الموسيقى أرشيف قوميّ لذاكرة الشعوب والإثنيات بكل ما فيها من إبداع شفويّ متناقلٍ، أو مدوّن. وما فعله اسكندر أنه أنجز أهم ما يمكن أن يجده الباحث والمهتمّ والمتلقي على صعيد جمع الموسيقى السريانية القديمة وتدوينها ونشرها في كتب.

السريانية أساس موسيقى الشرق

وتظهر أهمية ما فعله اسكندر للباحثين في تاريخ الموسيقى الشرقية نفسها. حيث تشكل الموسيقى السريانية عمودًا من أعمدة هذه الموسيقى لا يمكن تجاهله. بل ثمة قدْر واضح من الموسيقى العربية الشرقية دخلت فيها مؤثرات الموسيقى السريانية من غير أن يدرك الآخرون ذلك بشكل واعٍ. فهي تسربت للذاكرة من سماع الأغنيات الشعبية في مناطق السريان وفي تواريخ مختلفة، واستقرت في اللاوعي الذي بدوره صار يعيد خلقها بصورة أغانٍ شعبية وأناشيد وأهازيج قد تستعمل حتى في الأعراس والمناسبات الدينية.

ترى الباحثة الموسيقية الجزائرية "عائشة خلاف" أن التراث الموسيقي العربي يضمرُ في داخله ما سمته بـ (نسق نظامٍ فكريّ) وهذا نسقٌ قابل للإثراء والتحديث كل زمان ومكان.

وما فعله نوري اسكندر هو أنه عكف على البحث في سراديب هذه الموسيقى لتوصله أدوات بحثه إلى جذرٍ أساسي من جذورها وهو الموسيقى السريانية باعتبار الثقافة السريانية من المواد الأولية التي بني عليها تاريخ المنطقة الشرقية بما فيها سوريا. وقد راح يجمع المرويات الموسيقية وكمّا كبيرا من الألحان الشعبية التي تناثرت في أكثر من منطقة جغرافية.

البعد الحضاري لموسيقى اسكندر

إن التدوين الموسيقي، أو التنويط، هو عمل ثقافي مكمّل للتدوين الفكري أو الفلسفي. فحين تطرح مدونات موسيقية موثقة فأنت تعطي الآخرين فسحة للتعرف على فلسفة هذا الشعب وروحه الواقفة وراء الموسيقى. وأنت تساهم في حفظ تاريخ هذا الشعب إذاً.

موسيقى السريان علامة فارقة في كيان موسيقى الشرق. صنعت هذه العلامة جماعة بشرية عكست في موسيقاها حياتها وأفكارها ومزاجها وكيفية تعاملها مع الطبيعة والإنسان والمشاعر المختلفة. بل وكيفية العلاقة مع الخالق وملكوته. وكأي جماعة بشرية ذات إرثٍ متجذّر صارت الموسيقى كأنما هي مكان يقيم فيه السريان ويمارسون فيه أحلامهم ويعيدون بناء مخيالهم الجماعي ورؤاهم الشعبية والدينية والعاطفية. ولنا أن نتصور أهمية ما فعله نوري اسكندر في هذا المجال حين وضع هذا الأمر في سياقٍ علميّ وجماليّ. فهو لم يكتف بتدوين وتوثيق تراث الموسيقى الدينية، بل وراح يبحث في الفضاء الاجتماعي والعاطفي والشعبي للموسيقى السريانية.

المعلّم المغمور

وإذا كان اسكندر يلقب بـ (الملفان) و(ملفونو) والتي تعني في السريانية المعلم، ومعلمنا؛ فإنه مستحق لهذا اللقب بجدارة. معلم يرى مفهوم الوطنية أشمل مما كان يتم تقديمه عبر الإعلام السوري الرثّ. هذا الإعلام الذي اعتاد منذ عقود على توصيف الأغنية الوطنية في إطار ضيقٍ ومخزٍ، لا علاقة له بمفهوم الوطن ولا بعلاقة الروح به. وطن فصّل على قياس رئيس صارت مدائحه الركيكة في الغناء هي معيار الوطنية.

ما المعلم نوري اسكندر فهو كأي شخصية إبداعية حرة ترى الوطن في إيقاع القلب وحياة الروح والفكر وأحلامه. وكيف انعكس ذلك في الغناء بالصوت النابع من قلبٍ مشغوف بوطنه بعيدا عن قداسات الزعماء والأشخاص. موسيقى الوطن هي فرحه وحزنه وعشقه ورقصته في القرية. هي صوته المبحوح حول النبع. هي هتاف امرأة خجلى لعاشقها من خلف شجرة رمان. موسيقى الوطن هي كينونة الإنسان تتجلى في الفنون والآداب وليس في صور الرؤساء ومهرجاناتهم الكئيبة..

لهذا أهملته سوريا، ولم تقدم له بصورة حقيقية أبسط الإمكانات التي كانت تتطلبها أعماله البحثية الكثيرة. وما كان يطلب المستحيلات.

كم مؤلم أن يعثر على الدعم والمساعدة من دولة بعيدة كالسويد وهو بصدد البحث في تاريخ موسيقى بلاده؟ أي فجيعة أخلاقية تلك أن يمنحك الغربُ الفرصة الذهبية لتبحث في هويتك وجذورك الموسيقية؟

نوري اسكندر يفتح فرجاره الرؤيوي على أوسع مدى وينظر من خلال الرحابة والامتداد إلى كيف يتشكل التراث وكيف يصنع الإنسانُ هويته بمعزل عن السلطات الحاكمة والأيديولوجيات عبر التاريخ. وإلا فكيف سيكتشف العلاقة بين الموسيقى السريانية واليونانية؟ كيف سيضع يده على نقطة التلاقي بين موسيقى  مدينة (الرها) التي تعود جذوره إليها، وبين موسيقى الشرق بعامة؟ ثم بينها وبين موسيقى الإنشاد الديني؟

الموسيقي العابر للحدود والثقافات

في مطلع الـ 2000 جاءت إليه فرقة هولندية مسرحية للبحث معه في مشروع موسيقي عبارة عن وضع ألحان مسرحية (عابدات باخوس) لليوناني الشهير يوريبيدس! إن مجرد اختياره لهذا المشروع دليل على تقدير الآخرين له. لم يكونوا عاجزين عن العثور على مؤلف موسيقي غربي يقوم بهذا. لكنهم أرادوا أن يكون المؤلف من أرض الشرق نفسه. مؤلف يعرف كيف يجمع عناصر الهويات المختلفة في عمل أصيلٍ يحاور فيه الجميع أنفسهم وأحلامهم. بعد إنجاز عمله هذا تم عرضه المسرحية في عدد من عواصم أوربا. ليكون المتلقي الغربي على صلة مباشرة بمساهمة مبدع سوريّ في تقديم عمل عالميّ عابر للحدود.

العابر للحدود، هو ختمٌ ثقافيّ لا يمكن لأي مبدع الحصول عليه. تلك مهمة أمثال نوري اسكندر ممن يتجاوزون إطارات الهويات الضيقة وينقذف في قلب العالم بكل قدراته على الجولان والحركة.

التراتيل السريانية وألحان الأغنية الشعبية والأناشيد

الموسيقا السريانية مصدر هام من مصادر الموسيقا السورية. وهذه الموسيقى جزء منها موغل في القدم يعود إلى الطقوس الدينية حتى ما قبل المسيحية. إضافة إلى بعضها الآخر الذي يسمى عادة بالموسيقى الشعبية. وهي ألحان تواضع عليها الناس في مناسبات جماعية تؤرخ لأنماط حياتهم ومواسمهم وتقاليدهم بصورة عامة. وبالتأكيد فثمة قسم كبير منها لا يعرف من مؤلفها. وليس هناك وثيقة مكتوبة توثقها. وهي لا حصر لها من حيث العدد. من هنا صعوبة وفرادة العمل الذي قام به نوري اسكندر. ويعتقد اسكندر أن "هناك تأثيرات أخرى للألحان اليونانية حيث تتجاوز خمسين لحناً جاءت من جزيرة قبرص وكريت في القرن السابع والثامن وقام بترجمتها يوحنا الدمشقي ثم ترجمت إلى السريانية وتم غناؤها". ‏

 

ويرى أن هناك صلة وصل تجمع ما بين ألحان التراتيل السريانية والألحان الشعبية وبين القدود والموشحات. من هنا نتعرف على سرّ انتماء بعض الأناشيد الإسلامية في مناسبات دينية إلى جذر موسيقيّ سوريّ سريانيّ. وطبعا هذا أمر لا يمكن الحكم فيه إلا من قبل باحث وعلامة موسيقية مثل نوري اسكندر. وليس بالضرورة معرفته حتى من قبل المنشدين الدينيين. رغم أن بعضهم ممن يمتلك ثقافة موسيقية ومعرفة بتاريخ الغناء وتطوره يدرك أن أناشيده الدينية إنما هي خلاصة نهائية لموسيقى مرت بمراحل مختلفة ومطبوعة بثقافات وأفكار متباينة. وتلك هي قوانين الحضارة والتطور حيث تلعب فيها التراكمات واللقاءات المتجاورة دورا واعيا أو لا واعيا.

اسكندر: الموسيقى لغة الجسور بين الشعوب والأديان

ففي معابد أي دين ثمة رغبة في حوار الإنسان روحيا عبر الإيقاع مع خالقه ومع المكان الذي يتبعد فيه هذا الخالق. وفي لحظة ارتفاع الروح بموسيقاها لم يعد يهتم المؤمن من أين جاءته هذه الموسيقى وما دينها. فهي ليس لها دين! وهذا ما نستنبطه من جوهر العمل الجبار الذي يقوم به ملفونو نوري اسكندر. فهو يؤكد مباشرة أو من غير مباشرة على وحدة الفكر البشري في علاقته بالله من خلال أن الموسيقى قادرة على إزالة الحواجز بين الأديان. لهذا نفهم العمق الفلسفي للموسيقى الصوفية التي لم تعد تبالي بقوانين التحريم والتحليل للفنون. بل طارت بعيدا عن الهويات المنغلقة وصارت شكلا من أشكال وحدة الوجود. يقول اسكندر في حوار من حواراته الصحفية:

"في المسيحية، خفّ الاهتمام بالموسيقا قليلاً وبقيت ضمن جدران الكنيسة ألحان تخلق الأجواء الروحية التي تساعد المؤمنين في العبادة وشكلت وألفت ألحان كثيرة ضمن الطقوس.. أما في الإسلام فكانت الموسيقا تعاني حظاً أقل من السابق نظراً لبعض الآراء للأئمة التي حرّمت الموسيقا وبعض الآراء الأخرى التي سمحت، ولكن الموسيقا بقيت أيضا في الإسلام حاملاً للمعاني المقدسة ضمن التراتيل وضمن الآيات القرآنية من خلال التجويد القرآني".


من مؤلفات نوري اسكندر المطبوعة

بيت كازو، الألحان السريانية الرهاوية، عن دار ماردين، حلب، في 746 صف

بيت كازو، الألحان السريانية بالنوطة، عن دار ماردين، حلب، في 592 صفحة

من أعماله الموسيقية:

«كونشرتو التشيللو» مع أوركسترا الحُجرة، و«حوار المحبة» عام 1995، و«الآهات» 2003، و«يا واهب الحب»، و«مدخل إلى الصوفية» 2007، موسيقى للمسرحية اليونانية «باخوسيات Bacches»، اليوناني يوريبيدس

كما أصدر ألبومين (رؤية Vision) و(تجليّات Revelations)

وكان من قبل قد ألّف موسيقى تصويرية لأفلام سينمائية ومسلسلات. شارك ويشارك في عشرات المهرجانات والنشاطات الموسيقية في أنحاء العالم.

يعيش منذ سنة 2013 في السويد حيث يكمل دراساته وأعماله مؤكدا في كل مناسبة وظرف على ضرورة وعي الهوية بطرائق حوارية وبشتى الوسائل ومنها الموسيقى.

   المصدر: تلفزيون سوريا

الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).