من اليمين ماسيج كيسيلوفسكي، آنا ووجسيوك

يبدو أن الانتخابات الرئاسية التي جرت هذا الشهر في تركيا، والتي أعقبها التصويت البرلماني في بولندا، قد تُـواصِـل الاتجاه الذي بدأ في عام 2020 بفوز جو بايدن على دونالد ترمب في الولايات المتحدة واستمر حتى العام الماضي بانتصار لويز إيناسيو لولا دا سيلفا على جايير بولسونارو في البرازيل. قدمت كل من العمليتين الانتخابيتين شعورا قويا بأن الـمَـدّ كان ينقلب ضد الحكام السلطويين الشعبويين.

لكن من منظور القوى الديمقراطية، يُـعَـد النجاح الانتخابي مجرد خطوة أولى. ذلك أن العمل الشاق المتمثل في إعادة بناء المؤسسات لا يبدأ إلا بعد الإطاحة بحكومة استبدادية.

ولكن كيف من الممكن أن ينجح الذين يقودون هذه العملية، في حين ترفض القوى السياسية الكبرى قبول أساسيات النظام الانتخابي التنافسي؟ هذه منطقة مجهولة إلى حد كبير. كانت "الموجة الثالثة" من التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين تشتمل على نحو شبه قصري على ما يمكننا وصفه بأنه تحولات "تعاونية". سواء تفاوضت القوى السياسية التي تقف وراء النظام الساقط على التحول، أو أُطيح بها من السلطة، فإنها أذعنت لنظام ديمقراطي جديد ــ أو دعمته في بعض الأحيان.

في بولندا، على سبيل المثال، قَـبِـل الجنرال فويتشخ ياروزلسكي، الزعيم الفعلي لجمهورية بولندا الشعبية، الاضطلاع بدور الرئيس في عام 1989، كجزء من صفقة مع حركة تضامن. وفي شيلي، شغل الجنرال أجستو بينوشيه مقعدا مدى الحياة في مجلس الشيوخ بعد تنحيه في عام 1990. بحلول منتصف ذلك العقد، كانت رموز شيوعية سابقة تفوز في انتخابات حرة ونزيهة في بلدان أوروبا الوسطى ــ وتتقبل النتائج عندا تخسر.

من المؤسف أن حكاما مستبدين حديثين، من أمثال ترمب وبولسونارو، التزموا بنموذج "غير تعاوني" مختلف تماما. على الرغم من تخلي كل منهما عن السلطة في نهاية المطاف (وإن كان ذلك على نحو لا يخلو من عبوس وكآبة مع بعض العنف)، فلم يتنازل أي منهما أو أنصاره عن هدف ترسيخ الحكم الاستبدادي.

بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات بعد هزيمة ترمب الانتخابية الحاسمة، لا يزال عدد كبير من أنصاره يصرون على أن التصويت "سُـرِق". الواقع أن ترمب، المرشح الأوفر حظا للفوز في الانتخابات التمهيدية الرئاسية في الحزب الجمهوري، والذي يجهز لمباراة الثأر مع بايدن في العام المقبل، تعهد بتطهير المؤسسات الديمقراطية الأميركي من "القوى الشيطانية". فقد أعلن أمام حشد انتخابي صاخب الشهر الماضي في واكو بولاية تكساس: "إما أن تدمر الدولة العميقة أميركا، أو ندمر نحن الدولة العميقة".

الولايات المتحدة ليست وحدها في هذا. فسوف تكون المواجهة القادمة بين حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا والقوى الليبرالية الـمُـعارِضة هي الثالثة منذ عام 2007. انتهى الصِـدام الأول لصالح المعارضة، وانهارت حكومة حزب القانون والعدالة بسبب الاقتتال الداخلي.

ثم واجه الائتلاف المنتصر بقيادة دونالد تاسك (الذي أصبح بعد ذلك رئيسا للمجلس الأوروبي) مُـعضِـلة: فإما أن يلاحق هدف معاقبة حزب القانون والعدالة على مخالفاته وخطاياه، مثل إساءة استغلال السلطة الموثقة جيدا من قِـبَـل وزير العدل سيئ السمعة زبيجنيو زيوبرو في حكومة حزب القانون والعدالة، أو يختار نهجا متسامحا لصالح الانسجام السياسي. اختارت إدارة تاسك الخيار الثاني، ولم يُـحاسَب قادة حزب القانون والعدالة قَـط.

عمل هذا على تمكين حزب القانون والعدالة من تكريس نفسه لرعاية حركة شعبية قوية معادية بشدة للنظام الديمقراطي. مثله كمثل ترمب، حشد حزب القانون والعدالة أنصاره حول "كذبة كبرى"، ولكن ليس بشأن تزوير الانتخابات. فقد ادعى حزب القانون والعدالة بدلا من ذلك أن حادث سقوط الطائرة الذي أودى بحياة زعيم حزب القانون والعدالة السابق ليخ كاتشينسكي في عام 2010 لم يكن حادثا، بل عملية اغتيال من تدبير الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، أو تاسك، أو كليهما.

مرة أخرى، كمثل كذبة ترمب الكبرى، تتغير تفاصيل كذبة حزب القانون والعدالة الكبرى على نحو مستمر. لكن القصد ليس إقناع الناس، ناهيك عن المتشككين. إن تكرار أي شكل مختلف من القصة هو في حقيقة الأمر عمل أدائي المقصود منه تقويض شرعية المعارضين الليبراليين والمؤسسات الديمقراطية. ونجحت الخطة: فقد أصبحت نظرية المؤامرة حول حادثة سقوط الطائرة عنصرا أساسيا ثابتنا في اجتذاب الكتلة التصويتية التي أعادت حزب القانون والعدالة إلى السلطة في عام 2015. ولأنه لم يواجه أي مُـساءلة عن أول فترة له في السلطة، فقد أعاد حزب القانون والعدالة تعيين زيوبرو وزيرا للعدل.

يتعهد تاسك بتبني موقف أكثر صرامة إذا فازت المعارضة في أكتوبر/تشرين الأول ــ المعركة الشاقة بالنظر إلى حالة عدم تكافؤ الفرص التي خلقها حزب القانون والعدالة. في إشارة هازِلة إلى برنامج 500+ الذي أقره حزب القانون والعدالة ــ والذي قدم تحويلات نقدية إلى الآباء ــ يَـعِـد تاسك بملاحقة تنفيذ ما يسمى برنامج Cell+، الذي يسعى إلى تطهير السياسة البولندية من أولئك الذين خدعوا جمهور الناس أو سرقوه.

من السهل أن نرى لماذا يدعو تاسك إلى مثل هذا النهج. ولكن كما حذرت مونيكا ناليبا من جامع شيكاغو وآخرون، فإن عمليات التطهير الشامل للمسؤولين السياسيين الاستبداديين السابقين قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية، وزيادة خطر الانتقام والتصعيد. هذا هو على وجه التحديد السبب الذي دعا تاسك إلى انتهاج خط أكثر ليونة في المرة السابقة.

لأن التحولات غير التعاونية تترك الديمقراطيين بلا خيارات جيدة، فإن الحاجة واضحة إلى مسار بديل. في بولندا، ندعو إلى إصلاح سياسي عميق، استنادا إلى مبدأ تقاسم السلطة بين القوى التقدمية والـمُـحافِـظة. والآن، أطلقت المبادرة غير الحزبية التي اشتركنا في تأسيسها، بما في ذلك أكثر من 100 مفكر بولندي من مختلف ألوان الطيف السياسي، اقتراحا تفصيليا لتوجيه مثل هذه الجهود.

بعيدا عن إعطاء التقدميين كل ما يريدون، يهدف الاقتراح إلى تزويد الجميع، بما في ذلك المحافظين الذين يرون في الشعبوية الاستبدادية طريقهم الوحيد إلى التأثير على عملية صنع السياسات، بحصة في مستقبل بولندا. ويتبقى لنا أن نرى كيف سيرد حزب القانون والعدالة والمعارضة الديمقراطية.

تميل فكرة إصلاح الحكم الديمقراطي جوهريا في الاستجابة لمظالم المحافظين إلى إشعال شرارة المقاومة، وليس فقط في بولندا. ففي الولايات المتحدة، يخشى التقدميون عقد اتفاقية دستورية جديدة. ولكن ما لم نقدم لمواطنينا المحافظين الأسباب لدعم النظام الديمقراطي، فسوف تظل بلداننا غير مستقرة. وهنا وهناك، قد ينجح الحشد التقدمي في وقف التراجع الديمقراطي. ولكن في الأمد البعيد ستظل الديمقراطيات القوية دوما في احتياج إلى دعم الأغلبية الملتزم من جانب الناخبين والأحزاب غير مختلف ألوان الطيف السياسي.

ترجمة: مايسة كامل  

المصدر: بوجيكت سنديكيت          

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية