إخلاص فرنسيس

"الإسراف في الوعي كارثة.. كلّ وعي مرض"، كلمات تشحذ انتباهي عنوة، وأنا أمارس رياضة المشي. "قمة المتعة هو إدراك قمّة اليأس" "محكومون بالقوانين الطبيعية" "ذو العقلِ يشقى في النّعيمِ بعقلِهِ" كيف تجري الأمور في ظلّ نوبة أخرى من نوبات كورونا، ينطلق بكلّ سجيته، حجّة يستغلّها الكبار، وهو الحلّ الأخلاقيّ كما يزعمون حيث إنّهم استخدموا ما تلطفت به الطبيعة بحلّ وجدوه حسب عرفهم الحلّ الأمثل. الدفن في أثناء الحياة كم كان حريًّا بي هذه الأيام أن أغرقني في الكسل والتجاهل، لا أحسن أيّ شيء سوى الجلوس والتسكّع على أرصفة الأحلام، أنثر تأفّفي كلما راق لي، وأشير بإصبع الغضب إلى كلّ من تسوّل له نفسه أن يرمقني بنظرة مريبة، أعيش أحلامي الخاصّة، وأشبع فضولي مثلاً في قطع سبيل الألوف من النمال التي تسير في انتظام مثل نهر أسود، تعترض سبيلي بجرأة وثقة. نظرت إليّ لونا وأنا أخاطب نملة باستغراب ودهشة، أطلب مقابلة قائدها، لأقف على سرّ النشاط المنظم هذا، الأرض التي كانت تعجّ بالاخضرار منذ بضعة شهور تبدو الآن بحرًا شاسعًا من اليباس، تعترضه هنا وهناك بقع من شجيرات خضراء استطاعت أن تقاوم حرّ الصيف الفظيع لهذا العام. رائحة التربة ملأت أنفي كلما قفزت لونا في محاولة يائسة كي تشدّني لنكمل المسير، وبينما انا انتظر قدوم القائد رحت أتأمل الهدوء والعمل الدؤوب، لا صراخ ولا تعديات، الكل يسير بانتظام لا حوادث سير بالرغم من عدم وجود إشارات المرور، تتبعت خط سيرهم إلى القرية وهناك كانت الحركة غير عادية، لا من يتأفف ولا من يجلس على الكراسي، ولا سلاح وموت ولا قتل، ولا فوضى، طال مكوثي لم اشم رائحة بارود، عندها أطل القائد الذي بدت عليه الجدية المالحة، وهو يمد يده الرقيقة المكسوة بالقش اليابس والعرق، معتذرا ان الوقت وقت الحصاد وعليه ان يجمع للشتاء، أجاب وكأنه رأى نظرة الاستغراب، نعم أعمل، لا كآبة ولا ملل، وسألني عما أريد، اردت القول كم أحسدكم معشر النمال، ولكن قد هزم الحجر كلّ رغبة فيّ حتى في الكلام، وكسرني الروتين الذي هو أكبر أعدائي، حيث انتزعت كورونا والظلم مني ومن كل من عرفتهم الرغبة بالإقبال على الحياة، أردت أن أتنهّد بصوت عال، أو ربما أبكي، أردت أن استفسر أين تقع سفارتهم سعياً لطلب اللجوء لديهم هرباً من الفوضى التي تجتاحني في غربتي وعزلتي، فأنا وحيدة في أرض مقفرة حتى الشمس أغمضت عينيها عنّي في الأفق البعيد، ولونها الأحمر يسيل كما قارورة نبيذ قد كسرت فوق البحر. لونا تلحّ عليّ لأكمل السير، تمسح أنفها بي طلباً للحبّ. أين الحب؟ لا شك أنّ لونا ليست الوحيدة التي تشعر بهذا العطش خلف هذه الجدران الإسمنتية حيث صمت موسيقا الحياة منذ أكثر من عشرة شهور، هناك طوق كبير للحياة، وما الحياة إلّا الحبّ. متى سيكفّ الإنسان عن اعتراض إرادة أخيه الإنسان، ويحشر نفسه في قوانين الطبيعة؟ الخريف حزين حقاً بالرغم من عشقي لأيلول حيث كنت أرى فيه فصل راحة واستعداد. بئس الضجر، ما زلت أتأمّل أسراب النمال تسير بانتظام وهدوء مميت. رحت أنصت أكثر، لأسمع ضحكات هذه الحشرات الساخرة الصغيرة التي لو أردت لسحقتها بقدمي، ولكن نظرات لونا ورقصها صفعتني بلطف وأيقظتني لأشعر بنوع من الخجل من افكاري تجاه معشر النمال المسالم وطلبت عفوها إنّ تصرّفات الإنسان رهن في إشارة من الإرادة التي يريدها. متى يدرك هذا، ويحدّد نوع القوانين التي يرغب في أن تحكمه.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).