شهد العالم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يزال، حالات انقسام مجتمعي في عدد لا بأس به من الدول، والتي استدعت معها الحاجة إلى كتابة دساتير تضمن للأطراف المجتمعية كافة، شكلاً من أشكال التمثيل في مختلف مؤسسات الدولة، تبدأ من القمة إلى القاعدة، ضمن إطار لتقاسم السلطة، بما يضمن، أو كما هو مأمول، أن يكون تقاسم السلطة مقدمة لتجاوز الصراعات أو الحروب الأهلية، ولم يكن هناك نموذج واحد لهذا الشكل من أشكال الديمقراطية «ديمقراطية المحاصصة»، فقد وجدت نماذج عديدة (بلجيكا، البوسنة، تشيكوسلوفاكيا، إيرلندا الشمالية، جنوب إفريقيا، العراق، لبنان)، وقد أوضحت التجربة العملية وجود نجاحات متفاوتة لتلك النماذج، فقد صمدت في مكان، وأخفقت في مكان آخر.

وبغض النظر عن أسباب الانقسام المجتمعي، فإنه في حال وقوعه يصبح حقيقة لا بد من التعامل معها، بل إن هذا الانقسام يطرح أسئلة جديدة حول قضايا كبرى، من مثل هوية الدولة، ونظام الحكم، ومركزية الدولة أو لا مركزيتها، وطرق تمثيل الفئات المتصارعة في مؤسسات الدولة، ودور الجيش، وخلافه من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات تعاقدية من الأطراف ذات الصلة بالصراع، لكن ما هو مهم هنا هو أن الأطراف الرئيسية في الصراع تكون قد وصلت إلى مرحلة الاعتراف بضرورة تقاسم السلطة، وهي المقدمة الواقعية سياسياً لقبولها بأن تذهب نحو حل «ديمقراطية المحاصصة».

إن حل تقاسم السلطة في المجتمعات المنقسمة يتطلّب وجود فئات متصارعة واضحة الهوية بشكلٍ من الأشكال، لكلّ منها زعاماتها الواضحة، الإثنية أو الدينية أو المذهبية، وغالباً فإن تلك الزعامات تتشكل خلال الصراع نفسه، بحيث تصبح ممثلة لفئة مجتمعية ما، تتحدث باسمها، وتنطق باسم مصالحها، وهو ما يساعد فعلياً، في لحظة الاعتراف بحاجة لحلّ سياسي، في جلوسها إلى طاولة التفاوض، وكتابة دستور، يمثل التوافقات والاتفاقات التي تتوصل إليها.

تعد «ديمقراطية المحاصصة» منزلة بين منزلتين، فهي تشكل حلاً لصراع قائم، لكنها تصبح مع الوقت عقبة دستورية في وجه التحول نحو دولة المواطنة المتساوية، فتبقي معها الكثير من أسباب الانقسام، لكنها تكون في وقت إنجازها أفضل الأسوأ، وإلا فإن البديل هو استمرار الصراع، أقله من وجهة نظر المتصارعين، أو من وجهة نظر القوى الخارجية الفاعلة في الصراع، والتي تكون قد وصلت إلى استنفاد إمكانية قلب موازين الصراع لمصلحة الطرف المحلي الذي تدعمه، بالإضافة إلى أن المجتمعات نفسها تكون قد استنفدت ممكنات استمرارها في دفع الأثمان الباهظة للصراعات الأهلية.

غالباً، يكون نموذج الحكم البرلماني هو الشكل الذي تذهب نحوه المجتمعات المنقسمة، حيث تكون السلطة التنفيذية، أي رئاسة الوزراء، هي المكان الذي يتم فيه تقاسم السلطة، وهو المكان الذي تصنع فيه القرارات، والتي يحتاج إقرارها إلى شكل من أشكال التوافق بين المكونات داخل هذه السلطة، وهو ما يمنع رئاسة الهيئة التنفيذية، المسندة إلى طرف ما، يكون ممثلاً للأغلبية المجتمعية في بعض النماذج، كما في العراق ولبنان، يمنعها من اتخاذ قرارات غير مقبولة من الأطراف الأخرى، على الأقل من الناحية الدستورية.

خلال السنوات الماضية، وقعت بعض الدول العربية، كما في ليبيا وسوريا واليمن، في حالات انقسام مجتمعية، وثمة جهود تبذل نحو اجتراح حلول سياسية لهذه الصراعات، وقد انخرط المجتمع الدولي، وبعض الأطراف الفاعلة في الصراع، في عملية تقديم حلول دستورية لهذه الصراعات، مثل إقرار لجنة دستورية لكتابة دستور جديد في سوريا، والمدعومة أممياً، من خلال القرار 2254، والذي نصّ على «تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع، وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسوريا».

إن المدخل الدستوري لحل الصراعات القائمة على أساس مجتمعي يتطلب وعياً بالأسباب العميقة للانقسام، فعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي تكتسبها الحاجة إلى السلام، فإن بناء سلام مستدام يجب أن يكون الهدف الرئيسي في الحل، فنجاح تجربة «ديمقراطية المحاصصة» يعتمد على أمور كثيرة، وقد أثبتت التجربة الواقعية أن من بين تلك الأمور هو أن يميز الدستور الجديد بين المصالح الوطنية العليا الجامعة وبين مصالح الفئات الاجتماعية الخاصة، وأن يضمن بناء مؤسسات وطنية، غير منحازة، تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، كما يضمن عمليات المحاسبة والمساءلة القانونية، لتجنب حالات الفساد والإفساد.

(الخليج)



مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).