حتى بداية القرن السابع عشر تقريبا، كان لزاما على الناس في عموم الأمر أن ينظروا إلى الوراء في الزمن للبحث عن دليل على عظمة الإنسان. لقد بلغت الإنسانية أوجها في عصور ذهبية أُهـمِـلَـت لفترة طويلة وكان قوامها أنصاف الآلهة، وعظماء المفكرين، ومشاريع البناء الضخمة. عندما كان الناس ينظرون إلى المستقبل بحثا عن وعد بعالم أفضل، كانت هذه رؤية دينية اصطنعوها ــ إنها مدينة الرب وليست مدينة الإنسان. وعندما نظروا إلى مجتمعهم، رأوا أنه في الأغلب ذات المجتمع الذي كان في الماضي، حيث أدار هنري الثامن وحاشيته شؤون البلاط بذات الطريقة التي انتهجها أجاممنون، أو تيبيريوس قيصر، أو آرثر.

لكن بعد ذلك، في عام 1600 أو نحو ذلك، لاحظ الناس في أوروبا الغربية أن التاريخ يتحرك إلى حد كبير في اتجاه واحد بعينه، بسبب توسع قدرات البشر التكنولوجية. في الاستجابة لعقيدة التقدم الجديدة التي تبناها الأوروبيون في القرن السابع عشر، مثلت القوى المحافظة وجهة نظر واسعة الانتشار حول الكيفية التي ينبغي للمجتمعات أن تستجيب بها للعواقب السياسية المترتبة على التغير التكنولوجي والاجتماعي. ومن هنا فقد جمعوا أنفسهم عموما في أربعة أنواع مختلفة من الأحزاب السياسية.

يشمل النوع الأول الرجعيين: أولئك الذين يريدون ببساطة أن يقفوا "في عرض التاريخ"، صارخين "قِـف"، على حد تعبير ويليام ف. باكلي الابن في مناسبة شهيرة. يعتبر الرجعيون أنفسهم في حالة حرب مع "عقيدة مسلحة" مُـخـتَلة، والتسوية معها إما مستحيلة أو غير مرغوبة. في القتال ضد هذا العدو، لا يجوز رفض أي تحالف، حتى لو كان مع فصائل ربما تُـعَـد شريرة أو تستحق الازدراء.

يفضل النوع الثاني من الأحزاب "تدابير حزب ويج ورجال حزب المحافظين". يستطيع المحافظون من هذا النوع أن يدركوا أن التغير التكنولوجي والاجتماعي من الممكن أن يعود بالمنفعة على البشر، شريطة أن يكون التغيير موجها من قِـبَـل قادة يكنون تقديرا عميقا لقيمة إرثنا التاريخي ولديهم وعي بالمخاطر المترتبة على تدمير المؤسسات القائمة قبل بناء مؤسسات جديدة. كما يشرح تانكريدي لعمه أمير سالينا، في فيلم جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا "The Leopard"، "إذا أردنا أن تظل أشياء على حالها، فلابد أن تتغير أشياء".

يوجد النوع الثالث من أحزاب المحافظين بشكل أساسي (ولكن ليس قصريا) في أميركا. ينشأ هذا النوع كشكل متكيف من مجتمع يرى نفسه على أنه جديد وليبرالي بشكل ساحق. إنه ليس حزبا يحترم التقاليد والمكانة الموروثة، بل حزب الثروة والأعمال. بين صفوفه سنجد المحافظين الذين يريدون إزالة العقبات التي تفرضها الحكومة على الإبداع التكنولوجي، وريادة الأعمال، والمشاريع. وانطلاقا من ثقتهم في أن السوق الحرة تحمل المفتاح إلى توليد الثروة والازدهار، فإنهم يروجون بلهفة للمزايا المترتبة على ركوب أمواجها التي يحركها "التدمير الـخَـلّاق" الذي تحدث عنه شومبيتر.

أخيرا، هناك بيت الخائفين، والمحتالين الذين يستغلونهم. تشمل جماعة الأنصار هذه كل أولئك الذين يعتقدون أنهم الفئة التي ستعمل ضدها عملية التدمير الخلاق التي يفرضها التغير التاريخي. وهم يشعرون (أو يُـدفَـع بهم إلى الاعتقاد) بأنهم محاصرون من جميع الجوانب بأعداء من الداخل والخارج أشد منهم قوة وحريصين على "إبدالهم" أو "إلغائهم".

تعلمت من كتاب العالمين السياسيين من جامعة هارفارد، ستيفن ليفيتسكي ودانييل زيبلات، الأفضل مبيعا في عام 2018 والمنشور بعنوان "كيف تموت الديمقراطيات"، أن الدول الديمقراطية من غير الممكن أن تُـحـكَـم على النحو اللائق إلا إذا كانت أحزابها المحافظة تنتمي إلى الفئة الثانية أو الثالثة من الفئات الأربع المذكورة أعلاه. عندما يلتحم المحافظون حول تفاعل ما أو خوف، تصبح المؤسسات الديمقراطية تحت التهديد.

يقدم ليفيتسكي وزيبلات العديد من الأمثلة لإثبات هذا، لكن اسمحوا لي أن أضيف مثالا آخر. قبل ما يزيد قليلا على القرن من الزمن، شهدت بريطانيا العظمى انحدارا سريعا بشكل مذهل من مكانتها بوصفها قوة عالمية سياسية واقتصادية مفرطة. تسارعت هذه العملية بشكل كبير بفعل تحول حزب المحافظين إلى حزب يجمع بين النوعين الأول والرابع. كان هذا متجسدا في احتفال الحزب بليلة حصار مافكنج (حرب البوير) والمقاومة المسلحة للإصلاح الدستوري الأيرلندي. في الفترة من 1910 إلى 1914، كما تذكر جورج دانجرفيلد لاحقا، شهد العالم "موت إنجلترا الليبرالية المستغرب".

يعيدنا هذا إلى كتاب كاباسيرفيس، الذي ينبئنا بالكيفية التي وضع بها الحزب الجمهوري الأميركي نفسه على مسار مماثل. عندما أنظر إلى المشهد السياسي الحالي، أرى قِـلة قليلة من عناصر الفئتين الثانية والثالثة في الحزب الجمهوري. وكل ما تبقى يختفي بسرعة.

يبذل الساسة الجمهوريون اليوم محاولة يائسة لالتقاط عباءة دونالد ترمب، وهو دون أدنى شك واحد من أسوأ الرؤساء في التاريخ الأميركي. ومن الواضح أن هذا الاتجاه الخطير والمحرج يجب أن ينعكس بأكبر سرعة ممكنة وبصورة كاملة. لكني في حقيقة الأمر في حيرة من أمري إزاء تصور الكيفية التي قد يتأتى بها هذا.

المصدر: بروجيكت سنديكيت



مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية