زوجتي تعتمد على جذع سروة، تقتات من بذور عباد الشمس، تنأى وطفلي من ورائي باحثَين عن حصياتٍ للرماية، ويتناهى إلي صوت الطفل: "وحيداً بقي أبي". يقتربان ويفترشان العشبَ، يلامسني الطفل فألثم فمه، ثم أقبِّل أسنانه وقد ترقَّطت قواطعه بالاصفرار، فتعمل شفتاي وأسناني مثل فرشاة أسنان. ويقول عني الطفل بعد قليل: "إنه مكفهر". هذا ما يقوله ويظنه إذا فكَّرتُ.
على مبعدة خمسين متراً بالتقريب فراشةٌ بيضاء تتوارى ما بين الجذوع والمرأتين المتقابلتين تحت الظلال، في مسوح الريف. أطلب إلى الطفل أن يجلس فوق بطني فيفعل ويسألني: 
- تحب أمي؟ 
- نعم 
- كم تحبها؟ 
- كثيراً 
- تحبها من هنا إلى ألمانيا؟  
- بل من هنا إلى عامودا. فيصيب وجنتي أسفل عيني اليسرى بحصاة آلته البلاستيك.
تينيسي ويليامز يصعد في رأسي. حكايته في البحر أو البحيرة حيث الشمس وفتاةٌ، تأملاته المسترخية في الزورق. ربما بسبب الصيف أو المياه، ولكن أكثر من ذلك هو يمثِّل دفاعي الآن إزاء الحضيضين الخارجي والداخلي.
عينا الكلب الممدّد في محطة الانطلاق المرصوفة بحجارة سوداء تتنقلان سريعاً ما بين الحزن واللامبالاة، فتكونان بتمام التعقل والحكمة. متنكِّباً إطار المقعد الخالي أمامي - وكل المقاعد خالية - بحيادية المشاعر أصوب نظري إلى عيني ذلك الكلب، حتى تتحرك الحافلة فيصعد فرادى المتنقلين، ويظل هو مكانه.
ـ شرابٌ محكَمٌ ثقيل. 
أجبتُ بأنه لذيذٌ حامضٌ. وها أنا أتعرق في الحافلة وأتمخط بينما يتوافد ركاب كل محطةٍ من كورتولوش إلى ييني كابي. ما بين صاعدين من الترك والأفارقة توشك أن تمتلئ الحافلة. أحدٌ سمين يرى، وأنا من خلفه مباراةَ فوتبول عبر شاشة الموبايل. يخلي رجلٌ مقعده متأففاً، مشيراً بالقرف إلى الشابة الإفريقية المتأنقة، تمكث مُهانةً في جواره. الرجل يتقهقر إلى الوراء لأظنّه مترجلاً في المحطة القريبة، ولكنه بعد دقائق يعود للمقدمة، حيث أُخلي كرسيٌّ هناك.
تمرُّ الحافلة على جسرين ممتدين فوق البحر وتخترق نفقاً، وفي موقف ساحة متألقة تترجل الإفريقية وتمشي تتماسك، فأرى بوضوحٍ التكورَ الخاذلَ في بطنها.
تينيسي ويليامز في إستنبول. علينا أن نستأجر على عجالة بيوتاً ثلاثة، فمالكو البيوت باتوا يكرهون التأجير للسوريين والكرد.
مضى شهرٌ هنا. البداية كانت في تموز:  الشمال السوري صباحاً، الجنوب التركي عند الظهيرة. قطعنا أقلّ من نصف ميل في خمس ساعات. الحقائب مُرِّغت بالتراب والقش والأشواك، وطفلنا استبسل حقاً في لهيب الشهر السابع.
أخذنا خالي بسيارته إلى ماردين المستلقية على الجبل. في المؤسسات المعنية التُقطت لنا صورٌ أمامية وجانبية، وامتلأت استماراتٌ ثلاثٌ بأسمائنا وما يتداعى منها، وكان هناك رجلٌ ملتحٍ نائماً مشخراً فوق البلاط. 
القرية الكبيرة. أعود إليها بعد ثلاثة عقود. ملأتُ عنها كراساً صغيراً قبيل خدمة الجيش وأثناءها. الذاكرة اختلطت بالأساطير (بيوتٌ حجريةٌ - بساتين بطيخ ممتدةٌ - قطعانُ المواشي والحمير - الآليات السيارة المحبوكة من الأسلاك - الموتى الملحميون من أهل أمي، وأختي «حبة الرمان»).
شرعتُ بالمقارنات: قصر جدي أصغر وأخفض، غير ذلك لا اختلافَ يُذكر.
من السطح إبّان الأصيل كان الأمر لا يُصدّق، تخطٍّ معقّد لبضعة أمتار استغرقنا المتاعب والتهويل والترجي. الباقي من أهلنا وصحبنا في الجنوب حيث عامودا المنخفضة لا تبعد سوى بضعة أميالٍ.
ـ كم تبعد إستنبول؟
- عشرين ساعة داخل باص.
أهل أمي ومعارفهم متعاطفون مع حَمَلة السلاح من كرد سوريا، ووجدوا أنه لولاهم لفتكَ رجال جبهة النصرة بالشريط الكردي، ولَخضعت المدنُ واستُبيح كلُّ محرَّم. وكنت أجادلهم قليلاً في التفاصيل والماورائيات، لكنهم معتدّون بالآراء الصقيلة، التي صاغوها كما يرغبون، فأحتدُّ حيناً ثم أستعيد رُشدي لأني نازح. النزوح لم يكن بتمام هذا المعنى في خيالي. 
ـ ما الماء بالتركية؟
ـ سو.
(روهي سو)، أتعرف هذا المغني؟
ـ لا.
ـ إستانبول بعد ثماني عشرة ساعة أو تسع عشرة. شهرزاد بالانتظار في إيسنلر. سنقيم في كاناريا إلى أن نستأجر بيتاً.
ـ الأعمال وفيرة هنا؛ التصوير الفوتوغرافي، إخراج أفلامٍ تسجيلية قصيرة، سكيتشات للشركات الممولة والقنوات، استثمار أحد المطاعم لصالح الائتلاف؛ والنرجيلة حسب المستثمر ستتحكم بميزان الربح.
انقضى شهرٌ. الأعمال عديمةٌ، مهرِّبو البشر يعملون ورجال السياسة أيضاً والصيادون الذين يغافلون المحار في الليل المتأخر. البيوت لا تُستأجر لنا نحن السوريين.
طفلنا يرى في الحلم بأننا ننزلق إلى البحر ولا نغرق، نتنفَّس الماء.
يركض طفلٌ في شارع من إستانبول فتصيح به فتاة:
ـ شاهين، كيت ما.
«كيت ما» أفهم منها «عُد» فأتأثر، وتُزاد دلالاتٌ ذهنيةٌ وشعوريةٌ إلى «عُد». باخرةٌ أو اثنتان ستبحران صوب شواطئ أوروبا قريباً، إضافةً لحركة التهريب المستمرة للمهاجرين من المطارات، وبالشاحنات العابرة براً إلى بلغاريا واليونان ورومانيا. أك ساراي مركز الالتقاء والتخطيط والاتفاق على هذه العمليات، لذا تجد أزقتها وشوارعها عاجةً بالقادمين من أكراد سوريا وقصدهم ولوج أوروبا.
ما بين السير والجلوس إلى الطاولات التي تتوزع الأرصفة والشوارع حيث تزدهر المقاهي والمطاعم البسيطة تعجُّ أك ساراي بالوافدين. حول كل سمسار يعمل لأحد المهرِّبين -الغالب أن يكون كردياً سورياً- يتحلّقُ طلابُ الهجرة، تحلّقاً ربّما يتكرر مراراً ويتراخى حتى لا يعدو كما كان، فالمواعيد مرنة، وليس بالمستَهجن أن ينكث بها، أو النكثُ في عرف هذه المهنة وتداولها.
الحديثون من الوافدين يجتهدون ليظهروا ملمِّين بالأشياء، فطبيعةُ نزولهم بالمكان حيث المطمحُ والثروة المحمولة للمهرِّبين وقد جُنيت بقطع الصلة بما امتلكوا، وجلُّها بيوتٌ وأراضٍ وذهبُ نساء، تتيح لهم التظاهرَ بالمعرفة والحنكة.
في الأماسي يأخذهم الضجر، والذي سهواً يقرون به إلى الساحات والأزقة، يقفون أمام المستعرضين من عازفين ولاعبي خفة وفتيات ليل صغراهن قاربت سنَّ اليأس في الغالب. 
عندما أسير في وسط أك ساراي التجاري والوحشي، أو أقف في الحافلة الطويلة المزدحمة، الفقيرة بالحياة، ترتفع أحياناً من أحشائي إلى شفتيّ (كيت ما)، الجملة الأدبية الخالصة ذات الأمل المبهم.
على الساحل أو في الحافلة يخبرني صاحبٌ بأنها تعني: «لا تذهب». أي «شاهين، لا تذهب»، وعلى الرغم من ذلك فهذا نداءٌ صاحبني بدلالةٍ واسعة ذات إشراق، مذ قدمنا إستنبول.


المصدر:  نوافذ المستقبل، وجهة الشعر، 2013 

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).