كيف أصبحت الراحة وحرية الحركة عنوانين للأناقة في فرنسا منذ نحو قرن من الزمن، وحتى اليوم. فيفيان سونغ تستكشف تأثير كوكو شانيل في عالم الموضة ومسيرتها اللافتة.

يعترف عالم الموضة لغابرييل شانيل بالفضل في كونها المصممة التي صنعت شعبية البنطال، وجعلته قطعة لا غنى عنها في خزائن ملابس النساء، علاوة على مساهمتها في تحريرهن من استبداد المشدات (الكورسيهات). فبدلاً من سجن أجساد النساء بتصميمات خانقة وقاسية وفائضة عن المطلوب، أعطت شانيل الأولوية في تصميماتها لحرية الحركة والانسيابية والراحة.

لقد حطمت قواعد اللباس المعروفة باستعارة عناصر من أزياء الرجال، مثل الجيوب وقماش التويد، وألغت التحديد الصارم لمحيط الخصر والصدر. وكما يحصل دائما مع الرواد الذين لا يعترفون بالسائد، أربك تحدي شانيل للأعراف السائدة في المجتمع في وقت مبكر من حياتها المهنية البعض، في حين كان مصدر إلهام لآخرين.

ومن السهل أن نفهم لماذا يعتبر البعض كوكو شانيل إحدى أيقونات الحركة النسوية. لكن معرضا مخصصا للمصممة الشهيرة في" باليه غالييرا" في باريس (المتحف مغلق حاليا، لكن يمكن مشاهدة المعرض عبر موقعه على الإنترنت) لم يصل إلى حد وصف غابرييل، المعروفة باسم كوكو، بالناشطة النسوية.

وبينما تتكرر كلمات مثل "أنوثة" و"أنثوية" في وصف إبداعاتها، لم يرد ذكر كلمة "نسوية" على الإطلاق في أي مكان من المعرض الذي يحتل مساحة تبلغ 16,145 قدما مربعا.

وتقول ميرين أرزالوز، مديرة المتحف والمنسقة المشاركة لمعرض "غابرييل شانيل: بيان الموضة"، إن هذا كان اختيارا متعمدا. وبالطبع، قبل قرن من الزمن، عندما كانت كوكو شانيل في ذروة تأثيرها، لم تكن كلمة النسوية معروفة على نطاق واسع.

وقالت أرزلوز لبي بي سي إن كوكو شانيل "لم تستخدم في حديثها هذه المصطلحات أبدا". وأضافت: "لكن الواضح حقا هو أنها جعلت النساء مركز إبداعاتها. لقد كرست حياتها لتخيل طريقة جديدة يمكن بها للنساء أن يعشن الموضة".

وبعد إغلاق "باليه غالييرا" لمدة عامين وإخضاعه لعملية توسيع، أصبحت مساحة العرض بعدها ضعف ما كانت عليه سابقا، وكان من المفترض أن تكون إعادة افتتاح المتحف حدثا كبيرا حاشدا ويقام بالتزامن مع انطلاق أسبوع الموضة في باريس في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2020. وروج للمعرض بشكل واسع باعتباره أول معرض على الإطلاق في العاصمة الفرنسية لمسيرة شانيل المهنية الغنية.

وفي حين أن حياة مصممة الأزياء الراقية الأسطورية، من طفولتها الصعبة كفتاة فقيرة ويتيمة إلى سلسلة عشاقها الأثرياء، إلى الادعاء بأنها كانت جاسوسة للمخابرات الألمانية، جرى تصويرها بالتفصيل في أفلام وكتب وأفلام وثائقية منذ وفاتها عام 1971، فوفقا لأرزالوز، فإن عملها ومساهمتها في الموضة النسائية لم يفهما بكامل أبعادهما تماما حتى اليوم.

وتقول أرزالوز: "المشكلة في مقاربة أسطورة مثل شانيل، هي أن هناك أكثر من مئة سيرة شخصية لها، وهي غالبا تتمحور حول حياتها الخاصة". وتضيف: "كنا نعتقد أننا نعرفها. لكن ما أدركناه هو أن معرفتنا بعملها سطحية جدا. وكمنسقين للمعرض، أعدنا اكتشاف شانيل".

ولو أخذنا بذلة التويد الشهيرة كمثال، فلا يزال هذا التصميم المكون من قطعتين والذي يمكن على الفور القول إنه بصمة شانيل المميزة، عنصرا أساسيا في خزانة الملابس الفاخرة للمرأة العصرية بعد نحو 70 عاما من تقديمه للعالم أول مرة، كما أن العلامات التجارية الرائجة لا تكف حتى اليوم عن تقليده في إصدارات رخيصة السعر.

لكن بالإضافة إلى جمالها وأناقتها، هناك أسباب محددة تجعل هذه البدلة النسائية (تايور) من كلاسيكيات الموضة الدائمة. وقد ترتديها النساء ويعجبن بها من دون أن يعين تماما ما سبب ذلك، لكن السر يكمن في التفاصيل، فقد صُممت السترة لتكون لينة وخفيفة بحيث تشعر مرتديتها وكأنها سترة صوفية بأزرار أكثر منها سترة رسمية مبطنة. أما التنورة، فبدلاً من الحزام الضيق على الخصر، فقد صممت لتستقر بشكل مريح فوق الفخذين وتأخذ الانحناء المناسب في الخلف ثم تصل إلى ما تحت الركبة بقليل، وهي تفاصيل توفر لمن ترتديها الراحة وحرية الحركة.

وبالمثل، يعتبر حذاء شانيل الشهير مع مقدمته المدببة بلونين وحزامه الخلفي الممسك بالقدم بمثابة "الجمع المثالي بين تلبية الحاجة وأناقة الشكل". كما أن كل التفاصيل مصممة بدقة وعناية، وقد اختير اللون البيج للحذاء الجلدي لإضفاء مظهر أطول للساق، واللون الأسود للقسم الأمامي من مقدمته لأنه أكثر تحملا من البيج الحساس، وهو في الوقت نفسه يجعل القدم تبدو أصغر. وكذلك الارتفاع المعتدل للكعب والحزام لضمان أقصى قدر من الراحة.

كما أن الفستان الأسود البسيط، والذي يعرف أيضاً بـ"الفستان الأسود الصغير"، الذي ظهر على غلاف مجلة "فوغ" الأمريكية عام 1926، أصبح عنصرا لا غنى عنه في الموضة النسائية المعاصرة، وهو لا يزال كذلك بعد مرور نحو قرن على تصميمه. وقال خبراء الموضة في المجلة حينها، وكانوا على حق، إن الفستان الأسود البسيط متعدد الاستخدامات سيصبح في عالم الأزياء المكافئ لسيارة "فورد موديل تي" من حيث ضخامة الإنتاج، وكلاسيكية التصميم، وسعة الانتشار، وإمكانية الشراء والجاذبية العالمية.

لكن في حين أن تأثير كوكو شانيل الجليّ في رسم مسار جديد للموضة النسائية أمر لا يحتمل الشك، تحذر إيميلي هامين، المؤرخة المختصة بالموضة والأستاذة في "المعهد الفرنسي للموضة في باريس"، من المبالغة في منح أي مصمم واحد، سواء شانيل أوغيرها، الكثير من الفضل. وتقول: "في الأساطير التجارية للموضة، نميل إلى ربط مصمم واحد بنقطة تحول قوية جدا في التاريخ".

وتضيف "لكن ما أحاول دائما التأكيد عليه لطلابي هو أن الموضة تجعل التغييرات (الاجتماعية) مرئية، كما تساهم في إحداث التغيير، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن التغيرات بدأت معها فعلا، فغالبا ما ترغب العلامات التجارية أن تجعلنا نصدق بأن مصمما بعينه قد حرر النساء. لكن في الواقع، كانوا مجرد مصممين، وربما كانوا أذكياء للغاية في التقاط أشياء غير ملموسة، وتسريع حركة التغيير".

وبعبارة أخرى، تشير هامين إلى أن مصممي الأزياء، بل وأكثرهم ريادة، لم يأتوا بحركات تغيير جديدة فعلا، وإنما هم ببساطة يعرفون كيف يستغلون الوعي الاجتماعي في زمنهم.


سنوات الجنون

وبالفعل، فإن النظر إلى بدايات مسيرة شانيل المهنية يضعها ضمن سياق ما يطلق عليه في فرنسا اسم "سنوات الجنون"، أو "العشرينيات الصاخبة" في أمريكا، في إشارة إلى عشرينيات القرن الماضي التي شهدت ثراء فنيا وثقافيا وازدهارا اقتصاديا أعقب الحرب العالمية الأولى.

وفي هذه الفترة ظهرت النساء اللواتي أطلق عليهن اسم "ليه غارسون" في فرنسا، وعرفن في الولايات المتحدة بـ "المتحررات"، وعبرن عن استقلالهن وحريتهن، التي حصلن عليها حديثا، بقص شعورهن والرقص طوال الليل على موسيقى الجاز الأمريكية المستوردة حديثا حينها، وبالشرب والتدخين، والانخراط في علاقات جنسية حرة.

وقد استجابت شانيل لمزاج ذلك العقد، وبدأت تصمم الملابس لنساء مثل لي ميلر، التي كانت- قبل أن تصبح مصورة صحفية ومراسلة حربية- عارضة أزياء أمريكية شابة جميلة ومستقلة، وسرعان ما أصبحت إحدى فتيات صور الإعلانات لإطلالات "الغارسون" من تصاميم شانيل في عالم الأزياء الراقية.

واقتداء بالمصمم الفرنسي الشهير بول بواريه، الذي ألغى المشدات (الكورسيهات) في تصميماته للملابس النسائية، قامت شانيل بالخطوة ذاتها، وصممت ملابس "للمرأة العاملة والمستقلة". واستخدمت قماش الجورسيه الرخيص السعر والذي كان يستخدم تقليديا في صنع الملابس الداخلية الرجالية، في خياطة فساتين رقيقة بقصات انسيابية واسعة. وبدلاً من إبراز الشكل الأنثوي بخصر ضيق ومشدات قاسية، ألغت ذلك تماما في تصميمها فساتين من دون أكمام، تنسدل على الجسم بحرية وبأطوال أقصر تسمح للمرأة بالراحة في الحركة والرقص.

تقول أرزالوز إن ذلك كان المبدأ العام الذي سيهيمن على أعمال شانيل طيلة حياتها، وتضيف: "لم يكن مفهوم الراحة، والسهولة، وحرية الحركة معروفا في عالم الموضة حتى ذلك الحين، وخاصة في عالم الأزياء الراقية الذي صنعت (شانيل) مكانتها فيه". وعندما اجتاح كريستيان ديور عالم الموضة عام 1947مع مجموعته "نيو لووك"، والتي أعاد فيها حضور الخصر الضيق والكورسيهات والتنانير الفضفاضة الثقيلة والبلوزات الضيقة ذات الصدور البارزة المبطنة، ردت شانيل، التي كان عمرها حينها 71 عاما، بالعودة إلى الأضواء مع تصاميم جديدة. وقد انتقدت حينها تصاميم ديور، الذي أصبح منافسها، بجملتها الشهيرة: "ديور لا يُلبس النساء، إنه ينجّدهن".

ولم تحظ بدلة التويد، التي كانت أبرز قطع المجموعة التي سجلت عودة شانيل، سوى باستقبال فاتر في أحسن الأحوال. ولم تكن التصميمات جديدة ومبتكرة بما يكفي بالنسبة لصحافة الأزياء الباريسية لكي تهتم بها، وتعرضت شانيل لانتقادات اعتبرت أنها "تجمدت" في الماضي.

لكن المصممة العبقرية كانت تعرف جمهورها جيدا. وها هو (التايور) المصنوع من قماش التويد بعد مرور نحو 70 عاما، لا يزال قطعة كلاسيكية دائمة الحضور في الملابس النسائية، وهو بمثابة صورة لا تمحى لمصممة الأزياء الراقية نفسها، والتي دأبت على ارتداء تصميماتها، وكانت سفيرة لعلامتها التجارية الخاصة. إنها مصممة صاحبة تأثير حقيقي أصيل، كما يمكن القول.

وتقول أرزالوز: "إنها المرأة التي أنشأت شركتها الخاصة في أوائل القرن العشرين، وكانت سيدة أعمال فائقة النجاح. لم تتزوج قط، وناضلت للحصول على حريتها اقتصاديا".

وتضيف: "ربما لم تدعُ نفسها نسوية، لكنها قدمت مساهمات هائلة لتاريخ نضال النساء في القرن العشرين".

المصدر: بي بي سي


الكاتب

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).