لم أنتبه للساعة بالضبط، إلا أنها كانت تجاوزت التاسعة صباحا، وكان المذياع يبث اناشيد وطنية وخطابات حماسية، كنت غير مبال لما هو مذاع، مشغول بأمر ما  أنجزه، فجأة أصدر المذياع صوتا أشبه بزمور الإنذار أو ناقوس الخطر، تخيلت لو أن لاجئا سورياً، عانى أهوال الحرب، وسمع هذا الصوت، لارتمى تحت طاولة ما، غير متحكم بلا شعوره -الذي يحكمه في مثل هذه الحالات- ثم انقطع هذر الموظفين حولي، والذين جلهم من الأتراك البلغار اللذين هجروا من بلغاريا قسرا إبان الحقبة الشيوعية في ثمانينيات القرن المنصرم في بلغاريا، الذين رغم حصولهم على الجنسية االتركية مازال يطلق عليهم تسمية المهاجرين بالتركية “Göçmen " كشيفرة معتمدة في تركيا لمعرفة أصولهم البلغارية، كما صفة اللاجئين "Mülteci" للدلالة على السوريين المقيمين في تركيا. 

  شد انتباهي الانقطاع المفاجئ لصخب الموظفين، ألتفت حولي متقصيناً الأمر، شاهدت أن معظم الموظفين- عدا بعض الموظفين ذوي الأصول الكردية و احدهم ذي أصل أرمني إلا أن أجداده أسلموا خوفا في حقبة مجازر الأرمن- واقفين باستعداد وكأنها دقيقة صمت اجلالا على أرواح الشهداء. دون تفكير... أنا أيضا وقفت مثلهم تضامنا معهم، و استرجعت في رأسي المناسبات الوطنية التركية- التي تضاهي بعددها المناسبات الوطنية في دولة البعث في سورية- خمنتها ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية كمال اتاتورك، لأنني قبل يوم قرأت منشورا لصديق تركي يدعي بأنه شيوعي اشتراكي، إلا أنه يضع كمال اتاتورك في مصافي الأنبياء، مثله كمثل جميع الأتراك الشيوعيين. 

كان كاتبا في منشوره "رحلت بجسدك إلا أن أفكارك ستبقى منارة لنا وللأجيال القادمة إلى أبد الآبدين، وتحته صورة لكمال أتاتورك، وتحت الصورة مكتوب 1938 تاريخ وفاة كمال أتاتورك إلا أن الرقم 8 موضوع   بشكل أفقي، كإشارة الانفتي -الأبدية (عقدة الخلود.

بعد أن انتهوا من الوقوف وأنا معهم، كل عاد إلى عمله إلى أن حان موعد استراحة الشاي، شدني الفضول لأعرف وجهات نظر الموظفين الذين فضلوا الجلوس على التضامن مع الواقفين. فسألت الأرمني، الذي هو من المنتسبين لحزب الشعوب الديمقراطية، عن سبب عدم وقوفه؟ 

وأجاب: اذا كان الأتراك يشعرون بأنهم يدينون لكمال أتاتورك الذي بنى لهم الجمهورية التركية، ويقفون في ذكرى وفاته دقيقة صمت اجلالا واكبارا له، واذا أخذنا ذلك معيارا فكم دقيقة يجب أن نقف في ذكرى مجازر الأرمن التي ارتكبت منذ العام ١٩١٣ إلى عام ١٩٢٢ فلو وقف العالم كله كل يوم وكل ساعة ودقيقة من كل سنة بالكاد أن يحصي المجازر الجماعية المرتكبة بحقنا.

أيده الموظفان الكرديان اللذان هما أيضا منتسبان الى حزب الشعوب الديمقراطية، و نوها إلى المجازر التي ارتكبت بحق الأكراد العلويين، الزازيين.

فكرت في مصطلح الأمة الديمقراطية الذي أوجده عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني فيما مضى والداعي إلى كردستان الكبرى، قبل اعتقاله من قبل السلطات التركية في نهاية القرن المنصرم.

إذ كيف لهذه الشعوب أن تتعايش بشكل ديمقراطي، فلو نظرنا إلى البيئة والمناخ الذي تعيش فيه هذه القوميات، و بما بينها من أحقاد وثأر، أمر معقد جدا،  كأن تحاول زراعة الفراولة في الربع الخالي) بعد حوالي الثلاث ساعات توقفنا على استراحة الغداء سألني موظف أخر سوري الجنسية، تركماني الأصل، ذي خلفية دينية متشددة: هل رأيت تجديفهم، أنهم يقفون إجلالا لمصطفى أتاتورك، ولا يقفون إجلالا للرسول".

 الأمر الذي رسخ لي فكرتي في عدم جدوى تطبيق مفهوم الأمة الديمقراطية، التي هي ضرب من الخيال، في ظل هكذا معطيات. على الرغم من رغبتي الشخصية المطلقة، في تسامي البشر فوق القوميات و الأديان والمعتقدات، والتي دائما ما أتخيل حدوثها بطريقة أسطورية، و التي هي عكس أسطورة بلبلة بابل.


* إن الآراء الواردة أعلاه تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر موقع رامينا نيوز.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).