"أصبحت هذه الصفحة عديمة الخير من كثرة النفاق والنشر بحسب المصالح. سوف أخرج منها"، و"صار عالم التواصل الاجتماعي شيئاً مقرفاً. لايستطيع الإنسان الشريف الدخول إليه، لكثرة النفاق والكذب فيه" هذه كلمات صديق قرّر الابتعاد عن موقع فيسبوك الذي وجد فيه خيبة أمل من أصدقاء فيسبوكيين لم يتفاعلوا معه عبر وضع الإعجابات أو التعليقات أو ربما اكتشف كذب البعض وتلوّن مواقفهم عبر منشوراتهم وتعليقاتهم.


هذا الصديق الذي هرب من الحياة الواقعية بحثاً عن المثالية المتخيّلة في العالم الافتراضي، اصطدم بجدار قاسٍ مخالف لكلّ توقعاته. لن نخوض في تجربته وتوقعاته ورغباته في العالم الافتراضي، بل نتوقف عند بعض من النفاق والكذب والمجاملات المبالغة على صفحات فيسبوك، بقصد التشريح والتشخيص فقط.


كثيراً ما تندهش من كتابات كاذبة وخادعة لدى بعض من يصنفون أنفسهم أمام جمهورهم بأنهم "أشاوس ودهاة الرجال" أثناء الحديث عن قضية أو موقف ما، وتدرك أن حقيقته على خلاف ذلك في الحياة الواقعية. ربما هذا الأمر يكون أهون لدى البعض، عندما يعرف حقيقة الآخر الكاذبة، ولا يأخذ كلامه على محمل الجد، لكن الأمر الأقسى هو متابعة البسطاء لشخصيات تقدّم نفسها أساطير ومدارس في الدفاع عن القوميّة أو الدّين أو الحزب أو تيارات فكرية معينة. كثيراً ما يتبنى المتابعون آراءهم، وإن كانت على عكس قناعتهم أحياناً. تحدث الصدمة عندما يلتقون بهؤلاء ويتعرّفون على قصصهم الحقيقية، ودوافعهم الفعلية وراء آرائهم وصورتهم المثالية التي يقدّمونها للجمهور الفيسبوكيّ.


كثيراً ما تجد هذه الحالة لدى الشريحة الثقافية التي تشعر أن البعض منها يضع أمامه صفحة جاهزة من جمل المديح والمجاملات البالغة، وينسخها عند الردّ على الأصدقاء والمتابعين، خاصة عندما ينشر أحدهم صوراً مع الشخصيات المؤثرة ليثبت صداقته الطويلة معها، وإظهار أنه كان يشاركها في القيم النضالية والأخلاقية والوطنية نفسها، لكن هل حقاً حقيقته كذلك؟


في السياق ذاته، يمكن أن تجد سياسياً تغلب عليه الأنانية المفرطة في حياته اليومية، وينشر عن الإيثار وحب الوطن بطريقة لا يمكن أن تقرأها إلا في أوراق الرسل والأنبياء..! تكاد تقول عنه أنه نبي في قوم لا يقدّرونه، والمأساة أن البعض يعامله هكذا! هذه هي الخديعة الكبرى!


أستاذ آخر في الكذب يقدّم محاضرات فيسبوكيّة بالفيديو أو الكتابة عن الشكل الذي يجب أن تكون عليه أخلاق الأمة المحمدية، وتراه مصدوماً في مقاطع فيديو مسرّبة كيف يظهر عهره الحقيقي وهراءه عن الأخلاقيات. هنا تحدث لدى المتابع الفيسبوكيّ صدمة أخرى، فلا يثق بالأنقياء أيضاً بعدها، ويتغلغل الشك داخله.


في حضرة النفاق الفيسبوكي، يمكن أن تصادف أيضاً شاعراً ينشر قصائد عن أحلامنا التي أضاعها الإيدولوجيون في الأحزاب، ويبكي على آلام الفقراء في وطنه، موجّهاً أصابع الاتهام لجهة ما، فتقول في نفسك يا لصدقه! يا لجرأته وإرادته الحديدية في النضال التحرري! ولا تعلم أن تلك الصورة الوردية لا تتجاوز في حقيقتها حدود الهاتف الخليوي أو كل هذه الإنسانية "لغاية في نفس يعقوب" كما يقال.


المجاملات ضرورة حياتية ومهمة في العالم الفيسبوكي والواقعي، لكن إن بلغت درجة الإفراط من قبل بعض الشخصيات العامة، تصبح إشكالية، ولا يمكن التمييز بينها والنفاق أو الكذب الصريح، وهذا ما نقرؤوه على صفحات بعض المثقفين والسياسيين والمهتمين بالشأن العام، ولا علاقة لذلك باللطافة المطلوبة!


الصديق الذي كتب أن عالم التواصل مقرف، خرج مذعوراً وغاضباً من صدمته ببعض الناس الذين اعتبرهم شمعة تحترق لأجل الآخرين، وكان يكره ذاته ربما أحياناً لأنه لا يشبههم في سلوكهم النقي والمثالي الذي يراهم عليه.


أساتذة النفاق والكذب الفيسبوكيّ حاضرون بقوّة، ولا يزال هناك من يستهلك أفكارهم من دون معرفة حقيقتها، وليست هناك بوادر بشرى للخائبين والمقهورين على تراجع هؤلاء، بل يزداد حضورهم الفيسبوكيّ كلما أعطاهم المتابعون إعجابات ومدائح وقلوب وملصقات داعمة. هذا السلوك السيكولوجي المتلوّن في شكله الفيسبوكيّ المعاصر يشكل خطورة كبيرة على مفاهيم الحياة الاجتماعية.


قالها نجيب محفوظ يوماً ما: "لا يعلو صوت على النفاق، هذه هي مأساتنا!". إذا كان أبطالنا ونخبتنا على هذه الصورة، فأين نتجّه؟ وماذا سنحقّق تحت قيادتهم؟ وبماذا ستفيدنا أفكارهم الخاوية؟



مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).