هوشنك أوسي كردي سوري يعيش في بلجيكا.. شاعر وصحفي وروائي.. يكتب بالعربية والكردية.. خاض تجربة حياتية تستحق أن تروى، نرى ظلالها في كتاباته.. وتعد روايته "الأفغاني:سماوات قلقة" الصادرة عام 2021 عن دار خطوط وظلال الأردنية؛ مغامرة روائية تستحق القراءة على مستوى الموضوع والتقنية، من الطبيعي أن تتفق معه في أشياء وتختلف كثيرًا أو قليلًا في أخرى، لكنك سترغب في قراءة هذا العمل، والتفتيش عما وراءه، وهو ما فعلته بحوار طويل للغاية مع الكاتب اقتطع بعضه هنا؛ وكل ما فيه مهم ومثير للتساؤل، ولكن ستضيق عنه مساحة النشر.


- كيف أتت فكرة كتابة هذه الرواية؟
حكاية كتابة هذه الرواية، تصلحُ لأن تكون رواية بحدّ ذاتها. سنة 2005، أثناء تواجدي في دمشق، وبعد مضي خمس سنوات في حقل الكتابة الأدبيّة والسياسيّة والشعر والعمل الصحافي، باغتني هاجس كتابة عمل روائي، يكون مزيجاً من الماضي والحاضر. لا شكّ أنها فكرة مطروقة، تناولها وعالجها روائيون كُثر. لكن شهوة التجريب وقلقه دفعاني نحو المحاولة. بدأت بكتابة نصّ، لم أكمله. نهاية 2008، المخابرات الجويّة السوريّة داهمت منزلي، بهدف اعتقالي، على خلفيّة مقالاتي الناقدة للنظام السوري في الصحافتين العربيّة والكرديّة. بمحض الصدفة، لم أكن متواجداً في المنزل، ونجوت من الاعتقال. هربت إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، على متن قوارب الموت المطاطيّة. بقيت في سجن جزيرة "خيوس" اليونانيّة، 45 يوماً. أُعيدَ ترحيلنا إلى تركيا. بقيت فيها قُرابة عام ونصف. أثناء ذلك، كتبت رواية بعنوان "الأفغاني". حدثت معي مشاكل مع السلطات التركيّة أيضاً. وقتذاك، صيف 2009، كانت العلاقة بين نظامي الأسد الابن، وأردوغان، جد وطيدة وحميمة. مفوضيّة اللاجئين اعترفت بي كلاجئ سياسي محمي. لكن السلطات التركيّة رفضت وجودي على أراضيها. اضطررت للهرب مرّة أخرى باتجاه اليونان، أيضاً عبر البحر. ما أن وطأت قدماي أرض أثينا، تعرّضت للاختطاف. جرت معي أحداث تشبه أفلام الأكشن. بقيت في أثينا قرابة 4 أشهر، بحوزتي أرشيف كتاباتي في سوريا وتركيا، ومن ضمنها مخطوط رواية "الأفغاني" التي أنجزتها. حاولت السفر إلى بلد أوروبي آخر، على متن شاحنة، داخل مرآب باخرة ضخمة متّجهة إلى إيطاليا. انكشفنا واعتُقلنا. صودرت كل متعلّقاتنا الالكترونيّة. في تلك الحادثة، فقدت "لابتوب" خاصّتي، و"هارد ديسك"، وضاع الأرشيف كله، ومن ضمنه مخطوط الرواية، ومخطوطات دواوين شعر، باللغتين العربيّة والكرديّة. بعد مضي ما يزيد عن تسعة أعوام على فقدانها، وتحديداً في نهاية شهر مايو 2019، بدأت بكتابة الرواية من جديد، وأضفت إليها الكثير. أضفت عنواناً فرعيّاً؛ "سماوات قلقة" إلى العنوان الرئيس "الأفغاني"، وأهديت الرواية لأخي الذي كان يصارع الموت وقتذاك، مصاباً بالسرطان. توفّي بعد انتهائي من العمل بعشرة أيّام في 18 أغسطس 2019. 


- كيف قمت بالتحضير للعمل قبل بالبدء بكتابته؟
الجزء الأوّل من الرواية (المفقودة سنة 2010)، أكاد أقول: كان محفوراً في ذهني، كتابته كانت بمثابة تفريغ شريط تسجيل، وإعادة صياغة وتحرير. الجزء الثاني من الرواية، أخذ مجهوداً أكبر، كوني عدتُ إلى العديد من المصادر، كتب، أفلام وثائقيّة، ومواد فيلميّة على شكل محاضرات مصوّرة.

- لماذا تم اختيار عام 2009م ليكون زمن بداية أحداث الرواية في جزيرة خيوس اليونانية؟
في العام نفسه، كنتُ في ذلك السجن المخصص للمهاجرين غير الشرعيين على الجزيرة ذاتها. ولأن زمن الكتابة (2019) يفصله عقد تقريباً عن زمن الرواية (2009). وهذا زمن كافٍ لنسيان قضيّة مقتل الشخصيّة، التي قيّدت ضد مجهول، لكنني لم أنسَ أنني في مخطوط روايتي الضائعة، تركتُ جريمة قتيل غامضة، يجب العودة إليها. هذه الأسباب مجتمعة؛ أعتقد أنها كافية لجعل منطلق الرواية جزيرة خيوس اليونانيّة. مقصدي، حاولت استرداد تلك الرواية الضائعة التي جرت أحداثها سنة 2009، في تلك الجزيرة اليونانيّة. 
- قدّمت الرواية بضمير المتكلم في قالب سيري في إطارها العام حيث الراوي المتكلم هو الصحفي والأديب، وفي الرواية داخل الرواية حيث الراوي المتكلم هو الشخصية الأسطورية؛ ابن أخت أسماء بنت عميس؟ فلماذا اخترت القالب السيري؟ ومدى تماسه مع سيرتك الخاصة؟
في كتاباتي الروائيّة الأخرى أيضاً، أميل أكثر إلى القالب السيري، الذي يتعدد فيه الرواة، ضمن الجسد الروائي الواحد. أمّا بخصوص التقاطع مع السيرة الشخصيّة، فهذا وارد. ذلك أنني رأيت المكان، رؤية العين. وتواصلت مع الأشخاص الموجودين هناك؛ المصري، الجزائري، التونسي، العراقي، الكردي، الفلسطيني...، والأفغاني، بشكل مباشر هناك.
في النتيجة؛ الرواية، أيّة رواية؛ هي سيرة، براوٍ واحد، أو عدّة رواة، سيرة حقيقيّة، أو متخيّلة، أو مزيج من هذا وذاك. وأنتَ؛ منير عتيبة؛ ككينونة ثقافيّة ونقديّة، وكـ"سيرة ذاتيّة"، المعلن منها والمخفي، الناس لا تراك بنفس العين، ومن نفس الزاوية، وبنفس المستوى. دائماً هناك اختلاف. 

- الراويان في روايتك هما راويان مشاركان، فماذا قصدت من استخدام ذلك الضمير في الحكي؟ وهل فكرت في استخدام تقنية أخرى كالراوي العليم مثلًا، ثم عدلت عنها؟
في الرواية، أكثر من روايتين. الجزء الأوّل منها، كلُّ شخصٍ خضعَ للتحقيق، هو راوٍ مستقلّ، يروي سيرة مختلفة لشخصيّة القتيل. وربّما يروون ذواتهم، أثناء روايتهم حياة – حيوات الشخصيّة المفقودة. تعدد القصص؛ بمثابة تعدد الرؤية لشخص واحد، لحدث واحد، من زوايا مختلفة. التاريخ يعطينا أمثلة عدّة عن سيَرٍ مختلفة، وأحياناً متضاربة، حيال شخصيّة واحدة أو حدث تاريخي واحد. التاريخ، إن لم يكن في كلّهِ، ففي جلّه، مختلف عليه، ما يتيح للروائي الاشتغال في مساحة الاستثناء والبحث عن الهوامش، بهدف إعادة النظر في المتون التاريخيّة المكرّسة على أنها حقائق دامغة وقطعيّة الحدوث والثبوت، وربّما مقدّسة، والسعي نحو غرسها بعلامات الاستفهام أدبيّاً.
أسمح لي بأن أعطف على ما سلف، بأن أسئلتك هذه، والناجمة عن قراءة فاحصة وممحّصة للنصّ، بهدف استشراف ما خلف السطور وما بينها، وما ورائيّات الكتابة، والخوض في الغايات والدلالات، عبر الارتكاز إلى البُنى والسرود والتقنيّات كأدوات، هذا بحدّ ذاته، ضلوع وشراكة في إعادة إنتاج الرواية وتصديرها، في قالب وتصوّر نقدي، ربّما يختلف عن تصوّر كاتبها نفسه.
لأكن صريحاً معك أكثر؛ أسئلتك هذه، دفعتني للتورّط في النقد، ولست بناقد. جعلتني أعيد النظر في روايتي بعين القارئ – الناقد. أخذتني من مقام الكاتب إلى مقام القارئ اللئيم. وهذا مقام صعب، افتخر به، وشرفٌ لا أدّعيه. 


- استخدمت تقنية الرسائل بالرواية، فما الهدف الفني منها؟
استخدمتها على نطاق ضيّق. وهي رسالة واحدة فقط، مستقلّة، داخل السرديّة المصريّة؛ أو حكاية الشاب المصري. بالإضافة إلى بعض المراسلات التي أدغمتها في السرد. كالتراسل بين الراوي الأول (الصحافي) والمترجم اليوناني إلخ. توظيف فنّ الرسالة ضمن العمل الروائي، أتى في سياق تطعيم السرد بتقنيات متنوّعة. لأن فنّ الرسالة يتيح المجال أكثر للبوح والتداعي والإفصاح والتخاطب المباشر، أو ما يشبه المونولوج الداخلي أيضاً، في معزل عن لغة الراوي، وإدارته سياقات السرد.

- لماذا استخدمت تقنية التحقيق القانوني مع شهود في قضية في الجزء الأول من الرواية مما جعل اللغة مباشرة وجافة واعترافية في معظم الأحيان؟ كما بدا الجزء الأول من هذه الرواية وكأنه تجميع لقصص قصيرة متجاورة لصنع بناء روائي من تجاورها بوضعها في إطار عام هو تحقيقات الجهات الرسمية، فما دلالة هذا الشكل في توصيل المعنى العام للعمل؟
ولماذا لا أستخدمها؟ من طبائع الأمور، أثناء حدوث جريمة، وجود تحقيق جنائي. وإذا كانت لغة التحقيق الجنائي في الرواية "مباشرة وجافة واعترافية في معظم الأحيان"، كما ترى وتقول، فهذا الحكم ينسحب على الرواية البوليسيّة أيضاً. واسمح لي ألاّ اتفق معك على ذلك. زد على الأمر، دور المحقق في القسم الأوّل في روايتي، يكاد ينحصر في طرح بعض الأسئلة الطفيفة، أسئلة مفتاحية لسرد حكاية جديدة عن القتيل. بمعنى، الراوي الداخلي أو الفرعي الذي يروي ما يعرفه عن الشخص المقتول، سرعان ما يأخذ دفّة الحكاية من المحقق، وينسى القارئ أن هذه الحكاية أو تلك عن الشخص المقتول هي في إطار التحقيق في جريمة القتل، بل قصص مستقّلة بعضها عن بعض، وتقدّم رؤى مختلفة عن شخص واحد. التحقيق هنا، أشبه بإطار اللوحة، وليس اللوحة ذاتها. حدث الاختفاء، ثم العثور على جثّة المختفي، أملى وجود تحقيق، كحامل للحكايات والسرديات السبع.
 نعم، نحن في القسم الأوّل؛ إزاء سبع سرديّات وقصص؛ مصري، فلسطيني، الأفغاني، جزائري، تونسي، الإيراني، الكوردي. تعمّدت أن تكون الهويّات سبع، في تلميح إلى سبعة أرواح، أو الروح الواحدة التي يمكنها أن تدخُل سبعة هيئات أو أجساد. 
في القسم الثاني أيضاً، هناك قصص، مع حضور قصص النساء بشكل لافت. بالنتيجة، أيّة رواية، بصرف النظر عن حجمها، وتماسك وتواشج وتعاضد بنيانها، هي حاصل مجموعة قصص. قصص متناسلة، متداخلة. وكذا حال الحياة. والرواية، انعكاس لذلك. فما وجه الغرابة في أن تكون "الأفغاني: سماوات قلقة" على ذلك النحو؟!
القصص السبع في الجزء الأوّل من الرواية، كلّ حكاية منها، تصلح للاشتغال عليها، لتكون رواية مستقلّة. ربّما يكون هذا صحيحاً. لكن الصحيح أيضاً، أنه يمكن جمع هذه الحيوات السبع، في إطار وسياق حياة شخص واحد، اختفى، وغادر الحياة، لتظهر حيواته الخفيّة أو السريّة للعلن. أوليس لكل واحد منّا حياته العلنيّة، وحياته الخاصّة، أو السريّة غير المعلن عنها؟!


- لماذا تم اختيار الجنسية الأفغانية للراوي لتكون عنوانًا للرواية رغم أن البطل تمت نسبته إلى بلاد كثيرة، ورغم أننا عرفنا بعد ذلك أنه عربي الأصل؟
فعلتُ ذلك، كي يخلق الاختلاف بين العنوان والمتن، هذا التساؤل لديك. شخصيّاً، لا أميل إلى العناوين التي تفصح أو تفضح متونها الروائيّة، بل أجدني أكثر ميلاً إلى العناوين التي توحي، ولا تخبر، وإلى العناوين التي تبدو في ظاهرها؛ في واد، ومتنها في واد آخر، بينما هناك قناة سريّة تربط بين العنوان والمتن، على القارئ أو الناقد أن يجتهد قليلاً كي يكتشف تلك القناة. هذا أولاً. 
ثانياً؛ هناك جملة من الاعتبارات الأخرى تضافرت لتشكيل استراتيجيّة هذا الخيار. لعل أبرزها:
- التشكيك في المفهوم التقليدي للهويّة، وأن ركيزتها وركن الأساس، ليس انتماء الدم أو الجغرافيا، بل اللغة والثقافة والوعي والذاكرة. وعي مكان لم تولد فيه، ولست منه، ولكن يمكنك الكتابة عنه وكأنّك ابن إلى ذلك المكان.
- في الرواية هناك شخصيّة أفغانيّة كإحدى طبقات هوية الشخصيّة الرئيسة؛ العابرة للأمكنة والأزمنة. زد على ذلك، تحضر في الرواية حكاية الأفغان العرب، وجانب من خلافات الجماعات الجهادية العربيّة هناك.
- مخطوط الرواية الذي ضاع منّي في اليونان، كان بعنوان "الأفغاني". في النسخة الجديدة، أضفت عنواناً فرعيّاً، ليصبح "الأفغاني: سماوات قلقة".
- أفغانستان التي كانت بؤرة جذب واستقطاب واستيراد الجهاديين والتكفيريين من أنحاء العالم في منتصف السبعينات حتى نهاية التسعينات، عقب أحداث 11 أيلول 2001، أصبحت منصّة تصدير للإرهاب والجماعات التكفيريّة الجهاديّة إلى أنحاء العالم. وطفت صورة نمطية للإنسان الأفغاني على أنه إمّا جهادي تكفيري وإرهابي، أو مشروع إرهابي. في هذه الرواية، حاولت تقديم صورة مغايرة للفهم النمطي التقليدي المتداول لشخصيّة الأفغاني.
- وفق تقديري أنه لو كان عنوان الرواية "العربي: سماوات قلقة" أو "المصري: سماوات قلقة" أو "الكردي" لما كان عنواناً جاذباً، محفّزاً للتساؤل، قبل وبعد قراءة الرواية. 


"ما وراء السرد" أو ما يطلق عليه "ميتاسرد" وأنا أفضل الصياغة الأولى، واضح جدًا في عملك الروائي، فكل من الراويين يعي بأنه يكتب عملاً سيريًا روائيًا، ويطلعنا على تفكيره في العمل كلغة وبنية وليس كأفكار وأحداث فقط، بل ويتحدث عن المشكلات التي تواجهه في جمع المعلومات أو في الصياغة إلخ، فماذا كانت غايتك من جعل القارئ يتابع العمل أثناء إنتاجه وليس بعد اكتماله؟
أولاً: صدور الرواية في كتاب، ليس النقطة في آخر سطر اكتمال الرواية. بصدورها، تبقى الرواية غير مكتملة. الذي يكملها هو القارئ والناقد الذي يضيف إليها، طبقاً لمستويات قراءته، من التأويلات والدلالات، ما كان في الحسبان، وما لم يكن.
ثانياً: شخصيّاً، أنا مع توريط القارئ في صناعة الرواية. لكن ليس بتلك الطريقة التقليديّة المباشرة، المنطوية على التصنّع وافتعال الانفصال عن النصّ والاندغام فيه، التي لا أميل إليها أبداً، ويحبّذها بعض عتاة الرواية، بأن أخاطب القارئ في الرواية، على لسان الراوي – الكاتب: أيّها القارئ العزيز، أو القارئ العزيز، أو صديقي القارئ...! أكتبُ للقارئ، وهو ضالتي ومبتغاي. لو أنني أكتب لنفسي، فلماذا أرسل نصوصي للنشر؟! القارئ صديقي، والسماح له بمتابعة ولادة العمل، هو نوع من إشراكه في صناعته، قبل صدوره في كتاب، وبعده.


المصدر:   صحيفة القاهرة  


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).