بمجرد أن تسمع كلمة الإمبراطورية يقودك الخيال مباشرة إلى تلك المساحات الجغرافية الواسعة والأقاليم التي يحكمها "إمبراطور" ويمارس فيها سلطته المطلقة، لكن مع التحول الرقمي في عالمنا يبدو أن الأمر أصبح في المتناول.

اليوم، بات بإمكان أي منا أن يبني إمبراطوريته الخاصة على شبكات "فيسبوك، إنستغرام، تويتر، يوتيوب، وغيرها.. يكون فيها هو نفسه القاضي والجلاد والضحية في آن واحد، يحكم على هذا بالحظر"البلوك" وعلى ذاك بإلغاء المتابعة، وهكذا دواليك. فتتشكل في ذهنيته "امبراطوريته الافتراضية" وهو حاكمها.

ساحة لتصفية الحسابات

مما لا شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعي بكافة منصاتها حولت عالمنا الكبير هذا إلى قرية صغيرة يستطيع كل واحد منا أن يتواصل مع الآخر مهما كان بعد المسافة، فيقربها له عبر تقنية الفيديو والصورة.

وأصبح بإمكان أي واحد منا التواصل المباشر مع  شخصيته العالمية المفضلة ومتابعتها سواء كانت تلك الشخصية رياضية أو موسيقية أو فنية أو حتى سياسية، إضافة إلى نشر رأيه بقضية أو حدث ما بحرية تامة، أو يتقمص دور الصحفي أو السياسي والناشط والرياضي، والكثير من الجوانب الإيجابية الأخرى.

كل هذا لم يمنع ظهور بعض الجوانب السلبية التي يكون فيها مستخدم الـ"سوشيال ميديا" هو المتسبب بها، من حالات تنمر وتحريض واستفزاز واستغلال وتشويه وما إلى هنالك من الجوانب السيئة التي يمكن للمرء أن يفتعلها ويستغلها لصالح نواياه الشخصية.

ما أن تنشىء حسابك الخاص على "فيسبوك" حتى يصبح لديك ما أشبه بعالمك الخاص الذي تحكمه بنفسك، تسمح بدخول من تشاء وتمنع من تشاء، ويكون ذلك الحساب حاملاً اسمك أو أسماً وهمياً، عليه صورة لك أو صورة تدل على شخصيتك.

في هذه الصفحة/الإمبراطورية الزرقاء تمارس حياة مغايرة عن التي تعيشها على أرض الواقع بدرجة كبيرة، لا بل يصل الأمر ببعض أصحاب الصفحات من السوريين بكل مكوناتهم لممارسة نوع من الضغط النفسي على متابعيه.

فمثلاً، يحدث أن أحد الشخصيات "المشهورة" على خلاف مع "مشهور" آخر لديه فكر مضاد أو بينهما خلافات شخصية لا علاقة للمتابعين بها، فيهدّد كل منهما "المتابعين المشتركين بينهما" بحظرهم في حال متابعتهم للشخص الآخر أو كل من يضع "لايكاً" ويتفاعل مع منشور ينتقده، وكأن هؤلاء المتابعين موظفين سيتم فصلهم من العمل.

ثقافة القطيع

تعد مشكلة ثقافة القطيع "ثقافة المآع" من الظواهر الخطيرة التي تسيطر على الوعي الإلكتروني لدى شريحة لا بأس بها من "الفيسبوكيين" إن صح القول، لاسيما مدمني الشبكة العنكبوتية الزرقاء.

 فهؤلاء بمجرد أن يلمحوا اسم صاحب المنشور أو التعليق سرعان ما يضعون قلوباً وإعجابات دون معرفة وقراءة محتوى المنشور ومضمونه، خاصة إذا كان المنشور يعود لناشط، سياسي، كاتب صحفي.

على سبيل المثال لا الحصر، عندما يقع حدث جدلي في المناطق الكردية في سوريا، تبدأ التعليقات والتحليلات على الفيسبوك من بعض الشخصيات المعروفة لدى المجتمع الكردي، فيقوم عدد من السياسيين أو الصحفيين أو النشطاء بالتعليق عبر مناشير لهم.

وخلال دقائق ترى أفواج اللايكات والتعليقات؛ معظم أصحاب تلك التعليقات والإعجابات يؤيّد ذلك المنشور ليس لأنه يوافقه الرأي، بل لأنهم "مهووسون فيسبوكياً" بصاحبه، فترى كلمات مثل "Herbiji" (كلمة دارجة بالكردية تعبر عن التأييد بمعنى: فلتحيا) تزين أسفل ذلك المنشور.

لاتنتهي الظاهرة هنا لا، فالطامة الكبرى تكون عندما تجد صاحب الـ "Herbiji" يعلق بالمصطلح ذاته على منشور مضاد وعكس المحتوى والرأي تماماً. أيضاً لأن صاحب المنشور المضاد أحد الملهمين الفيسبوكيين له.

وقد تجد أيضاً، ضمن النماذج الفيسبوكية، من لديه آلاف المتابعين، يتهجّم عبر منشوراته على شخص ما قد يكون حاملاً لفكر ورأي مغاير ومعاكس لرأي المهاجم.

خلال فترة زمنية قصيرة، قد تجد مئات التعليقات، تكون معظمها على شكل لعنات ومسبات ضد تلك الشخصية المجني عليها. يقذفون سيلاً من الكلمات النابية دون أن يعلموا، بالتأكيد، من هو المحق!

ارتباط وانفصال

بدأت ثورة وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا من برامج مثل "الأي بادي، ميغ، وي شات، ماسنجر، سكايب، ياهو، أش ماسنجر"، ومن بعدها فيسبوك، تويتر وانستغرام، وغيرها الكثير من البرامج الأخرى.

 كانت هذه الوسائل سبباً رئيساً في زيادة حالات التعارف والارتباط والزواج، وأيضاً تسببت بحالات طلاق وانفصال، بسبب غيرة الزوج أو الحبيب من صداقة الزوجة أو الحبيبة لشخص آخر، أو تفاعلها مع منشور لشخص آخر، أو بالعكس.

نرجسية افتراضية


من الملاحظ بقوة أيضاً على صفحات الـ"سوشيال ميديا" ظهور "النرجسية الافتراضية"؛ يعني أن طريقة تعامل  الشخص وتفاعله وردوده على الآخرين من وراء الشاشة تكون ذات طبيعة مختلفة عن الواقع.

في هذا المرض السيكولوجي، مثلاً، يردّ أحد "المشاهير" "المتفرعنين" ببرود و"نشافة" وسطحية على الرسائل، بينما على أرض الواقع يكون تعامل الشخص ذاته سلساً ومرحاً مع الآخرين.

ومن بين الظواهر الافتراضية الشائعة أيضاً "حب الذات الفيسبوكية" عبر "جمع اللايكات" والمزاجية في الردود والتفاعل مع المتابعين.

وترافق هذه الظاهرة الخطيرة، الغيرة من شخص آخر يعتبره "نداً" له، فيتجنب التفاعل مع منشوراته، من منطلق أن "اللايك محسوب عليه"، لا بل يتجنب التفاعل مع منشور لشخص آخر عليه إعجاب الشخص "الند" وهكذا..

كما تحدث أيضاً في هذا الفضاء الاجتماعي الرقمي حالات متعدّدة من التوتر والتشنج ناجمة عن تصفحنا وتفاعلنا بكثرة مع منشورات الآخرين، ما قد يدفعنا بالندم على تلك الدقائق التي قضيناها في التصفح.

مع تركيزنا على بعض الحالات السلبية الشائعة في مجتمعنا الافتراضي على شبكات التواصل الاجتماعي، هذا لا ينقص، بأي حال، من الدور الإيجابي الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي من ناحية نشر الوعي تجاه الكثير من القضايا، وزيادة نسبة التواصل والتعارف وتبادل الآراء وتعدّدها، والقدرة على التعبير بحرية تجاه موضوع أو قضية ما.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).