بين مغامرةِ الكتابةِ وكتابةِ المغامرةِ ينبجسُ «النَّصُّ» أو«الحدثُ» أو«الفعلُ»؛ ليكون الدَّليلَ إلى استكشاف الانعطاف من عتبةِ البياضِ إلى عتبةِ الكينونة، دليلاً على هذا الانزلاق من عتبةِ الهلع إلى جغرافية الرُّعْبِ؛ ولهذا يَستدعي السّياقُ مضاعفةً في العنوانِ بترجمةِ علاماتِهِ تأويلاً بـ«مغامرة الرُّعب ورعبُ المغامرة»، هكذا يتناوب كائنا: الكتابةِ والرُّعبِ مراتبهما في منطق التأويل؛ لتغدو الكتابة رعباً والرُّعب كتابةً، كأنَّ قرابةً أُنطولوجية تجمعهما دلالةً ومعنًى. بيد أنَّ «الكتابةَ» لاتكفُّ عن الإيحاء والتواصل في مدارج اللغة، من حيث إنَّ الكتابةَ تستدعي «اللذّة» دالاً، ليتسعَ حقلُ الترادفِ دلالةً بين كائنات الكتابة والرُّعْب واللذّة، لكن ما شأن «المغامرة» بها (بهذه الكائنات)؟ أو ماشأنها بـ«المغامرة» في تساؤل معكوس؟

لنلج بابَ المتاهةِ؛ لأنَّ الكتابةَ تبدأُ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ، أنَّها الحَدُّ الذي ينفتحُ على بدايةٍ لا حَدَّ لها، تضاريس تفيضُ على تخومِها، خطوط تمضي دوائر؛ لتشكِّلَ جنونَ المتاهة ــ الكتابة، أو جنون اللامتناهي، الكتابة حدٌّ لامتناهٍ: «ما من أحد يستطيع أن يقرأ ألف ليلة وليلة حتى النهاية. ليس بسبب شعور بالملل بل لإن المرء يشعر أنه كتابٌ لامتناه»، فإنْ تكُ الكتابةُ متاهةً، فهذا يعنى حضورَ «المغامرة»، فالمتاهة، استكشافاً، رهينةٌ بشبق المغامرة وشغفِها، بل إنَّ «المغامرة» لاتكون كذلك إلا حين تتّخذ من الغُفْل، أي من المجهول، ومن ثمَّ الرُّعب، جهةً لها وإلا لن تكون مغامرةً، ذلك أنَّ المغامرة تعني أن يندفعَ الكائنُ ممطراً بالرَّغبة، محروساً بالإرادة، مستلذاً بالعزلة نحو عتمة المجهول، من حيث إنَّ المجهولَ قرينُ الفَزَعِ والخوف، ليسمِّي العدم، فتسميةُ العدمِ رهنٌ بأنسنة الرُّعب ولذّة المغامرة، فالمغامرةُ لذّةٌ في أصلِها وفصلِها. هكذا تتضافر كائنات الكتابة والرُّعب واللذّة متصارعةً على الموقع الوظيفي خلف الـ«مغامرة» من خلال سيّالة دلالية تفترعها: مغامرة: الكتابة/ الرُّعب/ اللذة، كما لو أنَّ الأمر يتعلق بترادفٍ لغويٍّ بين هذه الكائنات، لنتمعَّن في الأمر خطوةً أخرى:

حين تَسْكُنُ «الكتابة» إلى جوار الـ«مغامرة»؛ فإنَّ كينونةً قوامُهَا الأُلفة تركيباً ودلالةً تكون برسم الولادة: مغامرة الكتابة، في هذه الكينونة تنفتحُ «الكتابةُ» على حقلٍ دلاليٍّ متفجِّر بالدَّلالات التي يقودُهَا كائنُ «المغامرة» في حقل اللغة، فتكتسبُ «الكتابةُ» بحكم التَّبادل على صعيد المعنى: دلالات الشدّة والهَمِّ والكثافة والهلاك والموت، فمثلما أنَّ «المُغَامِرَ» هو من يرمي بنفسه في الأمور المهلكة؛ كذلك الكاتبُ يواجه «فراغَ البياض» بكثير من الفزع والخوف والَهمِّ، فهو إزاء غَمْرٍ يبثُّ الصمت/الحيرة، لكنه لابدَّ أن يغامر؛ ليكون مغامراً؛ فالكتابة لاتعترف إلا بمن يشقَّ الغمر/ البياض ويفترع الهلاك ويفضُّ المجهول، وهذا ما يقود إلى القول إن مغامرة الكتابة ليست إلا مجازاً بالكناية أو التجاور أو الترادف عن «مغامرة الرُّعب» ذاتها، فأصلُ الكتابةِ ماثلٌ في الرُّعب؛ فكيف تكون الكتابةُ رعباً والرُّعب كتابةً في مغامرة الفراغ؟

يتأتَّى رعبُ الكتابةِ من هذه المواجهة بين الكاتبِ والفراغِ، بين المغامرة وفضاء لايُتقن سوى الصَّمت، لكن سرعان مايتضاعف هذا «الصمت» عتمةً تحدقُ به؛ فتغدو مغامرتُهُ أشبه بـ«قفزة في الظلام»، ضياعٍ في صحراء الفراغ، تيهٍ، هكذا ينهضُ الرُّعْبُ في الفراغ كتابةً تحت مسمَّى «النَّصِّ»، فالصفحة البيضاء لاتضخ غير الرُّعب في أوصال الكاتب وهو على مدخل المتاهة، كما لو أنَّ فراغَ البياضِ مغارة مليئة بالموتى، انبعثوا فجاءةً في غفلةٍ من عزلة الكاتب، ليبتلع الهلع صرخته.

تكون الكتابة رعباً حينما يحاول الكاتب اصطياد البياض سواداً، فيسقط في مصيدة الحيرة/ المجهول؛ فهو يجد ذاتَهُ وقد أشرفَ على هاويةٍ لاقرارَ لها، الصفحة البيضاء تتقمَّص صحراء ثلجية، قَفْرة، مَفَازة، هاوية، تعْشقُ اللامتناه، وتشوِّش بوصلةَ «المغامرـ الكاتب» في إعادة الجهات إلى مواقعها؛ لهذا لاعملَ لفضاءِ البياضِ سوى مراكمة التضاريس الوعرة، المرئية واللامرئية وتفخيخها بالفزع والخوف، هكذا تتوَاجَه المغامرةُ ومتاهةُ البياضِ، الأولى مندفعةً بغريزة الكشف والثانية بقوة السِّرِّ الذي يسكنها، والسِّرُّ خصيصةُ «الرُّعب ـ الكتابة»، والرُّعب رعبٌ؛ لكونه يحتفظ بسرِّهِ، وعدم معرفتنا له، فرعبُ البَياضِ يكمن في لذة الاحتفاظ بسرِّه المجهول الذي يكتنف الصفحة البيضاء، وسرُّ البياض هو هذه المفازة، التي تنقل أسرارَهَا إلى اللغة ذاتِها، بعد أن يختطفَهَا السَّوادُ ـ سواد الحبر. بيد إنَّ رعبَ البَيَاضِ بعد أن يتقمَّص اللغةَ مأوًى لايكشف سرَّهُ بقدر ما يتضاعفُ، ويتضاعفُ بتحويل الصمت إلى كلامٍ، إلى بلبلةٍ، إلى بابل، إلى اختلافٍ، إلى صراع، فالكتابةُ لاتطيق فراق الرُّعب؛ لأنَّ الرُّعبَ أصلٌ فيها، يفترش متاهة البياض متوّعداً الكاتبَ، ومرهباً القارىء حين يهمُّ بالدخول في دهاليزها وفجواتها.

لنتمعَّن في المسألة أكثر: كيف تكون الكتابةُ لذّةً؟ كيما نصلَ الطرفَ الآخر للمسألة وندرك، من ثمَّ، اللذّةَ رعباً! الكتابةُ لذةٌ؛ لأنَّ إنجاز الكتابة مرهون بالمغامرة في جغرافية البياض، فإنْ لم تنتهِ المغامرة بـ«لذّةٍ» تُشْعِلُ جسدَ المغامر؛ فلن تكون ثمَّة مغامرة في الأساس. لكن علينا تثبيت فارقٍ بين الكتابة بوصفها متعةً وبين الكتابة لذة. عن ارتباط المتعة بالكلمات يحدثنا الشاعر الصيني لو ـ جي:« الكتابة متعة/ لذلك يمتهنها القديسون والمفكرون/ الكاتب يبتكر حياةً جديدةً في الفراغ/ ينقر على الصَّمْتِ لكي يصنعَ صوتاً/ يثبّت المكان والزمان على صفحةٍ من حرير/ ويسكب نهراً من قلبٍ صغير الحجم/ فنُّ الكتابة»، بيد أن الأمر، بالنسبة لمُِهَرْطِق الكتابة، يتجاوز المتعة إلى اللذة ذاتها، ذات الأصل الحسي، فالكتابة تَهَبَ مُهَرْطِقَهَا لذة الوصال، وهذه لاتنتاب إلا المهرطق الذي يواجه رعب الكتابة ومكائدها بأيِّ ثمن، لتقود مبدعاً مثل أبي تمام إلى اختراق المؤسسة الأخلاقية بتصريح حسيٍّ:«والشِّعْرُ فرجٌ ليستْ خصيصتُهُ/ طولَ الليالي إلا لمُفْتَرِعهْ»، وكأن رولان بارت حوَّل التشبيه البليغ «الشعر فرج» بحركة مزدوجة إلى «الكتابة لذة» ثُمَّ «لذة الكتابة» أو «لذة النَّصِّ the pleasure of the text»، حيث يتّخذُ التشبيه موقع «الفراغ ـ البياض» في حين يستبدُّ الافتراعُ بموقع «فعل الكتابة/ المغامرة»، و«طول الليالي» ليس سوى زمن المغامرة. لاشكَّ أنَّ البيت الشعري يعكس راهنية الكتابةِ واشتراطاتها بفعلي الرُّعب واللّذّة، فالشعر ـ الكتابة لايتحقّق /لاتتحقّق نصاً إلا بمنازلة الرُّعب ـ قرين الليالي، وعشيق العتمة، والهدف دوماً هو بلوغ التضاريس المستعصية/ الوعرة: الفرج ــ البياض للفوز بالكتابة ــ اللذة.

وأيضاً: الكتابةُ لذّةٌ، مخاطرةٌ من أجل المتعة؛ ذلك أنَّ الكاتب/النَّاصَّ يستلذُّ بصمت البياض، يدفعُ به أن يكونَ «آخر ـ أنثى»؛ ليكون فعل الانكتاب هسيسَ الجسد للجسد، حفيفَ الروح للروح. في هذه الحال يتمُّ تجاوز حال الحوار والكلام إلى فعل التَّشهي، اشتهاء الفراغ ليمتلىء، فراغ يتشهّى، يشتهي أن ينكتبَ بضراوة الخيال وعنف الجسد، تتحرَّر بهما اللغةُ ـ الدَّالُ من سطوة العادة والعرف؛ لتتمكن من إغواء القارىء كما يمضي بارت Barthes في تأسيسه لعلم لذة الكتابة: «على النص الذي تكتبه أن يقدِّمَ لي الدليل بكونه يتشهاني، وهذا الدليلُ موجودٌ: إنه الكتابة، والكتابة هي: علم متع الكلام و«كاماسوترا( أي الرغبة)» لهذا الكلام». في هذه الكتابة المجبولة بصرخة اللذة تستيقظُ اللغةُ من الموتِ وتستعيدُ طفولَتَها، ثغثغتَهَا، لوعَتَهَا، ولمعانَهَا، وسخريتَهَا، وطاقَتَهَا على لعبةِ الاختلافِ والإرجاءِ، ونكثهَا للمعنى في محاولته الفاشلة لاستكمالِ هويتهِ وثباتهِ. إنها تتحرك بإرادة التفكيك وشهوتِهِ في ترقيص العلامة اللغويّة على جثّة المعنى، لذلك لاتستقرُّ على حالٍ.

تغدو الكتابةُ مغامرة بحثٍ عن اللذَّة؛ لأنَّ البياضَ يستجمعُ إرادتَهُ لإثارة اللذّةِ لدى الكاتب، فالبياضُ غوايةُ أَسْرٍ تنشر دَبَقَ الأنوثةِ، لتقود الناصَّ إلى جحيم الكتابة، والانخراط في التلذُّذِ، فـ«الكتابة ممارسة شهوانية بشكل جدّ عميق» ذلك أن مخاطرةَ الكتابةِ هي كتابةُ اللّذّةِ ذاتِها، ومن هنا لافرق بين «الكتابة ـ لذّة» و«اللذّة ـ كتابة» باستثمارِ علمِ لذةِ النَّصِّ لدى بارت.

في انعطافةٍ أخرى علينا أن نتوقّفَ عند الكتابةِ ذاتها، مغامرة الكتابة وكتابة المغامرة، الكتابة المرهونة بالرعب واللذة والفزع، نتقرَّى شؤونها، نتقصَّى الكتابةَ عَيْنَهَا كآخر، هويتَهَا الغيرية، الكتابةَ بمنأى عن الأجناس/ الأنواع، الكتابةَ حين تكون صمتاً فحسب، كتابةً تزيدُ البياضَ فراغاً، لِنَكْمُنَ بفخاخ اللذّة لهذا الكائن الذي نسمّيه الكتابة:

إنَّ كتابةً تنخرطُ في التَّأسيس لكينونتها تحت وطأة المخاطرة، وتخوض غمار الرُّعب وهسهسات اللذَّة، كتابةً كهذه تستحق أن تكون وفيةً للمحرق الذي الذي انطلقنا منه: «مغامرة الكتابة وكتابة المغامرة» ، فهي بحثٌ متواصلٌ عن نصٍّ رجيمٍ لن يُنْجَز أبداً، لكونه يلهج بلغة الشيطان، ويسدُّ الطريقَ على التأويل أن يمرَّ، التأويل الذي اعتاد السهولةَ في اغتصاب النصوص دون أن يُغتصب بها، ويُوقِعَ بها دون ممانعةٍ، ويمرح في فضاءاتها دون أن يصطدم بالحفر والانكسارات التي خلَّفتها العلاماتُ في صراعِهَا مع السائد لغةً وخطاباتٍ وأجناساً ومؤسساتٍ. كتابةٌ ينبغي أن تعملَ لحسابها الخاص، توظِّف رساميلها لصالح العتمة التي تتدثّر بها، فوديعتُهَا هو ليلُ المعنى الذي تؤسِّسُهُ، وتنتهكُ به بكارةَ البياض، ولهذا تفترضُ تأويلاتٍ متصارعةً، تأويلات تشتبكُ، ولاتهدأُ، ماأن تنتهي من تفسير العلامات واللوثات والفجوات والفراغات الكائنة في جسد الكتابة وتطمئن حتى تتفاجىء بخطئها، لتُعلنَ سوءَ قراءتها، فَتُعِيدَ مغامرةَ القراءة، فتلجَ في صراعٍ مع ذاتِها ومع النَّصِّ مرةً أخرى وأخرى.

لاشكَّ أن هذه الكتابة الذي تتجاوز الأنواعَ والأجناسَ أو تلعبُ لعبتَهَا وتفيضُ عليها، كما يقول جاك دريدا Jacques Derrida، تنبثقُ وفي نيّتها التّآمر على البلاغة بمفهومها الميتافيزيقي وتشويش التواصل مع القراءةِ الكسولةِ التي تروم البحث عن المعنى المستقر، من حيث إنها تكتفي بسطوح الكتابة دون المخاطرة بالهبوط في هاويتها، منعرجاتها، أوديتها، وهذا ما يفترضُ بقراءةٍ جسورةٍ أن تتجوَّلَ في الجغرافيا الوعرة لهذه الكتابة ــ العتمة؛ بمعنى أن الكتابة المندلقة من أتون التَّجربة وصراعها مع اللغة والثقافة والعالم تقتضي قراءةً موازيةً لها في القوّة والاستراتيجية، فالكتابةُ المختلفة تقود إلى قراءةٍ مختلفةٍ وإلى قارىء مختلف، ذلك أنَّ «الكتابةَ ـ اللذّة» تمضي بقارئها إلى قراءة اللذة؛ لتؤسِّسَ من ثمّة «لذة القراءة»، وهذا ديدنُ الكتابة المتمردة، المؤسَّسة على الاستفزاز بنيةً وثيماتٍ واستراتيجيةً في انكتابِ الكتابةِ ذاتِها.

لكن ينبغي، أيضاً، أن نضع في اعتبارنا أن الكتابة في أُسِّها «لِعْبٌ»، بمعنى «العمل الذي لايهدف إلى تلبيةِ أيةٍ حاجةٍ أخرى غير حاجةِ العملِ لأجله هو/ نيتشه»، ولكن هذا لايعنى أن الكتابة لاتهدف إلى أشياء تتجاوزها، بل إنَّ التوجُّهَ نحو البياض توجهٌ قصديٌّ بغاية إنجاز «شيء» ما، بيد أنَّ الانخراط في عشق البياض هو ما يجعل الكتابةَ مشروطةً باللعب، كما لو أنَّ الكتابة ذاتها تعبيرٌ عن «دافع اللعب»، إذ تُنسى القصدية عند عتبة البياض، فينغمر الكاتب في متعةِ اللَّعِبِ ذاتها، حيث البياضُ حيِّزُ اللعبِ، هو يلعب بالعلامات اللغوية، وهي تلعب به، لعبةٌ متبادلةٌ وأثيرة، تعمُّ مشهد ولادة الكتابة بعيداً عن القصدية التي تتأسس بموجبها، فاللعب ينسفُ القصدية وينفتح على المتعة، المتعة لأجل ذاتها فحسب. هكذا أمر الكتابة كطفل انغمر في لذة اللعب ونسي نفسه .

لكن لنمضي في شؤون هذه «الكتابة»، الكتابة بوصفها سياسةً بما تَسعى إليه من سياسةٍ جديدةٍ لانكتابها، لوجودها، فلابدَّ لمغامرة الكتابة من أن تسلك مسالك مغايرة في التَّكيْنُنِ؛ ولهذا علينا أن نتقرَّى علاقتَها أو سياستها باللّغةِ ذاتِها؛ لكونِها تتأسَّسُ في هذه «اللّغة» ذاتِها وبها؛ فالكتابة المندفعة من أَتُونِ «مغامرة الكتابة وكتابة المغامرة» لاعملَ لديها، كما يذهب بارت، سوى حياكةِ المؤامرات ضدّ اللّغة التواصلية، أو ضدَّ فاشية اللغة حيث تتزعم الكتابةُ حركةَ التَّمرد، فهي تعمل على تحرير الدَّالِّ/ العلامةِ من عبوديةِ الوظيفةِ التواصليّةِ بتكريسِهَا لطبقاتٍ متراكمةٍ من الأيديولوجيا؛ لتغدو العَلاماتُ اللغويّةُ مرهقةً، رثّةً، مستعبدَةً؛ فيأتي تمرُّدُ الكتابة ليعيدَ لها الحريةَ والنَّصَاعةَ، وبناءً على ذلك تُحَاولُ «الكتابةُ» في انكتابها تدميرِ الإطار المؤسساتي للغة، وهذه الصفة التدميرية هي التي تميّز نَصَّ «الكتابةِ»، إذ تتكشَّفُ اللّغةُ عن كينونةٍ جديدةٍ، عن ثغرةٍ، شرخٍ في نظام/ جسد «اللغة ــ المؤسَّسة»، وفي إشراقةِ هذه الكينونة يتجلَّى «العَالَمُ» منيراً، مختلفاً، مغايراً وغريباً إذ تعملُ «الكتابةُ» على نزعة الأُلفة عن العَالم وتدميرِهَا، وهذا لن يَتَأتَّى للكتابةِ تدشينَهُ ما لم تتعامل مع «اللغة ــ المؤسَّسة» من موقع العَداوةِ والعُنْفِ والتَّمرُّد والعصيان والإفساد، على ما يذهب «جان جاك لوسركلJean-Jacques Lecercle» في مصنِّفِهِ القيّم «عنف اللغة»، ذلك أنَّ الكتابةَ في سبيلِها لبَنْيَنَة نصٍّ مختلفٍ؛ فإنها تخوضُ صراعاتٍ من الصعوبة بمكان قوْنَنتها؛ لكونها تشتغل ضدَّ القوانين التي تسيّر اللغةَ؛ لأنَّ الكتابةَ في انوجادها تنْدفعُ إلى قهرِ أنظمة اللّغة الاستعمالية والنَّحوية والدَّلالية، وتعيثُ فيها فساداً وتخريباً، ولهذا تُنْعَتُ الكتابةُ الجديدةُ بالهذيان والهُراء لأنَّها تخرق النَّظامَ اللُّغويَّ المعتاد وتزدريه، وتخرج عن طَاعتِهِ، مُعْلنةً العصيانَ على سلطتِهِ القائمةِ على المنطقِ والتَّلاؤم الدلالي بين الكائنات المعجمية وفق مايرتئيه النَّظام استعمالاً ونحواً، بمعنى أنَّ الكتابةَ تَنْسِفُ هذا الانسجام بين الدَّالِّ والمدلول، وتسير في طريقِ اللامنطقِ في امتدادِهَا وتشعُّبِها؛ لتكون أشبه بالخريطة أو بالجذمور النباتي المطمور في التراب، إذ ينمو بطريقة فوضوية شنيعة تحت طائلة مبادىء الاتصال والتنوع والاختلاف والكثرة( جيل دولوز/ غيتاري) أو أشبه بألعاب اللاوعي وهو يتفجَّر بالأحلام حيث يسود «اللا ـ منطق» في ترتيب الصور وتتابعها، فالمنطقُ الذي يسود الكتابة يتأرجح بين الولاء للنظام اللغوي والتمرُّدِ عليه والهزءٍ به، بل لا يمكن الرِّهان على ذلك الجزء من الولاء، فهو ليس إلا ذرَّ الرَّماد في الأعين، ولذا تتَّسمُ الكتابةُ الجديدةُ بالهرطقةِ والتَّجديفِ واستثارةِ حُرَّاسِ اللُّغةِ الذي يتوخونها نقيةً، فصيحةً، جزلةً، محروسةً بالمعاجم وأساليب القدامي في الخطاب، بيد أنَّ «الكتابة» لاهَمََّ لها سوى تفخيخ اللغة بالانحرافات، وإحداث الشروخ فيها، وتعتيم خطاباتها وتلويثها ومناكحة بعضها لبعضها الآخر وفق المبدأ الجاحظي في إنتاج الكتابة.

إنَّ «الكتابة» من هذا المنظور لاتكون إلا عُنْفاً يُرْتَكَبُ بحقِّ «اللغةِ ــ المؤسَّسة»، حيث تستهدف مواقعَهَا بالرَّجرجةِ والانزياحات المدهشة والتَّناقضات المثيرة للحسِّ السليم والتغيُّرات المفاجئة فتُثيرُ انعدامَ الاستقرارِ في بنياتها وأوصالها، ولهذا تستغيثُ «اللغةُ ــ المؤسَّسةُ» بحرَّاسِها من كهنةِ مجاميع اللغة وأساتذة الأدب الغيارى على نقاءِ اللُّغةِ للذَّودِ عن فضائها المُنْتَهَك بهذيان الكتابة وهُرائها ودَنسَِهَا؛ لتستمرَّ في استقرارها، لكن هيهاتَ لها ذلك، مادامت الكتابة لاتُتقن سوى الهجومِ على اللغةِ وإفسادِهَا وتخريبها، فالعلاقةُ بين اللُّغةِ والكتابةِ حربٌ وطيسٌ، لاسبيل للتعادل فيها بالنسبة للكتابة؛ فثمَّة احتدامٌ ونزاعٌ بين الكيانين غالباً ما انتهى وينتهي بانتصار «الكتابة»، وما الأجناس الجديدة إلا دليلاً وبرهاناً على شكيمةِ الكتابةِ في إلحاقِ الهزيمة بـ«اللغةـ المؤسَّسة» على عتبات التاريخ ومسرحه، بل إنَّ الكتابة لاتُنْجزُ كينونتَهَا إلا بالعمل ضدَّ المقولب والعرف والعادة؛ ولهذا تبدو مهتاجةً تدميراً وعنفاً في علاقتها باللُّغةِ ــ المؤسَّسةِ التي تبرح مشهدَ الصَّراع ممزَّقةً، متشظيةً، مبعثرةً تحت إرادة الكتابة وشهوانيتها الفتَّاكة:

إنها الكتابة التي ترفع لواء الاختلاف، تلك التي تتقمَّص ثعالب ماكرة لتقودَ الريحَ، كتابة لن تُنْجِزَ معناها أبداً، كتابة تسكنُ الإشراقَ وتحاذي الانخطافَ، كتابة لاتمكث عند حَدٍّ.

دمشق، قدسيا

2008


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية