رأفت السويركي

ما أجمل أن يقف الإنسان في رحاب اللوحة التشكيلية متأملاً؛ متفحصاً؛ في محاولة لتفكيك مغاليقها إذا كانت من هذه النوعية التي قدمها الفنان إبراهيم حنيطر؛ وأبرزت سمة من سمات أسلوبه الفني في العمل التشكيلي.

*****

إبراهيم حنيطر فنان كايكاتور متميز؛ عشت بدايات تجربته الفنية في عالم الكاريكاتير خلال تزاملنا ونحن طلاب في فريق تحرير " جريدة الطلاب" التي كانت تصدر عن الاتحاد العام لطلاب مصر؛ وكان له حضور فني وإنساني جميل لشباب متدفق بحرارة الوطنية المصرية؛ ثم شق طريقه الفني دارساً في هذا الحقل ليعمق حضوره على القواعد العلمية الفنية؛ قاطعاً مسافة طويلة من الطريق التعبيري وليفوز باعتراف أساتذة وعمالقة فن الكاريكاتور المصري؛ بأنه وريث العبقري صلاح جاهين بوطنيته الفذة وقدرته على تجسيد الفكرة بعمق التناول وبساطة التعبير.

وهذه المهارة الفنية التي ربيت في مدرسة الكاريكاتور المصري؛ أراها تتجلى في هذه اللوحة؛ من مقتنيات متحف الفن الحديث تحمل من الدلالات الكثير للعقل التفكيكي للعمل الفني وليس العمل النقدي؛ حيث دخلت إلى رحابها بذهن منفتح... مفتشاً عن ابراهيم حنيطر في خطوطها ومساحاتها وألوانها ومربعاتها البنائية.

إبراهيم حنيطر هنا هو نفسه بقده وقديده؛ بمهارته الكاريكاتورية اللاذعة وما تحمله من سخرية وصلت إلى درجة مخيفة من السوداوية المقصودة؛ التي حركت العديد من التساؤلات في ذهني وأنا منفرد باللوحة؛ أو واللوحة منفردة بي؛ أتجول في فضائها بحثا عن دلالة الخطوط وقصدية الإضاءة ومعاني الظلال وخطاب التعبير الحركي وعلاقة ظاهر اللوحة مع باطنها ومقدمتها مع عمقها.

*****

سخرية إبراهيم حنيطر في هذا العمل كارثية؛ كاشفة لرصد تدميري؛ إما حادث أو مقبل على الحدوث؛ أو مكنون في الانتظار؛ أو هو قفز على الواقع وصولاً إلى المتخيل الردعي بقصديته التحذيرية والتأديبية حين يرتد الفنان الكبير إلى حكائيات زمن الطفولة عبر جداتنا وأمهاتنا والتي تتحول الحيوانات والطيور خلالها إلى أيقونة الإبلاغ وتعليمنا القيم.

ولأن المعني في بطن الفنان مبدع العمل؛ أو الشاعر كما راج القول؛ فإن المعني الحقيقي لهذا العمل الفني هو في ذهن إبراهيم حنيطر؛ وهو لم يترك لنا إلا القراءة التأويلية للمرموز الفني في لوحته تلك؛ لنشاركه إنتاج اللوحة أيضاً عبر القراءة الفنية للعمل؛ بتفكيك دلالات المساحة واللون والظلال، والخطوط والتركيب الجامع بين المفردات المختلفة داخل إطار اللوحة.

والعمل التشكيلي له وجهان للقراءة، وجه للظاهر؛ ووجه للعمق؛ ونجاح القراءة يكون بقدرة المتلقي على الإمساك بالمعاني الدفينة في العمل والتي ربما حتى لا تكون حاضرة في تصور المبدع وهو يضع خطاطة عمله أو يعمل على تطوير تخطيطها الأول ليصل إلى الرسالة التي يفضل أن يرسلها إلى المتلقي؛ غير أنها حتى ولو لم يكن يقصدها الفنان المبدع؛ فهذا لا يقلل من براعة المبدع.

إن الابداع والقراءة وجهان مشتركان؛ والوصول إلى مستوى القراءة المبدعة مهم كذلك للعمل الفني؛ لأنه يكشف ثراء وزخم العمل الفني؛ وهو يعني أن العمل يستفز المتلقي ذهنياً؛ ليستدعي قدراته المعرفية في تلقي العمل؛ وقراءته القراءة الغنية المماثلة للإبداع. القراءة الفنية ينبغي أن تكون إبداعية كذلك لتناسب الاحتفاء بالعمل الفني محل القراءة التفكيكية.

*****

إن هذا العمل التشكيلي للفنان إبراهيم حنيطر؛ يستحق الاقتناء فعلاً لغناه الدلالي؛ ورسالته العميقة التي يسعي حنيطر لإيصالها؛ وهي رسالة إنسانية عميقة تتجاوز انشغالات فنان الكاريكاتور المحلي؛ بموضوعاته عن الأزمات الاجتماعية والحاجات الحياتية والاهتمامات المؤقتة.

إبراهيم حنيطر هنا في هذا العمل الفني التشكيلي يغادر الحيز المحلي المصري الكاريكاتوري إلى موضوع إنساني عميق؛ يتعلق بالإنسان في عولميته؛ ومستقبله المشؤوم المنتظر؛ وهذه هي الحمولة العميقة التي ألقاها العمل على ذهني وذائقتي؛ لا تجاوز بذلك المعنى الظاهري الذي يمكن أن يبديه العمل للقراءة السريعة؛ لذا فإن قراءتي ستتجاوز الفهم الظاهر إلى المضمون العميق؛ ومن دون ريب فإن القراءتين هما مسؤولية القارىء بالدرجة الأولى؛ حيث لم أعرف المسمى الذي أطلقه الفنان حنيطر على عمله.

** القراءة الأولى تتعامل مع العمل التشكيلي بأن رسالته تتعلق بعلاقات النوع؛ المذكر والمؤنث؛ وفيها المذكر يتعرض إلى عملية انتقامية من المؤنث؛ عبر التقاط إشارات دالة على ذلك في اللوحة؛ تتمثل في أن العنصر الأنثوي " اللبوءة" يحتل مركزية اللوحة ويمسك في يده كرباجا متعدد الفروع ويجلد الذكر الذي يتشكل في صورة مرحلة الكائن الاقرب إلى حيوان الشمبانزي.

وحسب هذه القراءة الظاهرية فإن المذكر الذي دمر الحضور الأنثوي برمز رأس التمثال المدمر في خلفية اللوحة يلقى العقاب المستحق بالجلد... هذه قراءة.

** أما القراءة الأعمق التي أميل إليها؛ وأفضلها للعمل الفني؛ فهي تتجاوز الرموز الدالة على موضوع المؤنث والمذكر والعملية الانتقامية. إنها قراءة عميقة تخرج إلى الأفق الإنساني الحضاري؛ وتحديداً الإنسان المتسبب في دمار عالمه؛ وأبناء بني جنسه بالكامل حتى لم يبق سوى شخص وحيد.

إبراهيم حنيطر وفق هذه القراءة يبرع في استخدام قدرة الكوميديا السوداء التي يقصدها بامتلاك الحس والمهارة الكاريكاتورية اللاذعة؛ ليحيلنا إلى مستقبل ينبغي أن نحذر منه؛ إذا فقدنا هاجسنا الإنساني ولم نرتدع عن الجموح البشري المنفلت الذي لا يبقي ولا يذر.

حنيطر يوجه قدرته ومهارته الكاريكاتوريه في التعبير عن قضية عولمية باندفاع الإنسان على كوكب الارض إلى تدمير كوكبه وناسه وإنجازه الحضاري لترتد الحياة إلى العالم الأول؛ الذي لم يكن تشكل فيه النوع أو تطور من السلسلة الحيوانية إلى الوصول إلى المرحلة البشرية.

في هذه المرحلة الجديدة... من بعد الحضارة البشرية سننقلب إلى مجتمع حيوانية "ما بعد ما بعد الحداثة"؛ وتعبير "ما بعد ما بعد الحداثة" مقصود للتعبير عن الزمن المستقبلي؛ المتجاوز للوجود الإنساني؛ وهذه هي السخرية أو الكوميديا السوداء؛ التي يمتلك أدواتها باقتدار الفنان التشكيلي إبراهيم حنيطر؛ ويرسل لنا تحذيراً كاريكاتورياً مما يتهدد كوكبنا وجنسنا البشري.

إن سخرية حنيطر السوداء هنا استفادت بإتقان باللونين الأسود الرصاصي والأبيض؛ وهي قصدية فنية في استخدام هذين اللونين الأساسيين؛ للتعبير عن فقر أفق المستقبل القائم على الدمار؛ وتوظيف هذين اللونين فقط يلقي باجواء الكآبة المقصودة على العمل الهادف للتحذير وإشاعة الحزن الوجودي في النفس البشرية؛ ما يعني أن الأسود الرصاصي كان استخدامه أيضاً كاريكاتورياً إمعاناً في ترسيخ السخرية السوداء.

إن تفكيك مساحة اللوحة؛ يكشف عن مربعين تعبيريين؛ وليس الاصطلاح هندسياً؛ ولكنه اصطلاح فني؛ الأول مركزي يتوسط ويتصدر المشهد دال على الهاجس المستقبلي للبشرية؛ وتتجلى فيه الروح التعبيرية الكاريكاتورية بأجلى صورها؛ وهي مركز قصدية العمل التشكيلي؛ أما المربع الخلفي في اللوحة؛ فهو معتمل بواقع الإنسان؛ حيث يمتلىء بدلالات ما أحدثه الإنسان في عالمه من تدمير مطلق؛ لم يترك على وجه الارض رمزا إلاّ قام بتدميره؛ من أبراج إسمنتية؛ وتماثيل جرانيتية؛ وحتى شواهد ورموز الحضارة التاريخية مثل برج إيفل ووجهات المعابد اليونانية والفرعونية والرومانية طالها التدمير المطلق فصارت كومة حطام حضاري... أي أن الهاجس هنا يشمل العالم كله.

وإمعانا في كشف الكارثية الحضارية وضع إبراهيم حنيطر في الخلفية ضمن مربع دلالات الدمار وجوها هامشية الحضور وغير محددة الملامح لتكون رمزا للإنسان المتلاشي وجوداً؛ فيما تنتهي اللوحة في العمق ببقعة ضوئية؛ دالة على وجود جغرافي آخر له شمسه الخاصة؛ أو تعبير عن كوكب آخر يحترق أيضاً في العمق الخفي؛ تدليلاً على عبثية الحياة.

*****

ومن المربع الخلفي إلى المربع الأول المركزي في عملية التفكيك؛ وهو الحامل للرسالة الفنية؛ وتجسد عبره القدرة الكاريكاتورية لإبراهيم حنيطر:

- ارتد بنا الفنان المبدع إلى ما يذكرنا بطفولة الحضارة الإنسانية عبر توظيف حلبات المصارعة التي اشتهر بها اليونانيون والرومان. أي أن له قصدية التذكير بداية مرحلة جديدة زمانية.

- كائنات إبراهيم حنيطر التعبيرية في اللوحة حيوانية؛ تتلبس مسوح البشر وتمارس عاداتهم في المشاهدة؛ فهناك الحمار الذي يرتدي النظارة الطبية. ويضع في رقبته الببيون؛ هل هو المعادل الموضوعي للإنسان الحمار العقلية؛ وهناك الخرتييت الذي يدخن الغليون أو البايب؛ هل هو الإنسان المعبر عن البشر الخرتيتي المسلكية والجسم والعقل؛ وهناك الحيوان الذي يلتهم الآيس كريم ويستمتع؛ هل هو المعادل الموضوعي للإنسان الذي يجري خلف إشباع متعته فقط؛ وكل الحيونات الأخرى المتفرجة تفتح فمها بالصراخ التشجيعي؛ كمعادل موضوعي لمسلكية القطيع البشري في الملاعب والذي لا يتوقف عن الصراخ؛ تعبيراً عن مشاعر حيوانية انتقامية.

- وفوق أعلى صارية الإضاءة؛ أو "عامود النور" في الحلبة يتسلق قرد طرازني السلوك؛ ممسكا بتفاحة يقضمها وهو يتفرج على المشهد؛ هل هي تفاحة آدم بدلالاتها الجنسية الأسطورية وتحريضها على ارتكاب الخطيئة التي أخرجته من جنة الخُلد؛ وقد يتفق ذلك مع القراءة الظاهرية الأولى التي تنتقم فيها الأنثى من الذكر؛ غير أنها في القراءة الأخرى تكون تفاحة نيوتن التي قادته إلى معرفة قانون الجاذبية الأرضية؛ وصارت مرموزاً لنظام كومبيوتر فائق القدرة هو كومبيوتر "أبل ماكنتوش".

- ونصل إلى قلب العمل الفني؛ حيث يشكل إبراهيم حنيطر المشهد من إنسان في شكله ينتمي إلى فصيلة القردة العليا والشمبانزي التي تطور منها إنسان الغابة الدارويني الأول؛ وهو يستلقي على بطنه فوق كرة ضخمة قد تكون الكرة الأرضية؛ وتقوم اللبوءة بجلده بسوط متشعب الأفرع إعمالا لمزيد من تحقيق الألم له؛ وسط صراخ المتحلقين حول حلقة التعذيب بالعقاب.

- لقد أبرز الفنان إبراهيم حنيطر مهارة حرفية عالية في صياغة شكل الشخصيات في لوحته؛ فقد حافظ على ملامحها الحيوانية الشكلية؛ لكنه قام بأنسنتها؛ فأخرجها عن شكلها الوظيفي الطبيعي لتمارس الحركة البشرية في المشي والجلوس؛ غير أنه حافظ على تشريحيتها الجسدية.

- فهل كان يقصد إبراهيم حنيطر باللبوءة "الرمز المؤنث" التعبير عن شراسة السلطة المجردة الحاكمة وهي لفظ مؤنث أيضاً؛ حيث ترتدي ملابس ذات طابع رسمي؛ وتتطوق بحزام عريض له دلالة ضبطية.

*****

وبعد هذه القراءة التفكيكية لعمل إبراهيم حنيطر السوريالي الهوية بكاريكاتورته التعبيرية اللامعقولة؛ يبقى المعنى الحقيقي في بطنه؛ إذا لم تكن رسالة العمل هي التحذير من جنوح الإنسان لتدمير نفسه وحضارته؛ واكتفاء السلطة بالعقاب فقط بقسوة حيوانية .

لقد كان لتوظيف اللون الرصاصي الأسود الدور الذي اعتمد عليه إبراهيم حنيطر في بناء لوحته بكل سوداويتها الكاريكاتورية؛ ليؤثر برموزها في قدرة المتلقي على التأمل واستخراج الدلالة من العمل.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).