«…كانوا ملاحقين، تم إلقاؤهم على الرصيف، يواصل المارة سيرهم دون إظهار أي سخط على هذا العدوان غير المبرر الذي أصبح شبه مألوف، قوات حفظ النظام، وكعادتهم اليومية، يجدون المتعة في الإساءة لهؤلاء المعوزين الفقراء» .بهذا المقطع السردي يفتتح العالم الأنثروبولوجي والسوسيولوجي الفرنسي ديديه فسان كتابه المعنون: «العقاب: الشغف المعاصر» الصادر عن دار النشر سوي 2017م، الذي يحاول فيه الإجابة عن التساؤلات الآتية: ما العقاب؟ ولماذا نُعاقِب؟ ومن يُعاقَب؟ وما مختلف الأضرار المادية والمعنوية التي تخلفها هذه الظاهرة؟

هي أسئلة تدعو إلى إعادة التفكير في موضوع العقاب في عالمنا المعاصر، خصوصًا بعد تنامي هذه الظاهرة، وارتفاع عدد الأحكام الصادرة في فرنسا، وتضاعف عدد السجناء ثلاث مرات خلال خمسين السنة الماضية. لقد أجرى ديديه فسان العديد من التحقيقات في المحاكم والسجون ومخافر الشرطة، واستجوب القضاة والحراس ورجال الأمن والمساعدين الاجتماعيين والسجناء، وذلك بهدف معرفة كيف أن المجتمعات الغربية تدين بشكل متزايد العقاب البدني الممارس على الأطفال من آبائهم أو مدرسيهم، في الوقت الذي تسعى فيه هذه المجتمعات إلى تطوير آليات العقاب.

ما العقاب؟ يتطرق الكاتب في الفصل الأول للبحث في ماهية العقاب. يقول: «منذ أزيد من نصف قرن، تحيل أغلب التعاريف التي حددت مصطلح (العقاب) إلى المرجع نفسه، وهو نص محوري للفيلسوف والخبير القانوني البريطاني هارت (ص 43). صاحب كتاب «العقوبة والمسؤولية: مقالات في فلسفة القانون»؛ إذ عرض لمبادئ العقاب وما يترتب عليه من معاناة. لينتقل المؤلف بعد ذلك لاستعرض آراء نيتشه في الموضوع، خصوصًا في كتابه «جينيالوجيا الأخلاق» 1887م الذي وضع فيه الإصبع على هذه الظاهرة التي شبهها بالديْن غير المسدد، وبالتالي فإن على الشخص المرتكب للفعل الإجرامي أن يسدد عن طريق العقوبة. وقد انطلق نيتشه في هذا التصور من مسألة تأثير الفكر المسيحي، ليتم بعد ذلك التخلي عن فكرة الجبر لصالح فكرة الخطأ، ووفقًا للمعتقدات المسيحية، فإن المعاناة تعوض المرء المعاقب لتخليصه من خطيئته المرتكبة. ومن المفارقة أن في أوربا المنفتحة التي كانت تعيش أبهى أيامها في عصر الأنوار، ظهر (السجن) كمؤسسة قائمة بذاتها بعد أن كان في السابق جناحًا ملحقًا بالأديرة والمعابد، لإضفاء الطابع الإنساني على العقاب.

إن تتبع المسار التاريخي للموضوع يكشف عن أن وظيفة السجن تكمن في ثلاث وظائف رئيسة: تحييد الشر، والردع وضرب المثل، وإعادة تأهيل الجناة. غير أن هناك وظيفة أخرى يُصرَّح بها وهي وظيفة الانتقام، إن العقوبة تهدف إلى إشباع متعة القسوة. لقد خُصصت في الماضي ساحات عمومية لمعاينة إعدام قاتل أو معاقبة لص. أما اليوم، فلم يختلف الأمر كليًّا وإنما اتخذ صورًا أخرى؛ إذ نشاهد مباشرة على شاشات التلفاز وبشكل شبه يومي بعض مظاهر الاعتداء والاعتقال والعقاب، وهذا الأمر يعود بنا إلى نقطة البداية.

لماذا نعاقب؟

يقول ديديه فسان: «هناك نظريتان تسودان التفكير الفلسفي والتشريعي، الأولى نفعية، تعتبر في حبس السجناء ومعاقبتهم مصلحة للمجتمع. والثانية، جزائية، تعتبر الفرد المعاقب هو وحده من يحاسب على فعله الإجرامي، وبالتالي يكون العقاب تنفيذًا للحكم، فهي بذلك تركز على أهمية تقليص نسبة الإجرام وحدتها» (ص 86).لقد تبنى الفيلسوف الإنجليزي جرمي بنتام المفهوم النفعي في عمله الموسوم (مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع) الذي شهد رواجًا خصوصًا مع تزامن انتشار الأفكار التقدمية النفعية؛ إذ سوَّغ العقاب بضرورة الحفاظ على مقترف الخطأ بعيدًا من المجتمع، وحفظ النظام العام؛ إذ يغدو العقاب نوعًا من التحييد والردع. أما المفهوم الثاني فهو ذو توجه محافظ، يرتكز على الإجبار، ويُنظر فيه لمقترفي الجرائم على أنهم يستحقون المعاناة والعقاب.

كما يستشهد ديديه فسان بعمل ميشال فوكو «المجتمع العقاب» الذي أشار إلى أن القرن 19 شهد تشييد العديد من السجون عند مشارف المدن، وعُدَّتْ قلاعًا للحجز والعزل بديلًا لطيفًا للمقصلة ووسيلة لعقاب الروح قبل الجسد. يقول المؤلف: «لقد أصبحت العقوبة شرعية كردِّ فعل على الجريمة، وهذا في حد ذاته يطرح إشكالًا»، وهذا ما أسماه بـ«اللحظة العقابية» التي يمر بها العالم لعقود عدة، فكل عام يزداد عدد السجناء، وهذه الظاهرة لا تمس الأنظمة الدكتاتورية فحسب، بل حتى الأنظمة الديمقراطية الغربية؛ ذلك أن العقوبات تعكس سلطة الدولة وهيبتها، وترسخ التسلسل الهرمي للمجتمع.

من نُعاقب؟ يحاول المؤلف في الفصل الثالث والأخير أن يبحث في النظريات القانونية والفلسفية التي تسوِّغ العقاب والتي تقدمه بشكل محايد وعادل، بيد أن نتائج البحث تكشف عن أن مسألة توزيع العقوبات، هي غير متكافئة. هذه النتائج تؤكدها أيضًا ما خلُص إليه الباحث من استنتاجاته التجريبية والميدانية. ذلك أن المؤسسات القمعية تستخدم المزيد من أدوات التجريم، على سبيل المثال: تتم التعبئة لمواجهة جرائم السرقات، واستخدام المخدرات أكثر من الجرائم الاقتصادية والمالية. ونتيجة لذلك، فإن المستهدفين من العقاب هم بالدرجة الأولى الفقراء والطبقات الاجتماعية الهشة، وبالتالي تكون هذه الفئات تحت أعين الشرطة بشكل دائم، بل واستباقي أيضًا.

أمور يجب استحضارها: تكشف الدراسات وجود فوارق صارخة في توزيع العقوبات السجنية. إضافة إلى سوء توزيع المساجين في الزنازن؛ إذ قد يجتمع في الزنزانة نفسها مروج مخدرات وطالب جامعي وسفاح. وأحيانًا أخرى يتم التمييز بين السجناء، فهناك فئة من الدرجة الأولى تتمتع بمجموعة من الامتيازات، وفئة أخرى تفتقد لكل ما هو إنساني يحفظ كرامة المعتقل. وهو بذلك يسهم في إنتاج الفوارق وتكريسها وتهديد النظام الاجتماعي.

يقول المؤلف: «إننا نحتجز المخالفين للقانون وذوي السوابق فنحولهم بذلك لمشاريع العاطلين ومدمني مخدرات. إننا نحول وجودهم إلى وجود هش، لقد أثبتت الإحصائيات أن أكثر من نصف هؤلاء يعودون إلى السجن بعد مدة وجيزة من الإفراج عنهم. إن السجن لا يردع، وكل هذا يرمي بهؤلاء إلى الدرك الأسفل في المجتمع». إن هذه الأرقام والإحصائيات المخيفة والمثيرة للقلق تدعونا باستمرار للبحث عن السبل الكفيلة للحد من تنامي ظاهرة العقاب بمختلف أنواعه وتمظهراته، والبحث عن الحلول الناجعة لتقليص الأسباب المفضية للعقاب.

كما يثير المؤلف مسألة تتعلق بسوء التوزيع غير المتكافئ للأحكام؛ إذ يقارن مثلًا، بين العقوبات الجنائية وتفاوت الأحكام بين تعاطي القنب الهندي أو ترويجه مع التهرب الضريبي، إضافة إلى التطرق لعواقب تحويل إجراءات العقاب لشركات ووكالات خاصة، التي غالبًا ما تقع بدورها في تجاوزات، من قبيل: العنف اللفظي (الإهانة والشتم) والعنف الجسدي غير المسوّغ، ففي بعض الدول نجد عدد الوفيات الناجمة عن اعتداءات الأجهزة الأمنية أكثر أربعين مرة من الوفيات الناجمة عن أحكام الإعدام. كما أن إعدام عدد من المعتقلين قد يكون في أغلب الأحيان خارج نطاق القانون، وأحيانًا أخرى بطريقة متسرعة على الرغم من عدم استيفاء الأدلة. كما يرصد الباحث أيضًا بعض ممارسات الاعتقال رهن التحقيق، وتوسيع نطاق العقابية مع أشكال جديدة وإجراءات مشددة مثل السوار الإلكتروني وغيرها من الوسائل الرقابية. يشير الكاتب كذلك إلى ظاهرة اكتظاظ السجون وهو ما يزيد ارتفاع نسبة الانحراف. وافتقار بعض السجون للحد الأدنى الذي يحفظ الكرامة الإنسانية.

يمكن عدّ هذا الكتاب دعوة لإعادة التفكير في العقوبة وإعمال الفكر النقدي للبحث في هذا الموضوع الشائك والمثير للجدل والقلق من مختلف الزوايا ومعالجة الحقائق وتمحيصها؛ إذ إن العقاب يزيد من تفاقم التوترات والتفاوتات الاجتماعية، بل إنه يعزز الجريمة في المقابل. إن إعادة النظر في هذا الموضوع يجب تكون من خلال «إخضاع قيمة قيمنا للتدقيق النقدي» على حد تعبير نيتشه. وعلى هذا الأساس سعى ديديه فسان إلى تشريح ظاهرة العقاب بحس نقدي ومن منظور متعدد الأبعاد: أنثروبولوجي وتاريخي وقانوني وسوسيولوجي. ليخلص في خاتمة الكتاب إلى ضرورة إعادة النظر في النظام القمعي، ومدى فاعلية السجن وجدواه.

(الفيصل)

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).