"مرضنا يكمن في العقل، الذي لا يستطيع الهروب من نفسه" - ميشيل دي مونتين. ينصحنا مونتين بالاحتفاظ بـ "متجر خلفي"، أو غرفة داخلية. وأطلق الإمبراطور والمفكر الروماني "ماركوس أوريليوس" على هذه الغرفة "القلعة الداخلية" التي تمكن للشخص الحكيم أن يتراجع إليها كل وقت، غرفة خاصة داخل الذات، حيث لا يمكن للآخرين الدخول إليها.

ويضيف مونتين بأن القوة المثالية هي العزلة. إنها مهارة يجب اتقانها، القدرة على أن تكون وحيداً دون الشعور بالوحدة. كان يجد مونتين الحرية في العزلة والوقت المناسب لكل شيء فيها، "عندما أرقص، أرقص؛ عندما أنام، أنام".

والعزلة وفقاً لشاعر النهضة "بترارك"، تعيد تأهيل الروح، وتصحح الأخلاق، وتجدد العواطف، وتزيل العيوب، وتُصلح العلاقة بين الله والإنسان. ويوافق أرسطو على أن أفضل شكل للحياة سيكون تأمليّاً.

من المؤكد أتكلم عن العزلة الاختيارية، وليس تلك التي تفرض على البشر كالسجناء والمرضى وغيرهم. العزلة الاختيارية هي لغة لا يتقنها سوى الذين وصلوا إلى حاجز الإبداع، ولم يجدوا شيء في اجتياز هذا الحاجز بغير العزلة، مما تمنحهم مخيلة غير محدودة يسافرون فيها بكل امكانياتهم.

في حي "الدويلعة" الشعبي في العاصمة دمشق، كان لي صديق شاعر، كنتُ من المعجبين بنصوصه؛ في إحدى المرات كان يُسمعني قصيدة له، جعلني أفتح فمي مندهشاً من جمالها، سألته من أين أتته المخيلة حين كتبها من شدة إعجابي بها، قال لي كنتُ أراقب جاري الفنان. وروى لي عن جاره الفنان الذي لا يتكلم مع أحد في الحي، ولا يخرج من البيت غير مرتين في الأسبوع للتبضع، لكن كان طيلة اليوم مشغولاً بالرسم، ويأتي شخص واحد فقط ليستلم منه اللوحات بين الفترة والفترة. قال لي صديقي بدأتُ مراقبته من خلف الستائر كي لا أزعجه. لمدة أسبوع كامل لم يغير عاداته، يستيقظ في الساعة الرابعة بعد الظهر، يشرب قهوته، ويبدأ برسم السكيتشات على الأوراق، تمهيداً لأعماله الكبيرة في الليل، بعد ساعتين من الرسم على الورق يبدأ بتحضير طعامه ومتابعة تفاصيل يومه من ترتيب وتنظيف واستحمام، حتى الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، يبدأ بالرسم حتى الخامسة صباحاً، وبعدها يبدأ بقراءة الكتب إلى وقت النوم. شعرت بأنه لا يعيش العزلة، بل هو مزدحم جداً، وذكرتني حياته بمقولة رفائيل ألبيرتي "أنت في وحدتك بلد مزدحم"، وازدحمت الكلمات في رأسي بعدها وكتبت هذه القصيدة.

كانت فيروز ترفض الخروج من الفندق الذي تقيم فيه أثناء رحلاتها خارج لبنان، لكي لا تصاب بفايروس ولكي لا يصاب الجمهور بالخيبة منها. وغير ذلك كانت لا تحب أن تكون قريبة من الناس كثيراً. وصرّحت في إحدى المرات أنها لن تضحك قبل أن تعود القدس، وفي الحقيقة هي لا تعرف كيف تضحك، تعيش عزلة في حياتها الخاصة أو كما قال "أوريليوس" قلعتها الداخلية، ولم أفهم كيف ضحكت في صورتها مع الرئيس الفرنسي ماكرون حين زارها.

هذه الحقائق عنها لا تلغي بأنها قامة فنية عظيمة لن تتكرر.

وبالطبع لا بد لي من أن أذكر فيلسوف الكسل المصري من اصول سورية "ألبير القصيري" الذي كانت تعني له السعادة أن يبقى بمفرده على حد قوله، ومكث طيلة حياته في فندق في باريس ليس لأنه كما قال بأن الملكية هي التي تجعل منك عبدا، بل لأن الفندق فيه خصوصية أكثر من البيت الخاص. في البيت الخاص من الممكن أن يطرق أحدهم بابك، لكن فيلسوف الكسل كان يوصي موظفين الاستعلامات بأن لا يزعجوه بأي شيء، ويرفض مقابلة أحد بدون رغبةٍ منه.

والفنان السوري ياسر العظمة يرفض جميع المقابلات الصحفية. ولا يقبل بأي نوع من أنواع الحوارات، وفي تبرريه عن ذلك قال "ما اريد قوله، أقوم بتمثيله أمام عدسات الكاميرا". وكان يرفض الجوائز والتكريم. حرية شخصية وهو فنان له قيمته الفنية ولا أحد يستطيع إنكار ذلك.

كان الفيلسوف الفرنسي من أصول رومانية "إميل سيوران" يقدس العزلة. وكان و جل أعماله تدور حول عزلة الإنسان. وكان يعجبه قول الفيلسوف جان بول سارتر "الآخرون هم الجحيم" رغم أن طريقته في العزلة كانت تختلف عن مقولة سارتر.

وفيلسوف التشاؤم الألماني "شوبنهاور" كان منعزلاً ويعيش حياة اجتماعية مضطربة. والهولندي سبينوزا. ونيتشه كان منعزلاً في السنوات الأخيرة من حياته . والكاتبة والشاعرة الإنجليزية "إيميلي برونتي" مؤلفة رواية "مرتفعات ويذيرنغ"، كانت تعرف بطبعها الخجول، وانطوائية ومنعزلة. وعازف البيانو الكندي "جلين غولد" والكثيرين وصفوه بالناسك والمنعزل، وكان يعيش بمفرده، لكنه كان يتشارك مع الآخرين في أعماله. والممثلة الأميركية من أصول سويدية التي قررت العزلة سنة 1941 في مدينة نيويورك، وأكلمت حياتها هناك بمفردها، ورفضت جميع المقابلات والجوائز. وسأختم القائمة هذه بالشهير "جـ.د.سالنجر" مؤلف الرواية الرائعة "الحارس في حقل الشوفان"، الذي أكمل حياته في مدينة "نيوهامبشاير" رافضا التحدث إلى الصحفيين، ومنعزلاً عن الناس ومبقيا على تفاصيل حياته سرا عن العامة.

وغيرهم من المشاهير والزعماء السياسيين والفنانين والكثير من طبقات المجتمع بمختلف أشكاله وألوانه. وكل هذا لا يهم في الحقيقة حين يقدم الشخص شيء للتاريخ، من فن وموسيقى وأدب وغيرها من المقومات التي تمنح البشرية أي شيء جميل. لكن لم أرى نقد على جميع الذين ذكرتهم لاختيارهم العزلة مثل الذي رأيته على سليم بركات. رغم أن المؤشرات تدل على سبب اختياره العزلة ورفض المقابلات بعد مقابلتين في محطة "الجزيرة" و"كوردسات".

من خلال رحلتي عن حياة سليم بركات الشخصية اكتشفت أن هذا الرجل لم يكن منعزلاً، ولم يكن يريد ذلك، بل وجد العزلة أمامه، والأدلة كثيرة سأذكر أهمها هنا. وكل دلالاتي هي مجهود ذاتي، لم ألجأ للاتصال بالأشخاص الذين يتواصلون معه، وأعرفهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ولا من خلال وجود قريبٌ لي يسكن في المدينة التي يعيش فيها سليم ويراه كثيراً.

يقول سليم بركات في كتاب المحاورة "لوعة كالرياضيّات وحنين كالهندسة" بينه وبين الروائي "وليد هرمز" في الصفحة 25 بعنوان "قلبُ الأشياء على رؤوسها" مجاوباً على سؤال وليد مع حفظ الألقاب إن كان هناك نية لسليم كتابة سيرة ثالثة عن حياته غير التي كتبها عن ايام الطفولة والصبا، يقول ( كل سيرة سرةٌ ناقصة. تفوتُنا أشياء، أو نقصي أشياء (( لا تُكتب )): الرغبة في ذبح أحدٍ، أو إحراق مدينة، أو محو دولةٍ عن بِكْرة أرضها و سمائها، لا تُكْتب. من الفكاهات، مثلاً، حين صدرت (( السيرتان )) بالسويدية ( نال الكتاب جائرة أفضل مُؤلَّف أجنبي تُرجم إلى اللغة السويدية )، توالت عليَّ اتصالات هاتفية من بشر (( الرفق بالحيوان ))، مندّدة بالسلوك (( الهمجي ))، لِمَا في الكتاب من (( إهانة )) للكلاب، وللقطط، ومن تعنيف أيضاً حتى القتل تعذيباً.

حاولت، من دون جدوى، الشرحَ للمتصلين أننا لم نكن نملك بّرادات، ومُجلّدات لحفظ الأطعمة. 

نلاحظ هنا جملة ((توالت عليَّ اتصالات هاتفية)) مؤشر أنه كان شخصية عامة، ولم يكن منعزلا. وبعض المواقف الاخرى التي جعلته يغير رقم هاتفه ويملكه خمسة أشخاص فقط.

لنعود إلى الخلف إلى مجلة "حجلنامه" العددان 10 ــ 11  عام 2007 . العدد الخاص عن سليم بركات، وفيها تفاصيل كثيرة، الذي سأذكر منه من تلك المجلة هي عدد مقتطفات الحوارات التي أجراها سليم مع بعض الأدباء والصحفيين خلال أعوام سبقت صدور المجلة. بدءاً من سنة 1987 حتى عام 1999. هي مقتطفات من حوارات في عدة صحف أجريت مع سليم. أليس كافياً أثنا عشرة عاماً أجرى خلالها عشرات الحوارات؟

لنذهب إلى بداية كتاب المحاورة مع الشاعر والروائي "وليد هرمز" ونقرأ مقدمة الكاتب والباحث "سامي داوود" الذي يقول فيه (اتصل بي قبل أشهر قليلة مخرج أفلام وثائقية، كي أكتب لفريق عمله، سيناريو ــ وثائقي سردي ــ حول حياة سليم بركات وتجربته الإبداعية. وقد كنت مكلفاً من قبلهم بالتواصل مع سليم. لم أتأخر في إرسال ما كتبه لي سليم بخط اليد، من اعتذار شديد اللطف متعلق برهبة الكاميرة. فسليم يعيش التداعيات التي أفرزتها الحداثة في عموم المجالات، لكنه ظلّ في المجال الحسي المتأخر عن هذه الحداثة. مازال المكان بالنسبة له هو التراب الذي ترشه بالماء فيبادلك برائحته. لا حواس بديلة مبرمجة وفقا للتواصل الافتراضي. ولا يغيّر عاداته التي نحتت فيه كل ما يكونه.) ص 10 

هو هكذا، لا حواس بديلة مبرمجة لديه. وما المانع في ذلك؟؟

ما أردت قوله باختصار شديد أن مقابلتين مرئيتين وعشرات الحوارات على مرار سنوات طويلة، و كتابين عن سيرة حياته وكتاب كامل عن أدق تفاصيل حياته "لوعة كالرياضيّات وحنين كالهندسة" وغير اللمسات التي وضعها في أعماله الروائية عن تفاصيل عنه، أليست كافية؟

لو أراد أن يخرج للعامة لن يكون لديه وقت لينتج ما ينتجه الآن.

أيهما أفضل، ان يخرج كل يوم في مقابلة صحفية ويقيم أمسيات ليأتي محبيه ليتصوروا معه، ام يقدم لنا أدباً فريداً من نوعه غنياً بفكرته؟

حياة كل شخص ملكه فقط، ولا علاقة لأي أحد بالطريقة التي يختارها الآخر للعيش فيها.

الاعتناء بالآخر هي أن لا نتدخل في شؤون بعضنا البعض. ونحترم كل ما يفعله أي شخص. الصغير قبل الكبير، والكبير قبل الصغير.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).