هانز فيرنر شين

توصل قادة الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق بشأن حزمة انتعاش ضخمة بقيمة 750 مليار يورو (870 مليار دولار) يهدف إلى مساعدة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الأكثر تضرراً جراء جائحة كوفيد 19. ولكن خلال المفاوضات المُطولة حول حزمة الانتعاش، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الأزمة الاقتصادية التي يسببها الوباء في أوروبا هي امتداد لأزمة اليورو التي اندلعت منذ انهيار بنك الاستثمار ليمان براذرز في عام 2008.

في الواقع، تُعد هذه أزمة تنافسية ناجمة عن تشويه الأسعار النسبية في منطقة اليورو الناتجة عن ارتفاع أسعار التضخم في بلدان جنوب أوروبا. وأدى هذا الارتفاع إلى الزيادة في الأسعار نتيجة تدفق رؤوس الأموال التي دخلت هذه الاقتصادات بعد انضمامها إلى اليورو.

أدى انهيار فقاعة اليورو بعد الأزمة المالية لعام 2008 إلى عكس اتجاه تدفقات رأس المال الخاص، الأمر الذي أدى إلى عدة جولات من هروب رؤوس الأموال من منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى ألمانيا. وقد انعكس هذا في ما يسمى بالميزانيات المُستهدفة التي تقيس صافي طلبات السداد وتوفر نوعًا من الائتمان العام للسحب العام داخل منطقة اليورو. واليوم تسبب وباء كوفيد 19 في إطلاق مرحلة أخرى من هروب رؤوس الأموال والتي تزيد على جميع المراحل الأخرى.

بعد تفشى الوباء في وقت سابق من هذا العام، رفض المقرضون الدوليون تأجيل سداد أقساط قروضهم المُستحقة لدول جنوب أوروبا وطالبوا بالسداد، كما عملوا على استثمار الأموال في دول أعضاء منطقة اليورو الشمالية، وخاصة ألمانيا.

كما قام المستثمرون في جنوب أوروبا بتحويل استثماراتهم إلى ألمانيا، مع تحويل مبالغ مُقابلة من المال. وقد أجبرت طلبات السداد هذه البنك المركزي الألماني على تحمل المراكز الائتمانية المفتوحة حتى الآن البالغة 1 تريليون يورو.

في مارس / آذار 2020، ارتفعت مطالبات ألمانيا المُستهدفة بنحو 114 مليار يورو - وهو أكبر ارتفاع شهري منذ تقديم اليورو في عام 1999.

وفي شهري سبتمبر / أيلول 2011 ومارس / آذار 2012، تسبب هروب رؤوس الأموال خلال نقطتين مرتفعتين سابقتين من أزمة اليورو أيضًا في ارتفاع الرصيد الألماني المُستهدف، ولكن بما لا يتجاوز 59 مليار يورو و 69 مليار يورو، على التوالي.

على الرغم من تهدئة أسواق رأس المال نسبيًا في شهري أبريل/ نيسان ومايو/ أيار من هذا العام، ارتفعت مطالبات ألمانيا المُستهدفة مرة أخرى في شهر يونيو/ حزيران، هذه المرة بنحو 84 مليار يورو. بين شهري فبراير / شباط ويونيو / حزيران، ارتفعت بما مجموعه 174 مليار يورو، لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 995 مليار يورو.

على النقيض من ذلك، ارتفعت الديون المُستهدفة الإيطالية والإسبانية بنحو 152 مليار يورو و 84 مليار يورو على التوالي خلال نفس الفترة. وهذا يعني ضمناً ديون بقيمة 537 مليار يورو و 462 مليار يورو على التوالي في نهاية شهر يونيو / حزيران - أو ما مجموعه 999 مليار يورو. كل من هذا المبلغ ومبلغ المطالبات الألمانية قريبان جدًا من عتبة 1 تريليون يورو بحيث لا يسع المرء إلا أن يتساءل عن القوى السرية التي سحبت فرامل الطوارئ.

فر المستثمرون من إسبانيا وإيطاليا لأنهم لم يعودوا يعتبرون هذه البلدان رهانات آمنة. وقامت البنوك المركزية في البلدين بمساعدتهم على تحقيق غايتهم من خلال توفير سيولة إضافية عبر المطابع الوطنية.

جاء جزء من هذه السيولة من مُخططات البنك المركزي الأوروبي المُختلفة لشراء الأصول، بما في ذلك برنامج شراء الطوارئ لمكافحة الأوبئة وبرنامج شراء الأصول الذي تم إنشاؤه سابقًا، والتي عمل البنك المركزي الأوروبي على توسيع حجمها مؤقتاً استجابة للأزمة الحالية.

وعلى الرغم من أن هذه البرامج توقعت عمليات شراء أصول مُماثلة من قبل البنك المركزي الأوروبي وجميع البنوك المركزية الوطنية في منطقة اليورو، فقد قامت هذه المؤسسات بشراء كميات ضخمة بشكل غير متناسب من الأصول الإيطالية.

وتأتي السيولة الإضافية أيضًا من برنامج خاص لعمليات إعادة التمويل طويلة الأجل المُستهدفة  بقيمة تزيد عن 500 مليار يورو قدمها البنك المركزي الأوروبي لبنوك منطقة اليورو في منتصف يونيو / حزيران.

كان سعر الفائدة بنسبة -1 ٪ على عمليات إعادة التمويل طويلة الأجل المستهدفة مُناسبًا للغاية - في الواقع، كان مُواتياً إلى حد كبير لدرجة أن العديد من البنوك اقترضت الأموال وأعادت إيداعها على الفور لدى البنوك المركزية الخاصة بها بنسبة -0.5 ٪. وقد وفرت لها هذه العملية مكاسب فورية أهمها إعانات مفتوحة من قبل النظام الأوروبي.

لكن البنوك الإسبانية والإيطالية بحاجة إلى عمليات إعادة التمويل طويلة الأجل بشكل كبير للتعويض عن تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج. أو ربما استخدمتها ببساطة لسداد قروض أجنبية خاصة بشروط أقل ملاءمة.

في هذه الحالة، فإن القروض التي قدمها البنك المركزي الإسباني والإيطالي عبر مطابعها الوطنية (الإلكترونية) لم تُسهل عملية هروب رؤوس الأموال فحسب، بل عملت أيضًا كوسيلة لتدفق رأس المال الخاص عن طريق تقديم شروط أفضل.

ومع ذلك، تظل منطقة اليورو غير متوازنة داخليًا. ويتضح ذلك أيضًا بالنظر إلى الناتج الصناعي في جنوب أوروبا. على عكس القطاعات المحلية، يجب أن يتنافس أصحاب المصانع في المنطقة على الصعيد الدولي، وبالتالي فقد عانوا أكثر من غيرهم من ارتفاع الأسعار النسبية.

حتى قبل اندلاع أزمة الفيروس التاجي، كان الناتج الصناعي في إيطاليا أدنى من مستواه في خريف عام 2007 بنسبة 19٪، قبل تفاعل الاقتصاد الحقيقي مع الأزمة المالية مُباشرة. في إسبانيا، كان مُستوى الناتج الصناعي أدنى بنسبة 21٪. استمر الاتجاه النزولي خلال الوباء، مما أدى إلى توسيع فجوة الإنتاج إلى 35٪ و 34٪ على التوالي.

في الواقع، يهدف صندوق الانتعاش الجديد للاتحاد الأوروبي إلى معالجة هذا الفشل الذريع، ولكن لا يمكن للمال أن يحل مشكلة أسعار السلع النسبية المشوهة في منطقة اليورو. يتطلب إصلاح هذا الخلل خفضا مفتوحا أو حقيقيا في قيمة العملة. لكن لا أحد يريد التحدث عن ذلك. بدلاً من ذلك، يبدو أن إستراتيجية الاتحاد الأوروبي تعتمد على الأمل والدعاء.

-----------

*هانز فيرنر شين، أستاذ الاقتصاد بجامعة ميونيخ، وكان رئيساً لمعهد إيفو للبحوث الاقتصادية، وعضواً في المجلس الاستشاري لوزارة الاقتصاد الألمانية. له عدد من الكتب.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).