بقلم: سمير حدّاد ([1]) ترجمة: خالد حسين

بَرَزَ مفهومُ الصَّداقةِ في أعمالِ دريدا وذلكَ في أواخر ثمانينيَّاتِ القرنِ العشرين، مؤدّياً]دوره [ بوصفهِ نقطةَ ولوجٍ إلى تحليلاتهِ للديمقراطيةِ والسّياسةِ. وبصورةٍ عامةٍ، يمتحنُ دريدا الطرائقَ التي ترتبطُ فيها نظرياتُ الصَّداقةِ بتلكَ النَّظرياتِ السّياسيةِ عبر انتمائها إلى الإرثِ الفلسفيِّ الغربيِّ، و(فيه) يستنطقُ نقدياً النَّسَقَ الذي وَفْقَهُ تُنَاشِدُ كِلْتَا (الجهتينِ السَّابقتينِ) أفكارَ الإخاء. إنَّ هذه المنازع، كما يُلمِّحُ دريدا، تؤدّي إلى تعزيز إِقْصَاءِ النِّساء، وتَخْتَزِلُ بشكلٍ لافتٍ الإمكانيةَ التَّحرُّريةَ في هذه النَّظرياتِ. وفي الاستجابةِ لهذا الإرث، يتساءلُ دريدا ما إذا كانَ من الممكنِ أنَّ يتصوَّرَ المرءُ نماذجَ مِنَ الصَّداقةِ والانتماءِ السياسيِّ، ولاسيّما الانتماء السياسي الذي يفتقد الصِّلةَ بالوديّة. لا يُجيبُ دريدا على هذا التَّساؤلِ، كما أنَّ موضوعةَ الصَّداقةَ سرعانَ ما تتلاشى في كِتَابَاتهِ، الأمرُ الذي يُوْمِىءُ إلى أنَّهُ قد قرَّرَ بأنَّ المفهومَ كان كذلك مُرتبطاً ويإحكامٍ إلى تاريخِهِ الذُّكوريِّ حتى يَصْعُبَ استثمارُهُ في التَّفكير الدِّيمقراطيِّ بطريقةٍ أخرى.

يُعدُّ كتابُ "سياسات الصّداقة Politics of Friendship" الكتابَ الأساسيَّ لدريدا عن الصَّداقةِ، وهو العملُ المتطوِّرُ الذي تَضَافرَ عن حلقةٍ دراسية (1988ـــ 89) بالاسمِ ذاتِهِ ونُشرَ في عام 1994. والكتاب يؤرِّخُ للمرحلةِ التي ركّزَ فيها دريدا بشكلٍ مباشرٍ على الموضوعاتِ السّياسيةِ والأخلاقيةِ، رفقةَ مطبوعاتٍ أخرى وثيقة الصِّلةِ بتلكَ الفترةِ مثل "قوة القانونForce of Law، أطياف ماركس Specters of Marxوهبة الموتThe Gift of Death". ويمتازُ كتابُ ــ سياسات الصّداقة ــ بكونه عملاً معقّداً ومتعدّدَ الأوجه، إذ يَتَضَمَنُ قراءاتٍ لطيفٍ واسعٍ من الشّخصياتِ في الإرث الفلسفي الغربي، مشتملاً على أفلاطون، أرسطو، شيشرون، مونتين، كانط، نيتشه، شميت، هايدغر وبلانشو. إنَّ الخيط الإرشادي لهذا النَّصِّ يتمثَّلُ بعبارةٍ اقتبسَهَا ميشيل دي مونتين([2]) من كتاب ديوجينيس لائرتيوس([3]) : حياة مشاهير الفلاسفة:"يا أصدقائي، ليس ثمة صديق". وهذا التَّصريح الذي يُعزى إلى أرسطو لا يَظْهَرُ في أيٍّ من أعمالهِ([4])، وقد استشهدَ به تقريباً مُعْظَمُ المؤلِّفين الذين يقرؤهم دريدا، جامعاً معاً الإرثِ الخاصِّ بالكتابةِ عن الصَّداقةِ التي يَسْتَكْشِفُهَا دريدا. إنّهُ تصريحٌ متناقضٌ، وكذلك رمزٌ للطريقةِ التي تُفْهَمُ بها الصَّداقةُ في هذا الإرث. وَتَبْعَاً لرأي دريدا فإنَّ مفهومَ الصَّداقةِ متناقضٌ، وإنَّ تناقضاته لايمكنُ حَلُّهَا. وفي علمِ المُصطلح الدريدي، فالصَّداقةُ مُسْتحيلةٌ ـــ من حيثُ إنَّها تتكىءُ على مصطلحاتٍ متعارضةٍ تظلُّ في حالةٍ من التوتُّر الحتميِّ

ويجادلُ دريدا بأنَّ ثمّةَ العديدَ من الشُّكوكِ ([5])aporias في مفهومِ الصَّداقةِ، وأبرزُهَا يَكْمُنُ في العَلاقَةِ بين نموذجَينِ يتكرّران باستمرار. الأوّلُ هو النَّموذجُ الإغريقيُّ ــ الرُّومانيُّ، حيثُ يبدو محكوماً بقيمةِ المعاملةِ بالمثلِ، والانسجام المتماثل، والجوهريِّ، والمنتهي ــ وبخاصةٍ الاتفاق السياسيِّ"([6]). وفكرةُ الصَّداقةِ هذه تَتَّبِعُ منطقَ التماثل والجوار، إذ يتشابَهُ الأصدقاءُ، كلٌّ مع الآخر في كثيرٍ من العواملِ المشتركةِ. النمَّوذجُ الثانيّ هو نقيضٌ للأول، قائمٌ على "التَّبايُن، والتَّعالي، واللاتجانس واللامحدودية، نوعٌ مسيحيُّ من المنطق"([7]). وبدلاً من متابعةِ قانونِ الشيءِ ذاتهِ والقواسمِ المشتركةِ، فالأصدقاءُ تَبْعاً لهذا النمَّوذجِ مختلفونَ كلٌّ عن الآخر، ويتشاركون في قليلٍ (أو في عدمٍ) من القواسم المشتركة، إذ تَفْصِلُهُم المسافةُ.

في "سياسات الصَّداقة"يرى دريدا بأنَّ النمَّوذجَ الأوّل يُسيطرُ على التَّقليد (الفلسفيّ)، إذ يعملُ بمزيدٍ من القوةِ لدى أَرسطو، شيشرون، مونتين، وكانط. أما حضورُ النمَّوذج الثَّاني فيكونُ خافتاً، إذا يقرأُ دريدا تعبيرَهُ الأَنْصَعَ لدى نيتشه وبلانشو. ومع ذلك، فهذا التَّقسيمُ بين النمَّوذجين ليسَ أمراً نقياً: فالصّداقةُ بوصفها حالةً حَيْرَى aporeticينبغي أن تشتملَ في الوقت ذاتهِ على الحالتين كلتيهما. ويوضّحُ دريدا هذا من خلالِ سلسلةٍ من القراءاتِ الأساسيّةِ. وهو لا يكشفُ عن حالةٍ مستقلةٍ تتكرَّرُ على نحو متماثلٍ، لكنَّهُ يحدِّدُ نمطاً مُتَكَرِرَاً، حيثُ كلُّ مؤلِّفٍ، على الرّغم من نزوعهِ إلى تعزيز أحدِ النمَّوذجينِ، فإنه ينتهي إلى الاعتمادِ على مَظَاهِرِ الجانبِ الآخرِ في لحظاتٍ حاسمةٍ، محدّدةٍ. ومن ثَمَّ فإنَّ المؤلِّفين يَدْلُونَ بالشَّهادةِ عن الحالاتِ المحيّرةِ للصَّداقةِ، إذ يظَلُّ الجميعُ عالقينَ في التَّناقضِ بين التَّمَاثُلِ والاختلافِ.

وبما إنّني لا أَسْتَطِيْعُ مناقشةَ قراءاتِ دريدا كافةً وبشكلٍ كافٍ، فسوفَ أعرضُ لتلك القراءة النموذجية إلى حدِّ ما، أي الخاصّة بمونتين. إن الجزءَ الأكبرَ لهذهِ القراءةِ يظهرُ في مقبوسٍ طويلٍ بعد أنْ يُشيرَ دريدا إلى المفهومِ الأرسطيِّ للصّداقة، بكونه "روحاً واحدةً في جَسَدَيْ توأمٍ". ينجذبُ مونتين إلى هذا التَّعْريفِ أثناء مناقشةِ ما يكونُ مشتركاً بين صديقين: "كلُّ شيءٍ مشتركٌ لكليهما: الإرادةُ، الخيراتُ، الزوجاتُ، الأطفالُ، الكرامةُ، الحيواتُ، هذا التَّطابقُ يَكْمُنُ في تلكَ الرُّوحِ الواحدةِ في جَسَدَيْ توأمٍ، وتبعاً لهذا التَّعريفِ الأكثر تلاؤماً لتحديدِ أرسطو، فلا يمُكِنُ لأَحَدِهَمَا أن يُعيرَ أو يمَنْحَ أيِّ شيءٍ لآخر(غريب)([8]). وهذا التَّوصيفُ يَنْسَجِمُ مع النَّموذجِ المهمينِ في الإرثِ الفلسفيِّ، المرتكزِ على القواسم المشتركة والتماثل، حيثُ كلُّ شيءٍ مشتركٌ بين هكذا صديقين، ومع ذلكَ فإنَّ طمأنينةَ هذا النمَّوذج سرعانَ ما تتشوّش. وبالنّظر إلى الزّعمِ بأنَّ لاشيءَ يُمكنُ أنْ يُمنَحَ؛ فإنَّ مونتين يُعدِّلُ من تصريحهِ ويؤكّدُ بأنَّ المنحَ/ العَطاء ممكنٌ، وإنْ يَكُنْ في نَمَطٍ مَعْكُوسٍ: "وبخصوصِ صِنْفِ الصَّداقةِ الذي أتحدّثُ عنه، إذا كان ممكناً لأحدهما أن يمنحَ الآخر، فذاكَ الذي تلّقى الإحسانَ هو الذي يفرضُ الواجبَ على صديقهِ. فكلٌّ منهما، وأكثر من أيِّ شيءٍ آخر، يَسْعَى إلى خيرِ الآخر، حتَّى أنَّ ذاكَ الذي يُوفِّرُ الوسائلَ والفرصةَ يكون أكثر سخاءً، طالما يمنحُ لصديقهِ بهجةَ أن يؤدّي له المزيد في ما يرغبُ به([9]). وفي الصَّداقةِ المثاليةِ، فأكثر ما يَسْعَى إليه كلُّ صَدِيقٍ أن يعملَ الخيرَ للآخر، أنْ يَهَبَهُ. وفي التَّلقي يسمحُ الصديقُ للآخر أن يؤدّيَ هذا الخير، فتلقيّ الهبةِ، من ثَمَّ، يكونُ الهبةَ الأعظمَ التي يُمْكِنُ للصَّديقِ أن يَمْنَحَهَا.

إنَّ دريدا يَنْتَزِعُ نتيجتين من هذه الملاحظاتِ. الأولى، تُشيرُ إلى تحليلاتهِ الخاصّةِ بالهبةِ، فهو يجادلُ بأنَّ توصيفَ مونتين للهبةِ/ العَطيّةِ يَعْرِضُ اللاتجانس والاختلاف في فَهْمِ الصَّداقةِ. وحالما أنَّ المستلمَ هو الذي يَمْنَحُ، فإنَّ مُزايدةً مغاليةً تبدأُ في الحركةِ، حيثُ كلُّ صديقٍ يحاولُ أن يتفوّقَ على الآخر في إعطاء المزيد من الفرص للصديق ليمنحَها من خلال الاستلام. هذا "الانقلابُ غيرُ المتكافىء للتباين" يعطّلُ المقياسَ المشتركَ، والمعاملةَ بالمثلِ المحسوبةَ، والمساواةَ التي تميّزُ الصَّداقة. والثانية، إنَّ دريدا يؤكّدُ على آثار العُزلةِ التي تترتّبُ عن تقرير مونتين بشكلٍ أكثر عموميةً. هذا التَّوصِيْفُ لـ"روحٍ واحدةٍ في جسدين" يحدُّ من الصّداقةَ لاثنينِ قريبينِ وغير قابلينِ للانفصال. وبتعبير مونتين " كلُّ امرىءٍ يَهَبُ ذاته كلياً لِصَديقِهِ، إذا لا يتركُ شيئاً للتَّشاركِ مع آخر"([10]) والمرءُ يمكن أن يكونَ لديه صديقٌ مثاليٌّ، يمنحُ كلَّ شيءٍ لذلك الصَّديق، الأمرُ الذي يبالغُ من ندرةِ الصَّداقاتِ العظيمةِ التي قد تحدّث عنها مونتين: "إنه بالفعل حدثٌ إذا تمكّن الحظُّ من إنجازه مرةً واحدةً في ثلاثةِ قرون"([11]). ويرى دريدا أنَّ هذا التفرُّدَ يَعْرِضُ زَوْجَاً غَامِضَاً آخرَ في توصيفِ مونتين للصَّداقةِ المثاليّةِ، التي تنطوي على علاقةٍ مزدوجةٍ بالسياسة وغيرها. ومن جهةٍ أولى، فإنَّ الطبيعةَ الاستثنائيةَ لمثلِ هذهِ الصَّداقةِ تعني بأنَّهُ "لايمكن لمشروعٍ سياسيٍّ أن يتكهّنَ بها، ويحدّدَها، أو يُبرمجها". فالصَّديقان " غيرُ متجانسين مع القوانين السياسية"، فوق القانون، وغير السياسية كذلك"([12]) . ومن جهةٍ أُخرى، يناقشُ دريدا بأنَّ تجاهلَ السياسةِ لم يتحقّق كاملاً في نصِّ مونتين، في حين يجري التأكيدُ على خصوصيةِ مثل هذه الصَّداقاتِ، لكونها تبقى صاغرةً للقانونِ السياسيِّ من جانبٍ واحدٍ. وبالنَّظر إلى الصَّداقةِ المثاليةِ لمونتين، وعلى الرُّغم من تفرُّدِهَا، فيجبُ أن تكونَ على وفاقٍ مع الفضيلةِ المحكومةِ بالعقلِ، ويجادل دريدا بأنَّ "العقلَ والفضيلةَ لا يمكن لهما البتة أن يكونا في عزلةٍ(خصوصية). إذ لا يمكنُ للحدّين الولوج في صراعٍ في المجال العام... وفي مثل هذا التقليد(الفلسفي)، فالعقل الفاضلُ والفضيلةُ العقلانية لايمكنهما أن يكونا في تجانسٍ جوهريٍّ مع العقل الأفضل للدولة الذي لا يمكن تخيُّله"([13]) والأصدقاءُ المثاليونَ لمونتين مواطنونَ نموذجيونَ، وصداقاتُهُم مُبَرْمَجَةٌ إلى درجةٍ عاليةٍ ومحددةٌ بمنطقِ القانونِ السَّياسيِّ.

وهكذا من ادّعاءِ نموذجِ الصَّداقةِ المهيمنِ، القائم على التجانس والتمَّاثُل، يقدّمُ مونتين عناصرَ من النمَّوذج الآخر، المرتكزِ على اللاتجانس والاختلاف. وبذلك فإنّهُ ينزعُ إلى النمَّوذجين كليهما، في آنٍ واحدٍ، على الرُّغم من تناقضِهِمَا. ومع ذلك، ثمّةَ في نصَّ مونتين مَنْطِقَانِ two logics ليسا في توازنٍ مثاليٍّ، حيثُ كلٌّ منهما متورِّطٌ على حدٍّ سواء. ويرى دريدا بأنَّ ثمةَ خيطاً آخرَ للتماثُلِ الضَّاربِ خَلْفَ مَشْرُوع مونتين بأكمله، وهو الالتزامُ بالتَّناقضِ في الوقتِ نَفْسِهِ. وهذا الأمرُ يتشكّلُ بوساطةِ مناشداتِ مونتين المتناغمة للإخاء. ومن خلال التوتراتِ والصُّدوعِ في هذه النظرية للصَّداقةِ، يتبقَّى ثابتٌ واحدٌ ــ وهو أنَ الأصدقاءَ كافةً رجالٌ. ومن هنا فإنَّ الصَّداقةَ المثاليةَ تبدو مستحيلةً بين الرَّجُلِ والمرأة، وبين النَّساءِ أنْفُسَهُنْ. وهذا ما يحمل مونتين بالرُّغم من التغاير وعدم التناسق أن يعتمد عليها، لأنه في الوقت الذي يبتعدُ الأصدقاءُ فيه بَعْضُهُم عن بَعْضٍ وفي الحقيقة عن القانون، فإنَّ هذهِ المسافةَ ليست بالكبيرةِ جداً حتى يَحْدُثَ تجاوزَ الانقسامِ بين الجنسين. وهنا يكتب دريدا: "أنَّ الذي يَكْفُلُ الوساطةَ والرَّابطةَ...ذلك الذي يتعلّق كذلك بإقصاءِ المرأة ــ إذا كان فقط في هيئةٍ أو بذريعة (ليس بعدُ) ـــ هو الأَخُ، و، على وجه الدِّقَةِ، الاسمُ، الاسمُ "الأخ" واسمُ الأخِ"([14]). إلى ذلك فـ ] الاسم[ مونتين ذاته يحيل إلى اسم "الأخ".

لماذا يصرُّ دريدا على الاسم؟ بدايةً؛ لأنَّ مونتين يُصرِّحُ بأنَّ " اسم الأخ هو حقاً عادلٌ ومفعمٌ بالحبِّ: ولهذا السبب فـ دي لابويسيه La Boétie([15]) وأنا شيّدنا أخوّةً لتحالفنا" .([16])وهو، على هذا النحو، يلجأ إلى الاسم "أخ"، لِيَقْبِضَ على قيمةِ صَدَاقَتِهِمَا. لكنْ، وبالإضافة إلى ذلكَ، فإنَّ اسمَ دي لابويسيه يظهرُ في لحظتين رئيسيتن من تقرير مونتين. الأولى، تظهرُ في سياقِ وراثتِهِ لأوراقِ صديقهِ، ولاسيما عمله: خطاب عن العبودية الطوعية([17])، الذي كان مُعدَّاً كمقدمةٍ "عن الصَّداقة"، هنا يكتب مونتين: "لاأزالُ بشكلٍّ خاصٍّ مَدِيْناً لتلك المقالةِ، لأنها أولاً جمعتنا معاً: فقد كانتْ معروضةً لي منذُ وقتٍ طويلٍ قبل أن ألتقيَ به فجعلتني عارفاً باسمه أولاً ومن ثمَّ الاستعداد لتلك الصَّداقةِ ـــ المحبَّبة بيننا التي طالما أرضتِ الله فعزَّزناها على نحوٍ مثاليٍّ وكليٍّ"([18]). ومونتين عَرَفَ صديقَهُ أولاً من خِلالِ اسْمِهِ، الاسمِ المختومِ على العَمِلِ الذي شكّلتْ قراءَتُهُ لقاءَهَما الأوَّل. وثانياً، يعودُ مونتين إلى المعرفةِ الأوليةِ للأسْمِاءِ لحظةَ البَحْثِ عنْ تفسيرٍ لقوّةِ صَدَاقَتِهَمَا: "وَسَعَيْنَا أَحَدُنَا إلى الآخر قَبلَ وُقُوعِ نَظَرِ أحدِنَا على الآخر ــ كلانا بِسببٍ من التقارير التي كلٌّ منّا قد سَمِعَهَا، إذا جَعَلَتِ الاعتداءَ أكثرَ عُنْفَاً عَلَى مَشَاعِرِنَا ممَّا كانَ مَعْقُوْلَاً عَمَّا قد قَالُوهُ، وأعتقدُ، وبِعِلّةٍ من قَضَاءِ السَّماءِ: تَعَانَقْنَا كلٌّ منا للآخر من خلال الشُّهرة (شهرة الاسم)"([19]). وقبل التقاءِ الصَّديقينِ كلٌّ منهما قد سمعَ عن الآخَر ــ كلٌّ كان قد احتازَ اسمَ الشُّهرة.

وحينما يصفُها مونتين، يصفُ الصَّداقةَ، في تعبيرها الأسمى، يكون قد أطّرَهَا بأسماء متوارثة وأسماء الشُّهرة، وهذا التأطير يربطُهَا إلى الأخوّة وإقصاء النِّساء. وفيما يتعلّقُ بالتقليد (الفلسفيّ) الذي يَضطجِعُ فيه مونتين، فهذه الأسماء تخصُّ الرجالَ حيث إنَّ أسماءَ النسّاء نادراً ما يجري تَنَاقُلُهَا وقلّما تكونُ مشهورةً وهي لا تحوزُ إلا على حيّزٍ صغيرٍ في هذا المشْروعِ: " إزاء صُنفين من هذا التأطير (ميراثِ الاسم والسُّمعةِ الاجتماعية) فإنَّ هذا التَّاريخَ لايَدَعُ إلا فرصةً أقلَّ للمرأةِ والبنتِ والأُختِ، ونحن لا نقول بتلاشي الفرصةِ ولكن بندرتها"([20]) (وبهذهِ الطريقةِ فإنَّ الاسمَ يقيّدُ الصَّداقةَ بالإخوّةِ(الذكورية)، ومن السَّهل (هنا) التّحوّلُ إلى الاستبعادِ المتعمّدِ من قبل مونتين للنَّساء: "... النِّساءُ لِسْنَ في الحقيقةِ كفؤاتٍ للاستجابةِ لمثلِ هذه الألفةِ والثِّقةِ المتبادلةِ كتعزيزٍ لرابطةِ الصَّداقةِ المقدّسةِ، ولا تبدو أنَّ أرواحهنَّ راسخةٌ بما يكفي لتحمُّلِ تَشَابُكِ وِثَاقٍ ملفوفٍ بإحكامٍ ومتانةٍ للغايةِ... وليس ثمّة مثالٌ بَعْدُ لمرأةٍ بلغتَ هذا الشأوَ، وباتفاقٍ عامٍّ للمَدَراسِ الفَلسَفيّةِ القديمةِ فقد جَرَى استبعادُهًا من هذهِ (الرَّابطة)"([21]).

وبكلامٍ أدقّ فإنَّ النساءَ يمكن لَهُنَّ أنْ يَكُنَّ صديقاتٍ، بعضُهنَّ مع بعضٍ، ومع الرّجال. ولكن يتجلَّى بأنَّ الرَّواياتِ الكنسيةَ كمثلِ روايةِ مونتين، وتلكَ التي يَسْتَشْهدُ بها، ليستْ كذلكَ. وفي البدايةِ فإنَّ الإقصاءَ يبدو نتيجةً للفرصةِ، ولكنَّ هذه الفرصةَ سرعانَ ما يُعادُ تفسيرُهَا بوصفها ضرورةً.

وهكذا ومن خلالِ الاتكاءِ المستمرِ على الأخوّةِ، وإنْ كانَ أحياناً متنكراً، فإنَّ مونتين يردُّ خطابَهُ إلى اقتصادٍ مماثلٍ. وبهذه الطريقةِ فإنَّ الاحتمالاتِ التي يقدّمها لُغْزُ (aporia) الصَّداقةِ هي على نحوٍ لافتٍ مغلقةٌ ــ حتى حينَ يَعْرِضُ مونتين عَنَاصرَ من اللانسجام والتَّغاير، وهو بذلك يظلُّ مقيَّداً باسم الأخ، مما يعني أنَّ النساءَ لن يجري قبولُهنَّ داخلَ إطارِ الصّداقةِ المثاليةِ. ومثلُ هذا النمَّوذجِ يعزّزُ إقصاءَ المرأةِ، لأنهنَّ لا يَسْتَطِعْنَ الوصولَ إلى وضعيةِ المواطنين النمَّوذجيين، وهذا النَّمطُ هو الذي يستكشِفُهُ دريدا من خلالِ الإرثِ الفلسفيِّ. وتبعاً لأرسطو فإنَّ صداقاتِ الفضيلة ينبغي أن تكمنَ بين الأندادِ، لكنَّ ثمَّةَ عدمَ تجانسٍ في إدعائه بأنه أفضلُ أن يحبَّ المرءُ من أن يكونَ محبوباً (وأرسطو كذلك يتصوّرُ العلاقة اللُّغزية بين الصَّداقةِ والسِّياسةِ، إذا يجادلُ بأنَّ الصَّداقةَ ضروريةٌ في الدولة ـــ المدينة (Polis)([22]) وأنَّ الصَّداقةَ الأسمى تكمنُ في الإنصاف. وحتى الآن في خضمِّ هذه التَّعقيداتِ وبشكلٍ مماثلٍ يستبعدُ أرسطو النِّساء، مقيِّداً علاقتهنَّ بالرِّجالِ داخلَ صداقاتِ المنفعةِ. وكانط بدورهِ يتفاوضُ بِمَنْطِقيْ التماثُلِ والاختلافِ، مُتجنِّباً الالتحامَ الخطيرَ للحبِّ بتعزيز التباعد من خلال الاحترام. ولكنه ينهجُ نحو الأخوّة، باستعمال "الأخ" كرمزٍ لصديقِ الإنسانية. ويُعلنُ ميشيليه([23]) أنَّ "الأخوّةَ هي القانون المتجاوز للقانون". وفي الوقت ذاتِهِ يَعُدُّهُ أساساً للمساواةِ والديمقراطيةِ، ولكنه كذلك يزعمُ أنَّ النساءَ لِسْنَ أخوياتٍ بما فيه الكفاية.

إنَّ هؤلاء المؤلِّفين] الذين جرى ذكرُهم بدايةً [ينطلقونَ جميعاً من نموذجِ التماثُّل، وربما مؤلِّف قد يبدأُ بدلاً من ذلكَ بفكرةِ الاختلاف. وهذا هو المسارُ المتّبعُ في الضفةِ الثانيةِ (النموذج الثاني) في التقليد الفلسفيِّ المقْرُوءِ في سياسات الصّداقة. إذ إنه يبدأُ بقلبِ نيتشه للعبارة الأرسطية:

ربما سوف تنبثقُ اللحظةُ الأكثر بهجةً لكلٍّ منا عندما نصرخُ:

أيُّها الأصدقاءُ، ليسَ ثمَّة أصدقاءُ، هكذا قال الحكيمُ المحتضرُ؛

أيُّها الأعداءُ، ليسَ ثمة أعداءُ، أقولُ أنا، المغَفَّل الحيُّ.

وبتحليلِ هذه الملاحظاتِ وغيرها في كتاب "إنسانيٌّ؛ مفرطٌ في إنسانيته"([24]) إلى جانبِ فَلاسِفَةِ المستقبلِ المحدّدين في كتاب " ماوراء الخير والشَّر"([25]) فإنَّ دريدا يعبّرُ عن وجهةَ نظرٍ للصَّداقةِ تتأسَّسُ على العُزَلةِ والتَّباعُدِ والاختلافِ. وهؤلاءِ الأصدقاءُ لا يشتركونَ في شيءٍ على العمومِ، إذ ينفصلونُ بعضُهم عن بعضٍ من خلالِ الفضاءِ والزَّمن والمسافةِ التي لايمكنُ جَسْرُهَا. وهذا النَّموذجُ، يقترحُ دريدا، كامنٌ في مصدرِ النَّظرياتِ اللاحقةِ للمجتمعِ لدَى باتاي وبلانشو ونانسي([26])، وهو كذلك يَراه في إدراك السّياسة لدى شميت([27]). وبوضوحٍ؛ فإنَّ دريدا لديهِ بعضَ التعاطفِ مع المقاربةِ النِّيتْشَويةِ، فهو يتبنَّى بشكلٍ خاصٍّ مفردة "ربما" التي اُسْتُهِلَّ بها المقبوسُ أعلاه، مجادلاً بأنها تشكّلُ تحدياً قوياً لحالتي الاستقرارِ والدَّوامِ المفترضتين في النموذج الإغريقي ــ الرُّوماني. تفتحُ ربَّمَا النمَّوذجَ النيتشويِّ على الفرصةِ والمخاطرةِ، الأمرُ الذي يزيدُ من احتماليةِ الانفصالِ عن التَّقليدِ الفَلسَفِيِّ دونِ التأكُّدِ من هذا الانفصال. وهكذا فـ"رُبَّمَا" تفتحُ الصَّداقةَ على تجربةِ الحَدَثِ، كما يُدْرِكُهَا دريدا ــ بكونها تَتَعَالَى عَلَى كُلِّ الحِسَاباتِ والتَّنَبُؤاتِ.

ولكنْ حتَّى معَ هذا الوَعدِ المُعطى، فإنَّ دريدا يجادلُ بأنَّ أولئكَ الذين يَسْعَوْنَ إلى النموذجَ النيتشويِّ لايزالونَ يُحيلونه إلى المنطقِ ذاتهِ عبرَ توجيهِ مناشداتِهِمْ الخَاصّةِ للإخوّة. ومن ثمَّ، فإنَّ نيتشه على الرُّغمِ من محاولتهِ استئصالِ القواسمَ المشتركةَ في الصّداقةِ، فإنه يُبقي اسم الأخ في انقلاب زرادشت على القيم المسيحية. وشميت يجعلُ العدوَّ مركزَ تفكيره السياسيَّ، لكنه يتحدَّثُ عن العدو المطلق عبر الإحالةِ إلى مَفْهُومِ الأَخِ. أمّا بلانشو فيدفعُ بالصَّداقةِ إلى أبعد مسافةٍ تتجاوز أولئك الذين سبقوه. ولكنه لايزال يستبقي أيضاً مفهومَ الأَخِ في توصيفِ العَلاقاتِ مع الآخر. وبرهةَ مقاومةِ التقليد الفلسفيِّ، فإنَّ فلاسفةَ الاختلافِ يَظَلُّوْنَ مُحَاصَرِينَ في أپوريا (لغز) الصَّداقةِ، حيثُ العودةُ إلى الاقتصادِ نفسهِ من خلالِ رَمْزِ الأخِ. ولا أَحَدَ منهم يقطعُ مع هذه الهيمنة، ومن ثمَّ يفكّرُ بالصَّداقةِ عَبْرَ الاختلاف الجنسيِّ. إنَّ النقطةَ المحدودةَ للتقليدِ الفَلسَفِيِّ هي غايةُ دريدا، حينما يَسْعَى إلى تَجَاوُزِ الأخوّةِ بوصفِهَا مَجَازَاً منظَّمَاً للصَّداقةِ. مثلما يَسْأْلُ في نهايةِ هذا الكتاب:

هل من المحتملِ التَّفكير في الديمقراطيةِ وتطبيقها، بحيث تحافظُ على الاسم القديمِ "الديمقراطية"، مع اجتثاث كلِّ رموزِ الصّداقةِ (الفَلسَفيّة والدينيّة) منها، تلكَ التي تَصِفُ الأخوّةَ: العائلةِ والمجموعةِ العرقيةِ المتمركزةِ حول الذكورةِ؟ هل من المحتمل، بافتراضِ ذاكرةِ مخلصةٍ للعقلِ الديمقراطيِّ والعقل باختصار ـــ أَودُّ حتَّى أَنْ أقولَ، التَّنويرُ لثقافةٍ مُعَينةٍ (ومن ثمَّ تَرْكُ هاويةٍ مفتوحةٍ تَنْفَتِحُ ثانيةً اليومَ تحت هذه الكلمات) ـــ]أَودُّ حتَّى أَنْ أقولَ [ ليس للتأسيس، إذ إنَّ المسألة لا تتعلقُ بالتأسيس، ولكن بالانفتاح على المستقبل، أو بالأَحْرَى، على "قَدومِ"، ديمقراطيةٍ محدّدةٍ؟"([28]).

لا يُجيبُ دريدا على هذهِ الأَسْئِلةِ، ولا يقدّمُ نظريتَهُ الخاصّةَ عن الصَّداقةِ أو الانتماءِ الديمقراطيِّ الذي من شأنهِ أن يقطعَ مع الرُّموز المألوفة. وأقربُ ما قد بَلَغَهُ ليؤدّيه هو ابتهالاتٌ عابرةٌ للتَّحابِّ "lovence [aimance]"([29]) في النَّصِّ. وهو يقترحُ هذا المصطلح lovence لتسميةِ ما يتجاوز كليهما الحبَّ والصَّداقةَ المفهومين تقليدياً، حيثُ الإشارةُ إلى كونهِ دعوةً بسيطةً للصَّداقةِ، دعوةٌ لتكونَ مَسْمُوْعَةً في العَمَلِ وَفي كلِّ خَطابٍ للآخر. ربما، دريدا يشيرُ، بأنّه يمكنُ للمرءِ أَنْ يفكّرَ في السّياسَاتِ على نحوٍ كليٍّ وبطريقةٍ مماثلةٍ تتأسّسُ على هكذا فكرةٍ، بعيداً عن الرُّموز المحدّدةِ كلِّها الكائنةِ في هذا التقليدِ (الفلسفيِّ). كما أنَّه يجادل بشكلٍ جوهريِّ ضدَّ استخدام (المصطلح) لتأسيس سياساتٍ جديدةٍ، والقيام بذلك، يؤكّدُ دريدا، سوف تكونُ محاولةً لكسبِ اليقين والاطمئنان، ومن ثَمَّ نسفُ الفرصةِ المفتوحة عن طريق الاحتمال(ربما). وعلاوةً على ذلك، يتساءلُ دريدا ما إذا كان ثمّةَ على الدَّوام دعوةٌ بسيطةٌ مثلَ هذه في العمل: " لا يمكننا، لا يجبُ علينا، وذلك بإقصاءِ حقيقةِ شخصٍ عندما يتحدّثُ، سراً أو علناً... فإنَّ بعضَ القوّةِ لديه أو لديها تسعى ألا تكون مفهومةً، أو مُسْتَحْسَنةَ، أو مَقْبُولةً بالإجماع"([30]). هذه الإمكانيةُ للإخفاق لهي ضروريّةٌ ومستحيلةُ التَّجَنُّبِ، إذ إنَّ تصريحاً ما "يمكنه دائماً أن ينقلبَ إلى نقيضهِ". و"بدون إمكانية الشّرِّ الأصلي، والحنث باليمن، والإجرام المطلق، ليس ثمة مسؤولية، ولا حرية ولا قرار" ([31]). هكذا، وفي حينِ يتحدَّثُ دريدا أحياناً باستحسانٍ عن التَّحَابِّ، إذا يرى فيه الإمكانيةَ لسياسات الآخر تماماً، لكنَّهُ يحجم عن مطاردته إلى أبعد حدٍّ، لأمرين على حدٍّ سواء: الإخلاص للاحتمال perhaps)) وبعلّةٍ من الإنذار الحتميّ الذي يكتمه.

في الواقع، حين يُجْرِى فحصُ كتاباتِ دريدا بعد سياسات الصَّداقة، يجد المرءُ تحولاً واضحاً وبعيداً عن لغةِ الصَّدَاقةِ. إذ لا يخضعها بالمطلق للتأملِ الدقيقِ ثانيةً، ولا يواصلُ التفكيرَ العميقَ فيها بطريقةٍ مختلفةٍ. وبدلاً من ذلك، فإنّهُ يغيّرُ في مفرداتهِ، مركّزاً على مُصْطَلَحَاتٍ أُخْرَى لتشبيكِ الموضوعاتِ السّياسيّةِ وقضاياها، وممارسةِ الضَّغْطِ عَلَى حُدُودِ التّقليدِ الفلسفيِّ. وهكذا في نهايات التّسعينياتِ استنطقَ دريدا (مفهوم) الضَّيافةِ لإيقاظِ مسألةِ الشُّمول السّياسيِّ ثانيةً، باستثمارِ تركيزٍ خاصٍّ على حقوقِ المهاجرين وعديمي الجنسيّةِ.([32]) وباتّباع مسارٍ مغايرٍ، فإنَّ حلقاتِه الدراسيّة الأخيرة لـ 2001ـــ 2003 استنطقت مفهوم السِّيادةِ عن طريقِ الحيوان([33]). ويركّزُ كتاب(المارقون) Rogues لـ2003 بشكلٍ مباشرٍ على الدِّيمقراطيةِ، مُسْتَكْشِفَاً المعْنَى والإمكانياتِ في عبَارةِ "الدّيمقراطية القادمة". وحتّى عندما يواصلُ دريدا بصراحةٍ تحليلاتِهِ المبكّرة في هذا الكِتَابِ الأَخيرِ، مُسْتَنْطِقَاً على نحوٍ مطوّلٍ استعمال نانسي للأخوّةِ، مُكَرِّراً مقاومتَهُ الخاصّة للاستعمال السّياسيِّ للمُصْطَلح؛ فليسَ ثمَّةَ ذكرٌ للصِّداقةِ([34]).

وهذا يومىءُ بأنَّ دريدا، واستناداً إلى النَّتَائجِ المتمخضةِ عن بحثهِ، قد قرّرَ أنَّ الصَّداقةَ كانتْ أقلَّ مَنْفِعَةً في مَطاردةٍ مستمرةٍ لإنجازِ مَقَاصِدِهِ الفَلسفيَةِ والسّياسيَةِ. نظراً لأنه سوف يرتبطُ مع تاريخه الإقصائي، والمهيمَن عليه أيضاً عبر الفَهْمِ الذُّكوريِّ، إذا يَصْعُبُ حَشْدُهُ في خِطَابٍ تحَرُّريٍّ. ومع ذلك، وعلى الرُّغم من وجوده الوجيز نوعاً ما فإنَّ مفهومَ الصّداقة يَظَلُّ المصطلحُ ــ المفتاحُ في عملهِ الأكثر تفصيلاً واستمراراً في الفلسفةِ السَّياسيّة. وهكذا فإنَّه يؤدّي دوراً لافتاً في الطَّور الأخيرِ من تفكيرِ دريدا، الطَّورِ المنقادِ من خلالِ الانخراطِ في السَّياسةِ.


([1]) ــ سمير حداد أستاذ مساعد في الفلسفة بجامعة فوردهام، وهو مؤلِّف كتاب: دريدا ووراثة الديمقراطية (مطبعة جامعة إنديانا ، 2013). والبحث فصل بعنوان (الصداقة) ضمن كتاب:

(acques Derrida Key Concepts) Edited by Claire Colebrook, Routledge, First published 2015.

([2]) ــــ ميشيل دي مونتين بالفرنسية: Michel de Montaigne)‏ (28 فبراير 1533-13 سبتمبر 1592) أحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرًا في عصر النهضة الفرنسي، رائد المقالة الحديثة في أوروبا. وكان يقلد اليونانيين والكلاسيكيين في عادتهم في رصف الحكم والأمثال في ثوب مسجوع، وتأثر كثيراً بكتابات أرسطو، ولكنه تفرّد بأسلوبه المرسل، وظهرت شخصيته بوضوح. ويكبيديا/ الشبكة الالكترونية.

([3]) ــــ ثمة اختلاف حول كتابة اسم الفيلسوف على مايذكر د. إمام عبد الفتاح إمام. والشائع في العربية (ديوجينيس لائرتيوس) نسبة إلى مدينة (لائرتي) في كيليكيا...ينظر بالتفصيل: ديوجينيس اللائرتي: حياة مشاهير الفلاسفة (مج1)، ترجمة وتقديم: إمام عبد الفتاح إمام، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة)، ط1، 2006، مقدمة المترجم ص9 وما بعدها.

([4]) ــــ جاء في كتاب (حياة مشاهير من الفلاسفة)، ديوجينيس لائرتيوس المرجع المذكور آنفاً، مايلي:" ويخبرنا فابورينوس في الجزء الثاني من كتابه: " الذكريات من أقوال أرسطو المألوفة مايلي: " إنَّ ذلك الذي يحظى (بعددٍ كبيرٍ من) الأصدقاء ليس له صديق" ولقد وُجدَ هذا القول المأثور كذلك في الجزء السابع من كتاب الأخلاق" ص 386.

([5]) ــــ aporia " مصطلح أغريقي يشير إلى تناقضٍ منطقي، وقد استعمله دريدا للإشارة إلى مايدعوه مراراً وتكراراً بـ"النقاط العمياء" في الحجة الميتافيزيقية"، ينظر:

Lucy, Niall.2004. A Derrida Dictionary. Oxford: Blackwell, p 1.

والمصطلح ينطوي على دلالات غير محسومة ولذلك فقد جرت ترجمته باللغز والتشكُّك (ولاسيما في البلاغة) والحيرة...إلخ فهو أشبه بمسطحٍ مخترقاً بالتناقضات.

([6]) ــــ Derrida, J. 1997. Politics of Friendship. G. Collins (trans.). London: Verso. P 290.

([7])ـــ Ibid. p 291.

([8]) ـــMontaigne, M. 1991. “On Affectionate Relationships.” in The Complete Essays.

M. A. Screech (trans.). London: Allen Lane, Penguin Press, P. 215.

([9]) ـــ Ibid, p 214.

([10]) ـــ Ibid, p 214.

([11]) ـــ Ibid, p 207.

([12]) ـــ Derrida, J. 1997. Politics of Friendship. G. Collins (trans.). London: Verso, P 182.


([13]) ـــ Ibid, P. 184.

([14]) ـــ Ibid, p.291.

([15]) ـــ إيتيان دي لابويسيه (Étienne de La Boétie) (1530ـــ 1563) ‏ كاتب وقاضي فرنسي وموجد النظرية الفوضوية، ومؤسّس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، "ذُكر بأنه أعظم صديق وثيق لكاتب المقالات البارز ميشيل دي مونتين، في واحدة من أبرز الصَّداقات في التاريخ" ويكبيديا/ الشبكة الالكترونية.ا

([16]) ــــ Montaigne, M. 1991. “On Affectionate Relationships.” in The Complete Essays.

M. A. Screech (trans.). London: Allen Lane, Penguin Press, P. 208.

([17])- The Discourse on Voluntary Servitude:

تُرجم إلى العربية في ترجمتين الأولى بعنوان: مقالة العبودية الطوعية: إيتيان دو لابوسي، ترجمة: مراد كاسوحة، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2008. والثانية بـ (العبودية المختارة)، ترجمة: صالح الأشمر، بيروت: دار الساقي، ط1، 2016.

([18]) ـــ Montaigne, M. 1991. “On Affectionate Relationships.” in The Complete Essays.

M. A. Screech (trans.). London: Allen Lane, Penguin Press, P. 207.

([19]) ـــ Ibid, p. 212.

([20]) ــ Derrida, J. 1997. Politics of Friendship. G. Collins (trans.). London: Verso, P. 292- 93.

([21]) ــــ Montaigne, M. 1991. “On Affectionate Relationships.” in The Complete Essays.

M. A. Screech (trans.). London: Allen Lane, Penguin Press, P. 210.

([22]) ــ Polis تعني حرفياً) المدينة) في اليونان، ويمكنها أيضاً أن تعني جسد المواطن. وفي علم التأريخ الحديث، مصطلح "بوليس" يستخدم عادة في تحديد مناطق اليونان القديمة (List of ancient Greek cities)، مثل أثينا الكلاسيكية، وتتُرجم عادة بــ "الدولة ــ المدينة"، هذه المُدن تتكوّن من مركز مدينةٍ محصنٍ مبنيٍّ على أكروبوليس أو هضبة أو مرفأ ويتحكمّ بالمناطق المحيطة بها خوراKhôra .πόλεις، ويكبيديا/ الشبكة الالكترونية.

([23]) ـــ جول ميشليه، مؤرخ فرنسي شهير (1798 - 1874) ومؤلف الكتاب الشهير" تاريخ الثورة الفرنسية" (1847).

([24]) ـــ تولَّى المترجم علي مصباح ترجمة أعمال نيتشه من الألمانية مباشرة ومن بينها هذا الكتاب في جزئين، وقد صدر عن دار الجمل: بيروت ــ بغداد، ط1 2014. كما جرت ترجمته عن اللغة الفرنسية من قبل محمد الناجي وصدر في جزئين عن أفريقيا الشرق، ط1، 2001، 2002.

([25]) ـــ وللكتاب ترجمات متعددة في العربيةـ وعلى سبيل المثال ترجمته عن الألمانية: جيزيلا فالور حجّار، مراجعة: موسى وهبة، وقد صدر الكتاب عن دار الفارابي، ط1، 2003.

([26]) ـــ جورج باتاي وموريس بلانشو غنيان عن التعريف أما نانسي فهو جان-لوك نانسي بالفرنسية: Jean-Luc Nancy‏ هو فيلسوف فرنسي، ولد في 26 يوليو 1940 في بوردو في فرنسا

([27]) ـــ كارل شميت بالألمانية: Carl Schmitt (ولد 11 يوليو 1888 - توفي 7 أبريل 1985) أحد أهم المفكرين الألمان وأكثرهم إشكالية في القرن العشرين. لكن ذلك لا يعني أن فلسفة وفكر هذا "العقل الخطر"، وفقاً لوصف جان ويرنر أستاذ الفكر الأوروبي في جامعة أكسفورد قد طواها النسيان، فشبحه مازال يلقي بظلاله على الفكر والسياسة الدولية، لأنه يعد من أكبر نقاد الفلسفة الليبرالية في القرن الماضي ومن أهم المفكرين الذين ناقشوا إشكاليات السياسة والدستور ومعضلة الحريات العامة، كما شمل تأثيره اليمين واليسار الأوروبي على حدّ سواء. ويكبييديا/ الشبكة الالكترونية.

([28]) ـــ Derrida, J. 1997. Politics of Friendship. G. Collins (trans.). London: Verso, P. 306.

([29]) ـــ التَّحابُّ واسم الفاعل مُتَحابُّ والصيغة النحوية للفعل منه (تحَابَّ= تَفَاعَلَ) تفيد المشاركة والمطاوعة والتبادل: امتازت علاقتهما بالتَّحابِّ: حبّ أحدهما الآخر.

[30]- Derrida, J. 1997. Politics of Friendship. G. Collins (trans.). London: Verso, P. 218.

([31]) ــــ Ibid, P. 219.

([32])Derrida, J. and Dufourmantelle, A. 2000. Of Hospitality. R. Bowlby (trans.). Stanford, CA: Stanford University Press. ـ and Derrida, J. 2002b. “Force of Law: The ‘Mystical Foundation of Authority.’” M. Quaintance (trans.), in Acts of Religion. G. Anidjar (ed.). London and New York: Routledge, pp. 230–98.

([33])- Derrida, J. ـــ 2009. The Beast & the Sovereign, Vol. I, G. Bennington (trans.). Chicago: University of Chicago Press. And 2011a. The Beast & the Sovereign, Vol. II, G. Bennington (trans.). Chicago: University of Chicago Press.

([34]) ـــ2005a. Rogues. P.-A. Brault and M. Naas (trans.). Stanford: Stanford University Press, p. 42- 62.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية