بيت من ورق ومجموعة من الأكاذيب التي قبلناها بدون وعي.. علماً أن هذا ما بدت عليه قناعاتنا خلال الأزمات العميقة، فكل تلك الأحداث هزتنا لدرجة الإقرار بمدى هشاشة افتراضاتنا، ولهذا السبب، فإن هذه السنة تشبه مد البحر الذي يتراجع بسرعة مما يجبرنا على مواجهة الحقائق المغمورة.

لقد كنا نعتقد ولأسباب منطقية أن العولمة قد أضعفت الحكومات الوطنية، حيث تراجع الرؤساء في مواجهة أسواق الأسهم وتجاهل رؤساء الوزراء فقراء البلد، ولكنهم لم يتجاهلوا وكالة تصنيف الائتمان ستاندرد آند بورز، كما تصرف وزراء المالية وكأنهم المخادعين في جولدمان ساكس والقادة المحنكين لصندوق النقد الدولي، واتفق أباطرة وسائل الاعلام ورجال النفط والمال مع منتقدي رأسمالية العولمة من الجناح اليساري بإن الحكومات لم تعد مسيطرة.

ثم ضرب الوباء وبين ليلة وضحاها، أصبح للحكومات مخالب واسنان حادة، حيث أغلقت تلك الحكومات الحدود، وأوقفت حركة الطائرات وفرضت حظر التجول الصارم على مدننا وأغلقت مسارحنا ومتاحفنا ومنعتنا من مواساة والدينا، وهم يعانون من سكرات الموت، وحتى ان تلك الحكومات عملت ما لم يكن أحد يعتقد انه ممكن قبل نهاية العالم وهو إلغاء الفعاليات الرياضية.

وهكذا تم الكشف عن السر الأول: الحكومات تحتفظ بسلطة كبيرة حيث اكتشفنا في سنة 2020 ان الحكومات اختارت في السابق ان لا تستخدم سلطاتها الضخمة، وذلك حتى يتسنى لأولئك الذين أصبحوا اثرياء بفضل العولمة ان يمارسوا سلطاتهم.

الحقيقة الثانية هي حقيقة اشتبه بها كثير من الناس ولكنهم كانوا يشعرون بالخجل الشديد من ذكرها وهي ان شجرة المال حقيقية فالحكومات التي كانت تدعي دائما انه لا يوجد لديها اموال كلما طُلب منها دفع تكاليف مستشفى هنا أو مدرسة هناك اكتشفت فجأة ان لديها الكثير من الأموال لتمويل اجازات مدفوعة للعمالة، وتأميم السكك الحديدية، والاستحواذ على شركات الطيران ودعم شركات صناعة السيارات وحتى دعم صالات الألعاب الرياضية والعاملين في صالونات الحلاقة.

ان أولئك الذين كانوا عادة ما يحتجون بإن الأموال لا تنمو على الأشجار وبإن على الحكومات عدم التدخل في سير الأمور، حافظوا على صمتهم بينما احتفلت الأسواق المالية عوضا عن الاحتجاج على الانفاق المفرط للدولة.

تعد اليونان افضل مثال على الحقيقة الثالثة التي اكتشفناها، وهي ان الملاءة المالية قرار سياسي أو على الأقل هي كذلك في الغرب الغني، فلو رجعنا لسنة 2015، لوجدنا ان الدين العام في اليونان كان يصل الى مبلغ 320 مليار يورو (392 مليار دولار امريكي)، وهو مبلغ يتجاوز كثيرا الدخل القومي، والذي وصل الى مبلغ 176 مليار يورو فقط ولقد كانت متاعب اليونان على الصفحات الأولى للصحف حول العالم حيث كان قادة أوروبا يعربون عن اسفهم بسبب افلاسنا.

أما اليوم وفي خضم جائحة جعلت اقتصاد سيء بالفعل في وضع أسوأ، لا تعتبر اليونان مشكلة وعلى الرغم من ان ديننا العام هو اعلى بمقدار 33 مليار يورو ودخلنا اقل بمقدار 13 مليار يورو مقارنة بسنة 2015. ان القوى الأوروبية التي قررت ان عقدا من التعامل مع افلاس اليونان كان كافيا، اختارت الإعلان عن قدرة اليونان على سداد الديون وطالما ان اليونانيين ينتخبون حكومات تحول باستمرار الى الاوليغارشية عابرة الحدود أي ثروة متبقية (عامة او خاصة)، فإن البنك المركزي الأوروبي سوف يفعل ما بوسعه – شراء ما يتطلبه الامر من سندات الحكومة اليونانية – من اجل عدم تسليط الضوء على افلاس البلاد.

السر الرابع الذي كشفته سنة 2020 هو أن جبال الثروة الخاصة المركزة التي نلاحظها ليست لها علاقة تذكر بريادة الاعمال. ليس لدي أدنى شك بإن جيف بيزوس وايلون ماسك ووارن بافيت يتمتعون بموهبة جني الأموال واحتكار الأسواق ولكن فقط نسبة ضئيلة جدا من غنائمهم المتراكمة جاءت نتيجة لخلق القيمة.

إذا اخذنا بعين الاعتبار الزيادة الهائلة منذ منتصف مارس لثروة 614 ملياردير في أمريكا لوجدنا ان مبلغ 931 مليار إضافي لم يأتي نتيجة لأي ابتكار أو ابداع تمكن من تحقيق أرباحا إضافية. لقد أصبحوا اثرياء وهم نيام، إذا جاز التعبير بعد ان اغرقت البنوك المركزية النظام المالي بالأموال المصنعة والتي جعلت أسعار الأصول وبالتالي ثروة المليارديرات ترتفع بشكل كبير جدا.

مع السرعة القياسية لتطوير واختبار لقاحات كوفيد-19 والموافقة عليها واستخدامها، تم الكشف عن سر خامس وهو ان العلم يعتمد على مساعدات الدولة وفعاليتها لا تعكس مكانتها العامة. لقد أثنى العديد من المعلقين على قدرة الأسواق على الاستجابة بسرعة لاحتياجات البشرية ولكن يجب ان لا يغفل أي شخص عن المفارقة في هذه الحالة فإدارة أكثر الرؤساء الامريكان معاداة للعلم على الاطلاق –الرئيس الذي تجاهل الخبراء وعمل على ترهيبهم والاستهزاء بهم وحتى خلال أسوأ جائحة منذ قرن من الزمان – خصص 10 مليارات دولار امريكي للتحقق من حصول العلماء على الموارد التي يحتاجونها.

لكن هناك سر أشمل وأعم: بينما كانت 2020 سنة ناجحة للرأسماليين فإن الرأسمالية لم تعد موجودة والسؤال كيف يمكن ان يحصل ذلك؟ كيف يمكن للرأسماليين ان ينجحوا بينما تتطور الرأسمالية الى شيء آخر؟

الجواب: بسهولة. ان أعظم أنصار الرأسمالية مثل آدم سميث أكدوا على تداعياتها غير المقصودة ولإن الافراد الذين يسعون للربح ليس لديهم اهتمام على وجه التحديد بأي شخص اخر فإنه ينتهي بهم المطاف في خدمة المجتمع. ان مفتاح تحويل الخطيئة الخاصة الى فضيلة عامة هي المنافسة والتي تدفع الرأسماليين للسعي وراء نشاطات تزيد من ارباحهم وفي السوق التنافسي فإن هذا يخدم الصالح العام وذلك من خلال تعزيز نطاق وجودة البضائع والخدمات المتوفرة مع تخفيض الأسعار بشكل مستمر.

ليس من الصعب ان نرى ان الرأسماليين سوف يستفيدون بشكل أكبر بكثير بدون المنافسة وهذا هو السر السادس الذي كشفته سنة 2020. لقد استفادت شركات المنصات الضخمة مثل أمازون بشكل كبير من زوال الرأسمالية واستبدالها بما يشبه الإقطاع التقني.

لكن السر السابع الذي كشفته هذه السنة يمثل العنصر الإيجابي وسط هذه الازمة فبينما تحقيق تغيير جذري ليس بالعمل السهل فإن من الواضح الان ان كل شيء يمكن ان يكون مختلفا فلم يعد هناك أي سبب يدعونا لقبول الأشياء كما كانت بالماضي بل على العكس من ذلك فإن الحقيقة الأهم لسنة 2020 يمكن ان نراها في قول بيرتولت بريخت الذكي والراقي وهو: " نظرا لإن الأشياء على حالها، فإن الأشياء لن تظل على حالها".

لا أستطيع التفكير في مصدر أكبر للأمل من هذا الالهام والذي جاء في عام يفضل معظم الناس نسيانه.

المصدر: بروجيكت سنديكيت


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).