ويخرجُ من آخر. يسيرُ عبرَ مقبرةِ الكاتدرائية. حتَّى يصلَ في نهاية المطافِ إلى وجهتهِ، وهي محطَّة الباص. حيثُ يتوقّفُ الأخير المغادر ُصوبَ فيرا كروس، مَختفيّاً وراءَ أبوابٍ كبيرةٍ تُفتحُ باتّجاه السقفِ عبرَ دفعها خلل قناتين معدنيتين. يضعُ الرجلُ كيسَهُ المصنوعَ من الكتانِ في صندوقِ ودائعِ المسافرين، فيصدر طنيناً مديداً ولاحقاً ينطلقُ الباصُ بهدوءٍ في غير موعده إلى خارج مبنى المحطَّةِ باتّجاه فيرا كروس. مركبٌ بخاريٌ فاخرٌ يبرحُ الميناءَ،كلُّ النوافذِ فيهِ مضاءةٌ. له ثلاثُ بقعِ ضوءٍ صفراءَ على زجاجِ المقدمة وثلاثُ نجومٍ ذهبيةٍ على كل طرفٍ. المقاعدُ من مخملٍ أحمر، بين الشبابيكِ خصلاتٌ ذهبيةٌ مُعلّقة. لوحةُ الأدواتِ وشيٌ منمنمُ، فاخر وغني بطيف يتداخلُ فيه الأصفرُ، البنفسجيُ والأخضرُ. ينتصبُ على هذا المذبحِ تمثالٌ للعذراءِ، الشقراءِ واللامعة. أصابعُها الرهيفةُ مُدَّت لتباركَ كلَّ الذين على متن الباصِ إلى فيرا كروس، لكنَّ المسافرَ الوحيدَ في الباصِ امرأةٌ عجوزٌ لها أقراطٌ مصنوعةٌ من الفضةِ جالسةً لصقَ النافذةِ تومئُ وتبتسمُ للمقاعدِ الخاويةِ حولها.  

يتناوبُ خلالَ هذهِ الرحلةِ الطويلةِ سائقانِ على القيادةِ. شابّانِ وسيمانِ، لهما عيونٌ صافيةٌ كأجنحةٍ بنيّةٍ لفراشاتٍ ليليّةٍ متألّقةٍ. يسري الباصُ عبرَ الشوارعِ النائمةِ بلا ضوضاء على الإطلاق، متّجهاً نحو فيرا كروس، مُزيداً السرعةَ شيئاً فشيئاً دون أن يتسنّى لشيء ما كبح جماحه؛ لا المطرُ ولا الجسورُ المجروفةُ ولا المنعطفاتُ الحادةُ في الجبالِ ولا الناسُ الذينَ يلوّحونَ بأيديهم بغيةَ إيقافه على قارعة الطريق. لي ثقةٌ بباصِ فيرا كروس. ويوماً ما، حينما لن يكونَ بوسعي أن أتصارعَ مع الأفعالِ والأسماءِ أكثر، عندما تغدو السماجةُ والمعاناةُ في هذا المكانِ ثقيلةً جداً بالنسبةِ لي، سأكون وقتئذٍ على متنهِ. سأستقلُّ الباصَ حاملاً تَذكَرتي بيدي. وسترفعُ أبوابُ محطَّةِ الباصِ إلى السقفِ، لنبحرَ في العتمةِ مسرعينَ أكثرَ فأكثرَ, كمثلِ جزيرةٍ عظيمةٍ من النورِ.

 

 

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية