محمد علي علي

بين الجنّ والأنس

لم تستطع لاالمدنية ولا الحضارة ترويض أكراد روسيا، فالجبال الشاهقة والغابات الشاسعة تبقى عصية عن أي احتلال أوغزوبشري، حتى لوامتلكت أجنحة من حديد أوامتزج الهواء بدخان زفيرالمدن، فهي تتلاشى قبل أن تبلغ قمم الجبال الرواسي، وتلتهمها شهيق الغابات كي تطهّرها بأنفاس الأشجاروأطياب الحشائش والزهور.. كم نبدو أقزاما، نحن أبناء آدم وحواء، أمام جبل غاضب، إن قذفنا بحممه النارية، إن جرفنا بسيل من دموع أحزانه الملتهبة أوغمرتنا السماء بشلال من أفراحها، أو قصفتنا بزفرة رعدية عندغضبها؟!

كم نحن تائهون إن نحن سرنا يوما بين ضلوع غابة تتنفس برئة إلهية وتغيب عنها أشعة الشمس الأزلية، نحن صمّ بكم عميان، نفقد في حضرتهم وحضورهم كل الحواس ونعود أطفالا سذّجا، نبكي، نصرخ، نصيح ونستغيث طلبا للنجدة كطفل رضيع جائع يبكي ابتغاء رضعة حليب من ثدي إمه الحانية، كم نحن بلهاء، عندما نزهو بكل عنجهية وغباء بهدية وهبتنا إياها السماء، هبة إلهية وربانية في التفكروالتخيل كي ندرك كينونة الوجود، فأصبحنا لا ندرك سوانا، ولا أحد سوانا، نحن كل شيء وماتبقى فهو لاشيء!

وهكذا كان شعوري وانطباعي الأولي عندما تفرّست في وجوه هؤلاء الرجال الماثلين أمامي من بني قومي، لقد رأيت فيهم الطبيعة متجسدة في كل تراسيم وجوههم المشرئبة بتعرجات الأنهاروالسيول الجارفة، المكتنزة بخضرة الغابات الموحشة والوحشية بثمارها وآزاهيرها البرية ودروبها الضيقة التي لا تنتهي، لم أر في حياتي العفاريت والجن، لقد رأيتها فقط عندما كنت طفلا في حكايات جدتي، عندما كانت تروي لنا قصصا عن ممالك الجن بملوكها وملكاتها، عند رسمها وتصويرها لمغامراتهم بمخيلتها وتهيؤاتها الفطرية والتي كانت ترهبنا وترعبنا وتحرمنا من النوم بهدوء، ولاسيما في ليالي الشتاء الطويلة، وربما كانت السبب أننا كنا نصحو في الصباح، وقد بللنا أسرتنا بزخة مطر عابرة في ليلة عاصفة قضيناه رعبا وخوفا في مملكة الجان.. كل ما كان يكتنزه خيالي من تلك الحكايات رأيتها تتجسد أمامي في هذا اليوم، في حضرة هؤلاء الرجال.. في حضرة أبناء الجن وملكهم أبو رستم!

أمرأبو رستم الشباب بفتح قوارير "الفودكا"، عندها شعرت بأن سيخا ناريا قد بدأ يشتعل في معدتي الخاوية، وتوقدت النارأكثرعندما فتح رستم الزجاجة التي كانت منتصبة كجبل أمامي، وكأنها تدعوني لتسلقها.. لقد ملأ رستم الكأس الكبيرة إلى أصبارها، أترعها حتى رأسها بشرلابد منه، بناركاوية ستحرق كل كياني. نظرإليّ رستم مبتسما بعد أن لاحظ ارتباكي وخوفي من الاحتراق، فسألني"مابك.. هل أنت خائف ياصديقي من الفودكا!؟"، عندها أجبته بكل زهو وافتخار"أنا خائف؟! كلا.. لست بمرعوب بل أنا قد ثملت من رائحتها!" ضحك رستم عندما سمع إجابتي ثم همسّ في أذني "اسمع يا صديقي..أنا أعلم بأنك غيرمدمن، ولكن من يرفض دعوة الشراب ولاسيما "التوست" الكأس الأولى، فهذه تعتبرإهانة كبرى لصاحب الدار، لذلك أرجوك أن تشربها كلها وبجرعة واحدة و دون تردد وإلا سوف ستثورثائرة والدي عليك!".

يا إلهي.. ! كل هذه الكأس !؟ وبجرعة واحدة؟! إهانة لصاحب الدار؟! هل حقا بأن الكرد من سلالة الجن؟ّ ماهذا العرف السائد في مملكة الجان؟!

وقف أبو رستم رافعا كأسه يدعو الجميع لشربه وقال: "نرحب بكم أيها الضيوف الأعزاء، ولاسيما ضيوفنا،أخوتنا من الكرد والعرب، لنشرب هذه الكأسة نخب كردوكردستان، ومن لا يتجرعها في جرعة واحدة فهو "نازلامي"، أي ليس برجل!"

عندما نطق أبو رستم بعبارته الأخيرة"كردو كردستان ونازلامي "، أحسست بخذلان شديد وبدأصراع حاد يتّقد لهيبه في قلبي، وشعرت بأنّ الدم الذي يسري في أوردتي وشرايني ليس سوى رافد نبيذ معتق من نهري دجلة والفرات، رافد نابع من ينبوع الماضي السحيق، من بوطان وآمدي، من كرمنشاه ومهاباد، من حلبجة وراواندوز، من كوباني وسري كانيي، نهر مازال حيا يجري أبديا في عروق الأرض عبرمنحنيات ومنعطفات، تواجهه سدود أسمنتية مسلحة وحدود جغرافية مصطنعة، ورغم ذلك فهو يسيرويسيرنحو تقرير المصيرفي مصبه النهائي، فالسماء لن تخلو أبدا من غيمة واعدة بزخة مطرأو عصفة ريح، والأرض تحلم دوما باحتضان حبات المطر!

بعد معايشة هذا الصراع للحظات، شعرت بأنه لابدّ أن أصبح جنيا مثلهم، وإلا سوف ينظرون إليّ نظرة المخلوق الغريب عن مملكتهم، مخلوق غريب من الأنس دخل خلسة إلى عالم الغيب في لحظة حلم أو كابوس، وخرق قوانين مملكة الجان، وهاهو يحاكم أمام ملكهم في إصدار حكم على هويته: هل أنت إنسان من جنس الأنس أم طيف خيال جنيّ من مملكة الجان؟!

الكأس المرّ

وشربت نخب كردستان ..كم كان مترعا بالمرارة والنار الكاوية كمرارة القضية! فقد أشعلتني "الفودكا" اللعينة نارا ولهيبا، وكأنّ نيران "النوروز"قد توقّدت في جوانحي وأضلعي كاشتعال قمم جبال كردستان وسفوحها العالية بنيران الحرية في عرس "الآزادي"، تحت سماء لازوردية رحبة وفسيحة، تتراقص أطياف قوس قزح فيها شذرات فرح وغبطة تتجلى في السمو كقوس نصروإكليل غارلعرش سماوي ما بعد العاصفة، ألهمني ذلك الكأس حماسة وقوة وثورة،كنت في فوران من النيران، بركان صغير بدأت نيرانه تتأجج في أعماقي المضطربة بالحمم واللهيب، وبدأت أتساءل في نفسي"هل أصبحت مطرقة أسطورية في يد "كاوا" الحداد؟!


ماقبل الكأس، كنا جالسين بخجل شديد، كعادة الضيوف عند زيارتهم الأولى لبيت غريب، نسترق النظرات خلسة من الحاضرين، نصغي لأحاديث الكبار مثل الأطفال، ولكن هذا الوجوم لم يدم لفترة طويلة،ولاسيما بعيد تجرّع الكأس الأولى، عندما سرت خدرة الكحول الباردة في الأوردة والشرايين وامتزجت بالدم الحارعلى باب الفؤاد، هذا التلاقي مابين البارد والحار ولّدت عند اصطدامها ببعضها البعض انفجارا وقشعريرة مفاجئة أيقظت كل التفاصيل المكبوتة والكامنة في أعماق الروح والفكر..عندها بدأ القلب يخفق دون استحياء، وبدأ اللسان والذاكرة بالجموح في إطلاق صهيل أصيل من الكلمات والعبارات والنكات..لقد بددت السّكرة جماد الموت، فولدت انبعاث حياة متجددة في لحظات صاخبة بالحركة، بالنشاط والحيوية والبهجة، بدت الوجوه مألوفة، فقد رأيت فيهم أشخاصا أعرفهم، صادفتهم في أمكنة وأزمنة أخرى، أو قرأت عنهم في حكايات و روايات وأساطيرغرائبية، وكانت بعض الأسنان الذهبية التي رأيتها تتألق عبر ابتساماتهم المشرقة تذكرني بوجوه الكرديات الحسان وهنّ يرتدين الحلي من أساوروأقراط وقلائد مذهّبة في المناسبات السعيدة والأفراح الملاح ،كجمال "زين"، الجوهرة البرية الطبيعية النقية التي تضفي الحليّ على جيدها ألقا و بريقا يزيدها فتنة وبهاء، جمال أخاذ يستلب لبّ وشغاف قلب "ممو" في لحظة انبهارمابين الغيب والوجود، شعورمنتش بلذة حسّية بالجمال ومتعة روحانية في ناظري متّيم صوفي في ملحمة عشق عذرية أبدية في روح سرمدية.


بعد زوال حاجز الرهبة والخجل تحت تأثيرالكحول الممسوسة بسحر الجنّ ولعنة العفاريت، أخذنا نتقارب أكثر فأكثر، وصار كل واحد منا يتعرف على الآخر، بالجلوس معهم، حيث تعرّفنا على بعض الأسماء الأخرى من الحاضرين في الجلسة الودية: "فخرو"،" جملو"، "كرمو" و"شاليكو"، أسماء تبدو غريبة بعض الشيء عن حسن وحسين، أو فرهاد وسيامند، ولكنها بدت طبيعية وعتيقة تفوح منها عتق الجلاميد وصلابة الصخور وطراوة الكهوف والمغاور، ألقاب جبلية الطابع، ومن يسكن الجبل لابد أن يتصف بصفاته من عناد وقوة وزهو وافتخار، فالوديان والسهول بسيطة ومبسّطة، يسهل للزمن النيل منها بالسيرفي أهوارها وتغييرنهودها في سويعات وفي أيام معدودات..أما الجبال، حضن السماء ومهدالسحاب، فليس من اليسر على الزمن من تسلق قممها الشامخة إلا إذا امتطى صهوة حصان "بيغاسوس" الإسطوري المجنح، أو طار محلقا بجناحي طائر الفينيق من تحت رماد وركام عواصم المدنية المحترقة بنيران الحروب والقذائف!


بعد جلوسي مع العم أبو رستم، ضمني إلى صدره في لحظة عناق أبوي، ثم طلب مني أن أشرب معه كأسا خاصا على شرفه، ياإلهي..وهل بوسعي أن أرفض دعوته بالقول له لا!؟، ربما ..ربما يصفعني صفعة تجعلني أعود إلى رشدي أو إلى طفل باك في المهد، فمازلت أتذكر كفيه وقبضته الفولاذية كالمطرقة، تتأتأت وتلعثمت رهبة وقلت له مطأطأ الرأس، ملتوي العنق وبلسان جاف: "اعذرني ياعمي..أنا لست بمدمن"، عندها شدني بيديه وصرخ بوجه مكفهرّمحمرّكجذوة الجمروصاح متجهّما: "البشمركة لايهابه الموت وأنت يرهبك كأس من الماء الزلال؟ّ".

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).