ماتسوشيتا كازوو

على الرغم من عدم وجود ما ينبأ بقرب نهاية أزمة كورونا، إلا أن العديد من البلدان بدأت بالفعل في التطلع إلى المستقبل ورسم ملامح عالم ما بعد الأزمة. كيف سيتغير النظام الاقتصادي العالمي وما تأثير ذلك على المجتمعات؟ ربما يكون فيروس كورونا هو فرصة نادرة لبناء مستقبل أفضل وأكثر استدامة للناس والاقتصاد والبيئة.

ماذا نتعلم من الأزمة

غيرت أزمة فيروس كورونا حياة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، وتسبب في إصابة الملايين بالمرض ووفاة مئات الآلاف منهم، فبحلول نهاية يوليو/تموز 2020 تم التأكد من إصابة 17 مليون، مع وفاة ما لا يقل عن 660 ألف شخص.

إن البيئة الطبيعية الصحية هي الأساس الجوهري الذي تأمل المجتمعات البشرية أن تبنى عليه حياة يسودها الأمان والازدهار، ولكن في السنوات الأخيرة أدت أزمة المناخ العالمية وإزالة الغابات على نطاق واسع، إلى جانب العولمة الاقتصادية المتعثرة، إلى تحطيم توازن النظم البيئية الطبيعية، مما أدى إلى زيادة خطر الإصابة بفيروسات جديدة غير معروفة يمكن أن تتحور لتنتشر بين البشر مسببة أمراضًا جديدة. ويعد فيروس كورونا هو بالفعل ثالث تفشي كبير يسببه فيروس منذ مطلع الألفية الجديدة، بعد السارس ”المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة“ وميرس ”متلازمة الشرق الأوسط التنفسية“.

يجمع المتخصصون على أن التفسير المنطقي لتكرار حدوث مثل هذه الأوبئة في السنوات الأخيرة يكمن في الدمار الهائل الذي أحدثناه في البيئة الطبيعية. لقد أدى الاستغلال المفرط للموارد البيئية وتغير المناخ بشكل سريع إلى تغيير أنماط الاتصال بين البشر والحيوانات البرية، وزيادة خطر انتقال مسببات الأمراض الفيروسية ونشرها بين البشر. كما أن الحركة السريعة والمستمرة للأشخاص والبضائع عبر الحدود التي تعد سمة من سمات عصر العولمة، ساعدت على تفاقم الأزمة حتى وصلت الإصابات إلى أبعاد وبائية بسرعة مقلقة وغير مسبوقة.

كما أن تلوث الهواء يعد واحدًا من العوامل الرئيسية التي أدت إلى تدهور الأوضاع بشكل سريع، حيث أظهرت الدراسات في كلية تي إتش تشان للصحة العامة بجامعة هارفارد زيادة محتملة بنسبة 15% في خطر وفيات فيروس كورونا للأشخاص الذين يتعرضون على المدى الطويل لجسيمات PM2.5 وملوثات أخرى في الهواء.

إن جائحة كورونا هي أزمة مركبة، فالوضع الذي نواجهه اليوم هو نتيجة تدمير البيئة الطبيعية وعدم كفاية التخطيط للأزمات من قبل المجتمعات والحكومات. والنتيجة تهديد بقاء الجنس البشري، ومع زيادة تأثير هذا المركب متعدد الأوجه تزداد الأزمة سوءًا بسبب عدم المساواة والظلم المتجذر في المجتمع.

وقد أكدت الأزمة على أهمية تقييم المخاطر بدقة، واستخدام البيانات العلمية، واتخاذ الاستعدادات المناسبة بناءً على هذا التقييم، وفي الوقت نفسه يُظهر العلم أن الضرر الناجم عن تغير المناخ من المرجح أن يكون أكثر خطورة وأطول أمداً من أزمة كوفيد-19، ولمنع المزيد من التدهور من الضروري أن نتعلم من الأزمة ونتحرك بسرعة للتحول إلى بيئة خالية من الكربون. لكن للأسف هناك بعض الحكومات التي اضطرت إلى تأجيل التدابير اللازمة لمعالجة المشاكل المرتبطة بتغير المناخ لحين انتهاء الأزمة الحالية، والحقيقة أن فيروس كورونا وتغير المناخ كلاهما قضيتان خطيرتان تتطلبان استجابة منسقة وموحدة من المجتمع الدولي، وقد يؤدي الفشل في معالجة هذه القضايا الآن إلى عواقب وخيمة على مستقبل جنسنا البشري. وهو ما يتطلب تعاون وتنسيق على المستوى العالمي.

كما يعتقد العلماء أن الأسباب الحقيقية لظهور هذه الأوبئة في الآونة الأخيرة تكمن في وجود خلل في الهيكل الأساسي للأنظمة الاقتصادية العالمية. والأمر لا يتعلق فقط بالأزمة الراهنة، فإذا لم تنجح البشرية في إيجاد حلول جذرية للمشكلات البيئية فمن شبه المؤكد ظهور أمراض أخرى في المستقبل ربما تكون أكثر فتكًا من كورونا. علينا أن نتحلى ببعد النظر ونفكر كيف يمكننا بناء نظام اقتصادي ومجتمعي أكثر قدرة على مقاومة هذه التهديدات، كما يجب علينا في نفس الوقت أن نجد طريقة لتجنب آثار أزمة تغير المناخ.

التعافي الأخضر

أحد الجوانب الإيجابية لوباء الفيروس التاجي هو ما سببه من خفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المسببة للاحتباس الحراري نتيجة للإغلاق الاقتصادي المؤقت الذي طبقته العديد من البلدان الصناعية، مما أدى إلى التخفيف من تلوث الهواء في جميع أنحاء العالم. وفي الأمم المتحدة وأوروبا خاصةً تجري المناقشات بالفعل لضمان ألا يصبح الوضع الحالي مجرد حالة مؤقتة، فنحن بحاجة إلى اغتنام هذه الفرصة لجعل أنظمتنا الاقتصادية أكثر استدامة. وتدعو العديد من الشخصيات العالمية المؤثرة إلى تطبيق ”التعافي الأخضر“ وتؤكد على ضرورة المضي قدماً في ”إعادة البناء بشكل أفضل“. لقد حذر كل من الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس وكالة الطاقة الدولية والرؤساء التنفيذيين لكبريات الشركات العالمية من أن مجرد العودة للوضع السابق لن يكون كافيًا. وبدلاً من ذلك، يجب أن نهدف إلى التعافي الذي يؤسس لأنظمة أكثر مرونة واستدامة من تلك التي كانت لدينا من قبل، حيث يوفر الإغلاق الاقتصادي فرصة مثالية لضمان أن التدابير الاقتصادية التي نتخذها ستساعدنا على الوصول إلى بيئة خالية من الكربون.

وعلى الرغم من الركود الاقتصادي الذي أصاب العالم، فقد وعد الاتحاد الأوروبي بمواصلة دعمه لبنود الإتفاقية الخضراء للإتحاد الأوروبي، وهي استراتيجية نمو تهدف إلى خلق المزيد من فرص العمل والتشجيع على الابتكار مع العمل على خفض انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري، فهي تسعى إلى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة.

وبالفعل بدأت العديد من الحكومات في جميع أنحاء العالم في التطلع إلى اتخاذ تدابير اقتصادية متوسطة وطويلة الأجل جنبًا إلى جنب مع تدابير الطوارئ المختلفة التي رأيناها منذ بدء الأزمة، بما في ذلك خطط دعم الأعمال وبرامج الإجازة وغيرها من البرامج لدعم العمال والشركات على المدى القصير، والمساعدة في دعم الاقتصاد للتعافي من الآثار المدمرة للوباء. وتعد تدابير مواجهة فيروس كورونا من أكبر التدابير التي شوهدت على الإطلاق، ومن المرجح أن يكون لمحتوى هذه السياسات تأثير كبير على المدى البعيد، ولعل من أهم الأسباب التي أعطت هذا الزخم الكبير للجهود الدولية للتخلص من أثار الوباء أن المجتمعات أصبحت أكثر وعياً من ذي قبل بأهمية الحفاظ على البيئة.

وفي الواقع، منذ فترة طويلة وحتى قبل بداية الأزمة الحالية فإن تدابير معالجة تغير المناخ التي تبنتها العديد من الدول والمنظمات الدولية شجعت على التحول إلى النظم الاقتصادية التي يمكن أن تسهم في سعادة الإنسان من خلال التحول إلى الطاقة المستدامة وتشجيع أنماط الحياة الأقل اعتمادًا على استهلاك الموارد الطبيعية.

وينبغي علينا هنا النظر إلى زيادة الإنفاق العام للتصدي لتغير المناخ على أنه استثمار في المستقبل، حيث من المرجح أن يحقق عوائد اقتصادية أكبر في العقود القادمة من خلال الاستثمار في البنية التحتية المستدامة وتطوير التكنولوجيا الجديدة. ولكن إذا استمرت سياسات إعادة الإعمار التي لا تتضمن إلا حزم التحفيز الاقتصادي التقليدية مثل تلك التي رأيناها في الماضي بما في ذلك دعم الصناعات التي تعتمد على الوقود الأحفوري وعمليات الإنقاذ لصناعة الطيران وزيادة الإنفاق على مشاريع البناء الجديدة، فإن أي نجاح يمكن تحقيقه سيكون قصير الأجل، لأنها ربما قد تنجح في إنعاش الاقتصاد على المدى القصير، إلا أنه من الصعب على المدى الطويل رؤية كيف يمكن أن تعمل مثل هذه السياسات على إحداث تحسين جوهري في هيكل النظام الاقتصادي أو التحول إلى بيئة خالٍية من الكربون. فسياسات الإنعاش الاقتصادي المصممة لإخراج الاقتصاد من الركود الناجم عن الوباء يجب أن تلعب دوراً محورياً أيضاً في تقليل انبعاث غازات الكربون. فنحن بحاجة إلى المضي قدمًا نحو مجتمع مبني على ”الوضع الطبيعي الجديد“ أين لا يمكننا العودة إلى ما كنا عليه من قبل.

الوضع الطبيعي الجديد في عالم ما بعد الكورونا

أحد الجوانب الجديرة بالملاحظة بخصوص الاتفاقية الخضراء للاتحاد الأوروبي أنها لا تهدف فقط إلى وضع قيود على النشاط الاقتصادي من أجل حماية البيئة، بل تهدف إلى استخدام التدابير البيئية لجعل المجتمعات المحلية أكثر مرونة واستدامة في مواجهة تغير المناخ والأمراض المعدية، ولمساعدة المجتمعات على تحقيق نمو اقتصادي أفضل. ومن حسن الحظ فإن الوباء لم يقف عائقاً في سبيل المضي قدماً لتحقيق أهداف الاتفاقية، بل أعطاها زخمًا جديدًا وأحدث تطورات جيدة ومبتكرة.

في خطوة احترازية لمنع تفشي الوباء بشكل أكبر، اضطرت الكثير من البلدان في جميع أنحاء العالم إلى تجميد العديد من الأنشطة الاقتصادية، وتهدف الاتفاقية الخضراء للاتحاد الأوروبي إلى استغلال هذه الفرصة لخلق أنماط حياة جديدة أقل استهلاكاً وأكثر استقرارًا، كما من المحتمل أيضًا أن يتم تطبيق بعض القيود على العولمة في السنوات القادمة.

وقد أدت الإجراءات المتخذة للحد من انتشار العدوى إلى حدوث ركود اقتصادي كبير ربما سيظل العالم يعاني من تبعاته لفترة طويلة. ولكن لم تكن جميع الآثار الجانبية للأزمة سلبية، فقد أدت تدابير مثل العمل من المنزل، والقيود على التنقل، والاجتماعات عبر الإنترنت إلى تبني العديد من الشركات لأنماط عمل جديدة تقلل بشكل كبير من العبء الواقع على عاتق الموظفين. كما ازداد إقبال الناس على استخدام الدراجات الهوائية كوسيلة نقل أمنه تحد من الاختلاط، وهو ما لفت الأنظار لضرورة زيادة الممرات المخصصة للدراجات وكذلك وضع العديد من القوانين الجديدة التي تنظم سيرها في المدن. هناك أيضاً حركة متنامية تروج لفكرة تناول ”الطعام المحلي“ كوسيلة لدعم المنتجين المحليين وتحقيق الاستقلال المحلي في إنتاج الغذاء قدر الإمكان.

سيكون هذا النوع من التحول أمرًا جيداً للغاية، حيث سيساعدنا على تحقيق أقصى استفادة ممكنة من الموارد المحلية وخلق المزيد من الوظائف ودعم الأنظمة الاقتصادية التي تساهم في رفع جودة الحياة، وكذلك بناء مجتمعات محلية مستقلة ومتنوعة يرتبط فيها الاقتصاد والبيئة والمجتمع في دورة مستدامة من خلال الاستفادة من التكنولوجيا المتطورة. كما سيساهم في الحد من استهلاك الطاقة والموارد الطبيعية المحدودة.

الحكومة اليابانية واتفاقية باريس

 بدأت العديد من الشركات اليابانية في اتخاذ خطوات جادة من أجل دعم أهداف التنمية المستدامة من خلال الانضمام إلى مبادرة RE100 ”مبادرة عالمية تجمع بين مئات الشركات الكبيرة والطموحة الملتزمة باستخدام الطاقة المتجددة بنسبة 100%“ حيث تعهدت مجموعة من الشركات اليابانية بتوفير 100% من احتياجاتها من الطاقة من مصادر متجددة. فمن بين 235 شركة وقعت على هذا التعهد من جميع أنحاء العالم هناك 34 شركة يابانية ”اعتبارًا من 6 يونيو/حزيران 2020“ بما في ذلك شركات مثل ريكو، سانتوري، كاو، سوني، فوجي فيلم، إن إي سي، وأوريكس. ومع ذلك، ما لم تُظهر الحكومة اليابانية جدية أكبر تجاه المبادرة سيكون من المستحيل على الشركات اليابانية اتخاذ الريادة في هذا المجال. وتحتاج الحكومة اليابانية إلى تعزيز أهدافها للحد من انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري (خفض 40%-45% بحلول عام 2030، وتحييد الكربون بحلول عام 2050)، والتعهد بعدم بناء أي محطات توليد طاقة جديدة تعمل بالفحم لخفض التمويل العام لطاقة الوقود الأحفوري وتشجيع إنتاج الطاقة المتجددة.

تحتاج اليابان والعالم إلى التعلم من الأزمة الحالية والانتقال السلس والسريع إلى مجتمع جديد ومستدام وخالٍ من الكربون ولا يعتمد على الوقود الأحفوري، وهذا يعني تغيير جميع أنظمة المجتمع - الاقتصاد والتكنولوجيا وأنماط الحياة - إلى أنظمة جديدة محايدة للكربون وداعمة لأهداف التنمية المستدامة. وغني عن القول أن كل هذا يجب أن يتم في خطوات ثابتة كجزء من عملية مفتوحة وديمقراطية.

---------------------

ماتسوشيتا كازوو حاصل على بكالوريوس الاقتصاد من جامعة طوكيو وشهادة الماجستير من جامعة جونز هوبكنز. ومنذ عام 2013 يعمل كأستاذ فخري في جامعة كيوتو، وزميل أول في معهد الاستراتيجيات البيئية العالمية، وهو أيضا رئيس الجمعية اليابانية لدراسات GNH. كما عمل سابقا في وزارة البيئة اليابانية، ومديرية البيئة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وكذلك مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية. وكان أستاذًا للسياسة البيئية العالمية في جامعة كيوتو منذ عام 2001 وحتى عام 2013.

المصدر: موقع نيبون الياباني

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).