لنتأمل خطابَ الشَّاعر:

ربما ليس بجديد القول: إنَّ منذر مصري يتقصَّد، لإنجاز نصه، البحث عنٍ لغةٍ تسكن المسافةَ الممتدة بين اللُّغة التداولية ولغة الكتابة الشِّعرية بأعرافِهَا وسُنَنِهَا وتقاليدِهَا المترسِّخة في الخبرة بالنَّوع الشعريِّ؛ لغة ــ الشَّاعر تعمل بوحي من إمضاءٍ خاصٍ من حيث انحرافها عن كلتا اللغتين؛ فليست بهذه ولا تلك؛ ولذلك نلحظ أنَّ هذهِ اللُّـغةَ التي تتحرَّك بين اللغتين تؤسس جمالياتِهَا بالحدِّ من رغوة البلاغة وزبدها، بل وأحياناً العمل على تعطيلها؛ لتسيطر جمالياتُ التَّجاور(أي العلاقات الفضائية) بدلاً من جَماليات البلاغة القائمة على التماهي بين المكوِّنات والعناصر، وهذا لا يعني البتة أن الشَّاعر ينجح في التَّعطيل الكامل لعمل (أوالتملُّص من) الآليات البلاغية؛ فهذا من الأمور المستحيلة؛ ذلك أنَّ اللغة ذاتها هي فضاء استعاري تنوب كائناتها عن العَالم وأشيائه؛ ولذلك فالتوجُّه نحو اليوميِّ والمألوف والبسيط قد فرض على الشَّاعر اختلاق استراتيجية في الكتابة الشعرية تقوم على تجنُّب الإزاحة و الانحراف والعدول على الصعيد اللغوي إلى الاتكاء على مفهوم التَّجاور([1]) بين الأشياء والوقائع والأحداث، أي البحث عن شعريةٍ تناهض شعريةَ الانصهار والوحدة إلى الاحتفاء بعلاقات التشظي واللاتناغم وشعرنتها.

إنَّ إستراتيجية الكتابة الشِّعرية لدى منذر مصري تكشف عن رفض مسكوت عنه في ثنايا أسلوبيته لطقوس الكتابة الشعرية عربياً، تلك المترسبة في أوعية الشعراء بما تنطوي عليه من عادات وصيغ تكبح من تسلل حرارة اليومي إلى فضاء القصيدة؛ ولهذا يمكن توصيف الكتابة الشِّعرية عند الشَّاعر على أنَّها رفضُ الكتابة الشعرية بصورتها الارستقراطية، السليلة النبيلة للمؤسسة الشِّعرية ومن ثَمَّ الانحراف عنها إلى كتابةٍ تحاول الانفلات من قيود المؤسسة والاحتفاء بالمرئيِّ واليوميِّ، حيث التقاطعُ والتناصُّ يكون مع الأشياء والصَّمت والتفاصيل الصغيرة لا مع النُّصوص، فالأدب لا يبدأ إلا بإذن من إرادة التخطي، تخطي المكرَّس والبحث عن عتبة جديدة لإقلاق استقرار العالم واللغة والنوع الأدبي كافة.

ولذا؛ فإنَّ اختيار الشَّاعر لهذه الاستراتيجية في الكتابة الشَّعرية يأتي كنوع من الرفض، رفض استراتيجيات الكتابة السَّائدة في المؤسسة الشِّعريـّة حيث الحدود التي تشرعن للكتابة طقوسها وحركتها؛ لذلك؛ فالكتابة بالمعنى الحقيقي لا تبدأ إلا حين يضع الشُّعراء امضاءات جديدة، ويبحثون عن دروبهم في الغابة السَّوداء، غابة اللُّغة:

 «حطِّمَ الميزان

 وطلِّقَ القافية

 وقال:( عليَّ أن أعود عاشقاً 

 عليَّ أن أكون هـــواء)

 قال: (وداعاً للطُرُقِ المعبَّدة 

 وداعاً لإشارات المرور

 عليَّ أن أتخذ دربي عبر الغابة

 عليَّ أن أكونَ/ شقياً)»([2]) .

لنعاين هذه القصيدة، قصيدة «الشَّقي» ونتأملها؛ لأنَّ التأمُّل هو الذي يقودنا إلى الهسيس المخفيِّ والمُضمر الذي يعتمل في كلمات القصيدة، فالشَّاعر منذ مجموعته الأولى:«آمال شاقة» ومن خلال هذه القصيدة وعبرها يُحدِّد ماهيةَ ممارسته الشِّعرية، وهي ممارسة تستند في الواقع إلى الحرية في الكتابة، ومحاولة «شَــقِّ» دربٍ خاصة في كثافة الغابة، فالشقُّ يبوح بدلالاتِ: البَدُوِّ والظهورِ والصَّدعِ والفلقِ،مفارقةِ الجماعة، والتمرد عليها ومخالفتها، وهذا لا يكون إلا بالجهد والمشقَّة. ومن هنا فإنْ تشقَّ دربكَ فهذا يومىء بكلِّ بساطةٍ إلى أن تختار لكينونتك الشِّعرية دربَ الاختلاف والمباينة، ولهذا لا بدَّ من توديع الموازين والطرق المعبدة وإشارات المرور ومعانقة الهواء الذي لا يعرف الاستقرار والشكل الثابت، لا بدَّ من تقمص العشق؛ لأنَّ العشق نديمُ الشِّعر الحقيقي الذي لا يكرِّر ما سبقه من التجارب؛ فهو يتعالى على المحاكاة والتكرار إلى ما يفاجىء السائد والمستقر؛ ولهذا لاينبجس الشِّعرُ الحقيقيُّ إلا بالعودة إلى الحبِّ والعَالم؛ فلكي يكون المرء شاعراً، عاشقاً، هواءً عليه إزاحة ما يثبَّط طاقته على الإبانة والإنارة، فما هو مخفيٌّ ومستترٌ لا ينكشف إلا بالشَّقاوة ضد المؤسسة الشِّعرية، ومن ثم فالشاعر ذلك الشقيُّ أي المتمرد، وليس ذاك البائس المثخن بالعطالة إذا ما استسلمنا للمعنى المعجمي للشقي: الشقي هو الشَّاعر، وهو الانفساح لتموضع العالم جمالياً.

بيد أنَّ ما يمنح الخطابَ الشِّعريَّ لـ«منذر مصري» اختلافَهُ وتباينَهُ عن كثيرٍ من الخطابات الشِّعريّة الرَّاهنة والمتزامنة مع تجربة الشَّاعر، فضلاً عن السَّابقة عليها، وبمنأى عن اتخاذ هذا الخطاب الصِّيغة النثرية مسكناً لـه، أقول ما يمنحه هو قوَّة هذه التَّجربة الشِّعريــّة على سَمْطَقَة اليوميِّ؛ بمعنى إخراج اليوميِّ من حياديته وانقضائه عبر تشفيره وتفخيخه بالمعنى؛ ليغدو كائناً شعرياً قابلاً للقراءة والتأويل، هكذا يتقدَّم كلٌّ من اليوميِّ والبسيطِ والاعتياديِّ والمرئيِّ في تجربة منذر مصري ليغدو على النقيض مما هو؛ ذلك أنَّ انتقال الأشياء من فضائها «الزـ مكاني» إلى الفضاء الشِّعريِّ كفيلٌ باحتيازها على كينونة مغايرة عما كانت عليه، هنا يكشف الخطابُ عن علاقة غير اعتيادية بين الشَّاعر والعالم، بين الشَّاعر والأشياء، ذلك أنَّ الشاعر يكون في هذه الحال قريباً من العَالم وفي جوار الأشياء، يمارس الإنصات لها والإصغاء إليها، ومن هنا تأتي خصوصية هذه التَّجربة؛ لأنها تفسح للعالم، بأشيائه وتفاصيله أن يتكلم وينادي وينوجد، وهذا ما يقتضي منا محاولة الكشف عن تضاريس اليومي وجغرافية المرئي؛ فلنكن في جوار قصيدة الشاعر، وننصت لهسيسها، أولنصغِ ثم ندشِّن الحوار مع القصيدة:

«طويلاً أقمتُ في هذا البيت

 طويلاً مَكثتُ في هذه الغرفة

 على هذا المقعد

فوق هذا السرير

تحت هذا السقف.

 طويلاً أقمتُ في هذا البيـت

طويلاً مَكثتُ في هذه الغرفة

 عند هذه النافذة

 وراء هذا الباب

 بين هذه الجدران.

 وعندما حزمتُ حقيبتي

 وخرجتُ

 ما أن أدرت ظهري

 حتَّى سمعتُ

 جداراً

 ينادي اسمي..»([3]. 

لو اكتفينا بالتَّحليل البنيوي للنَّصِّ؛ فإن التَّوصيف لن يتجاوزَ استكناه الدورَ الوظيفيَّ للتكرار في بنية القصيدة، ومن ثم الانتقال إلى رصد النَّسق المعجمي، والتوقف عند خاتمة القصيدة من حيث تفجير الشِّحنة الشِّعرية من خلال تلغيم الشِّاعر لمفردة «الجدار» بالاستعارة، وهذا كلُّ ما يترتَّب عن القراءة المغلقة وينتج منها. بيد أن الأمر يتجاوز ذلك إذا ما أنصتنا إلى الكلمات، إلى ما تقوله القصيدة، وما تبوح به؛ ولهذا يتفوَّق التَّحليل الأنطولوجي هنا، إذ يمنح الفرصة لكي تتكلَّم الكلماتُ: فالكلامُ الشِّعريُّ هو الذي يوفِّر الفضاء لكي يتقدَّم «البيتُ» إلينا، يدفع به إلى فضاء الإنارة؛ حيث تتكلَّف «اللُّغة» بإنوجاد هذا «البيت» الذي يسكنه «الشَّاعر» وإضاءته؛ فالسكن والإقامة لا يكون/ لا تكون إلا في اللغة وبها، فشرط السَّكن أن تكون ثمة «لغة» يقيم فيها الكائن ــ الإنسان؛ فالشيء يبقى في طيِّ المجهول إلى أن تأتي اللغة، فيغدو الشيء برسم النُّور، أي أنه يحوز على إمكانية أن يكون شيئاً، بيتاً، مكاناً للإقامة والسَّكن، حيث يغادر «البيت» وجوده الحياديِّ إلى وجوده الشعريِّ، ولذلك فـ«البيت» بهذه الانتقالة والتحول يتشفَّر ويتسمطق ويمتلك المعنى، فـ«الشعر هو الذي يحوِّل الإقامة إلى سكن حقيقي»[4] على حدِّ قول هيدغر، شرط أن نتجاوز المفهوم التقليدي للإقامة؛ لأنَّ الإقامة شعرياً في المكان أمر يكمن في اللغة ذاتها، اللُّغة بما تمنح الإنسان طاقة الانفتاح والاشتراع والتسمية.

إنَّ الإقامةَ والمُكْثَ هما شرطا أن يكونَ البيتُ «بيتاً»، إذ بهما يُصبح البيتُ امتداداً للسَّاكن والسَّاكن امتداداً للبيت، هنا يغدو «البيتُ» الحارس الذي يحمي السَّاكن من الاندلاق والتيه، وما ينفكُّ الساكنُ تلك الفجوةَ، الفسحةَ التي ينبثق منها المكان ــ البيت؛ ولذلك يبدأ الاستقرار واتخاذ المكان موطناً بالإقامة والمكوث فيه؛ لأنَّ من نتائج الاستقرار في المكان تأسيس الأُلفة والأُنس، ولهذا نلمس الترابط في العربية بين علامتي: المُقام(موضع الإقامة) والمَقام(المجلس والجماعة من النَّاس)، فلا أُلفة و لا أُنس إلا بالإقامة الطويلة في المكان:

«طويلاً أقمتُ في هذا البيت

طويلاً مَكثتُ في هذه الغرفة»

الأمر الذي يدفع الكائن إلى الوجود الشَّاعريِّ أي حين ينسج علاقاتِ التعايش مع «الآخر» الذي يحاذيه ويجاوره، كما لو أنَّ التعايش ضربٌ من الوجود المزيف دون الآخر(الناس)؛ فلا وجودَ شاعريٍّ دون الإقامة الطويلة، التي هي مَكْثٌ في المكان، بيد أن المكوثَ يتجاوز دلالةَ الإقامةِ في المكان إلى دلالات الأناة واللَّبث والانتظار؛ فأن تَمْكُثَ في المكان ــ البيت هو أن تُقيم وتنتظر(والمُكْثُ: الإقامة مع الانتظار والتلبُّث في المكان»: ترى ماذا ينتظر الماكثُ/ السَّاكن في البيت؟ بالتأكيد لا ينتظر سوى قرينه، نظيره الآخر، ينتظر ضيفاً يلوح في الأفق؛ لكي يوقظ الأُنس من رقدته؛ ولهذا ينتهي الأمر بـ«الجدار» في نهاية القصيدة بالارتعاب من اعتزام الكائن على المغادرة، وتركه نهباً للوحشة والوحدة، ولهذا يبدأ بالنداء:

ما أن أدرتُ ظهري

 حتَّى سمعتُ

 جداراً

 ينادي اسمي..،

والنداء هو مناداة الساكن/ الآخر بالحضور والاستمرار بالمكوث والإقامة من شدة الألفة التي نمت بين الجدار والسَّاكن، و من ثَمَّ العجز عن معايشة الوحشة بمفارقة الساكن له، فغرفة الشاعر مشمولة بعنايته واهتماهه، لذلك نلفي قوة العلاقة بينهما، وهذه العلاقة الأنطولوجية بين الشاعر والمكان تدفعنا إلى القول: إن غرفة الشَّاعر ليست إلا اللغة ذاتها، فـ«الجدار» الذي يناديه ليس سوى «اللغة» تدعو الشَّاعر إليها، وعليه أن يلبّيَ هذا النداء، لأن في تلبية النَّداء انبثاقَ القصيدة، وعلى الشَّاعر أن يذعنَ لذلك؛ لأنَّ مثول العالم شعرياً مشروط بالثغرة التي تحدثها اللُّغة في الشَّاعر لحظة انبجاس الكلام.

لنمضِ، خطوة أخرى، مع منذر مصري إلى بلاغة المرئيِّ، إلى الأشياء كيف تكتسب أنطولوجيتها شعرياً أو كيف تَتَشَعْرَنُ في بنية القصيدة ؟ وكيف تتبأَّر؛ لتستقطبَ، من ثمَّتَ، عناصر القصيدة الأخرى، وتثير اهتمام المتلقي؛ لنقرأ:

«يمضي الإنسانُ صوبَ النافذة 

 إلى النور

كالذُّباب.»([5]).

لماذا يمضي الإنسان نحو النَّافذة؟ أو لماذا يشبه الإنسانُ الذُّباب في التّهافت على النّافذة؟ من الصعوبة تخيّل بيت دون نوافذ، دون اتصالٍ بالعالم، فالنَّافذة ترمز «إلى الإصغاء إلى رأي خارجي»، من خلال النّافذة يبقى الإنسان على اتصالٍ بالعالم أو بمعنى أكثر دقة النّافذةُ تسمح للكائن ــ الإنسان بالتموضع داخل العالم، تجعله مضاءً بنعمةِ «النُّور»، أيْ في متناول الآخر، ومن ثمَّ يكونُ الإنسان حاضراً في العالم، ولماذا لا نقولُ: «حاضراً في العالم ومع الآخر»، هذه هي الدلالة الأنطولوجية للنّافذة، النّافذةُ تَسْمْحُ بالكلام، فالأمر الذي يدفعُ الإنسان صوب النَّافذة هو رغبة الانغمار بالنُّور، فهي تُتيحُ إمكانية النُّور، الإنارة، أي تَسْمح للشيء والكائن بإمكانية الانفساح والتمظهر ورؤية العالم، أي أن يُرى، وأن يَرى.

وهنا يمكن أنْ نربط الوحشة بالعتمة والأُنس بالنُّور. لكن لنمضِ إلى «النُّور» في القصيدة، فثمة كتلة من الدلالات المضمرة والمخفية على وشك الانفجار: فالنّور ما يكون به الاهتداء والإدراك، الوضوح والإبانة والإضاءة. وإذا كانت الغريزة هي التي تقودُ «الذباب» إلى النّور من خلال النّافذة للرؤية فهي ذات الغريزة التي تقودُ الإنسان إلى ذلك، فما يجمعُ الإنسان والذباب هو رغبة الانغمار بالنُّور، رغبة الانغمار بالوجود، ذلك أنّ النُّور هو الذي يوميءُ إلى فضاء الحرية، وبالتالي تغدو القصيدة الفسحة التي من خلالها يُنارُ العَالم بأشيائهِ، وكائناتِهِ، تُصبح بمنزلةِ النّور الذي يشرقُ ويضيءُ مما يَسْمح بإمكانية أن نُصبح مرئيين بهبة النُّور، ولهذا لا يبتعدُ هيدغر عن الحقيقة بقوله: «الشعر هو القوة الأساسية للإقامة الإنسانية»[6]، لنقرأ تضاريس قوة الشِّعر على تمهيد الأرض للإقامة:

 «على دربِ قدميكِ

 سأفتح نهراً

 وأُوقِفُ أشجاراً

 على دربِ قدميكِ

 سأبيعُ باقات البنفسج

 مجّاناً

 وأعزِفُ على ساعدي لكِ

 مطراً خفيفاً

 يُبلِّلُ شَعْرَكِ 

 ويُلصِقُ قُماشَ ثوبِكِ الرقيق

 على جلدِكِ .......»([7]).

كُلُّ ما في القصيدة يوميءُ إلى اندهاش الشّاعر، اندهاشه بحضور الآخر ـ الأُنثى (قدميكِ، ثوبِكِ، جلدِكِ)، أي احتفاء الكائن بالكائن، والاحتفاء هو في الأصل انفتاح وإبداء وحضور، يتمُ في اللّغة وفي اللّغة، ومن خلال هذا البُدُوِّ والحضور تَحْضُرُ الكائنات الأخرى: نهراً، أشجاراً، باقات، البنفسج، مطراً خفيفاً، ....إلخ، بمعنى أنَّ الشّعر يهيئُ الأرضَ للإقامة، للقاء الذكر بالأُنثى، كما لو أنَّ هذا اللقاء مؤجَّل دون انبثاق القصيدة، هكذا فالشّعر ليس إنشاداً فحسب؛ وإنَّما بناءً يُتيحُ التوطَّن في الأرض، ولذلك فالشِّعر ليس قولاً نافلاً أو وترفاً في القول بقدر ما هو الإبانة أو الثَّغرة التي يتقدّم من خلالها العالم ليعلن حضوره. لكن ماذا لوعدنا إلى القصيدة وتوقفنا عند مفرداتها أو عند «العالم» الذي تؤسّسه، العالم شعرياً، العالم الذي يستحقُّ الإقامة: فالدربُ هو الطريقُ الذي يقودُنا إلى المستقبل، إلى ما لا يأتي بعد، إلى هناك، فالدربُ انتظار، فعلى الدوام ثمة من ينتظر في بداية الطريق أو نهايته، والدربُ لا يكون درباً، طريقاً إلا إذا تأسّس على الانتظار.

إنَّ الشَّاعر يمرئي الدَّرب بالتّأسيس، أي يجعله مكاناً شعرياً، أي مكاناً مضاءً بالكائن ــ الإنسان والنّهر والأشجار وباقات البنفسج والمطر الخفيف. وهكذا يغدو المكان فضاءً للدهشة وفضاءً للانغمار بالأشياء، الفضاء الذي يحتضن العاشقين، لأنَّهُ قد أصبح ملائماً للسكن بالشّعر، ومن هنا يسمي هيدغر الشعراء بأنهم حرَّاس الوجود الذين يمهّدون بالشِّعر لانبجاس العَالـم بكل ألقه:


«أين وجدَّتني ممدداً

 نظيفاً وجافَّاً 

 كان بساطُ

 أروراق الخريف.

قليلاً من النوم يا ساقان

 قليلاً من النسيان يا قلب

 ورقة

 ورقة

 كانت تُدثرني

 أوراق الخريف

نهضتُ ومضيتُ ومضيتُ

 وبقي عالقاً على معطفي

 مالم أستطع نفضهُ قطُّ

من أوراق الخريف»([8].

كما أشرنا فثمَّة ألفة بين الشَّاعر والعَالـم، فحيثما نقرأ النُّصوص الشَّعريـّة لمنذر مصري تنبجس تلك الإشراقات الشِّعرية التي تحيلنا إلى إقامة الشاعر في جوار الأشياء، فالأشياء من خلال هذا الاقتراب أو الجوار ـ الحَدَث تقفز من «الانحجاب» إلى «اللا ـ نحجاب»، من العمتة إلى النُّور، كما لو أنَّ الشاعر مكلَّفٌ بهذا التموضع في جوار الأشياء، لأنه يتكلَّم اللغة، بل إنَّ اللغة تتكلَّمه، واللُّغة بهذا الفعل/ الحَدَثِ إنما تضيء الأشياء، وتقودها بأناة إلى النُّور؛ لكي تنكشَّف وتُسمَّى، فـ«الكلمات لا تتمثَّل الأشياء أو تعبِّر عنها، إنها تؤسس عبور الأشياء إلى العالم، وكلمات الشاعر «لا تعكس» تجربة الشاعر إزاء العالم، بل تخلق عالم الشاعر، وتدشِّن كونه الشعري، وتدش وجود الأشياء»([9]). لنعد إلى قصيدة «أوراق الخريف»، إلى هذا الانسجام بين الشَّاعر والعـَالـم في حَدَثِ «الخريف»، إلى هذه العلاقة الوطيدة بين الكائن و«الزــ مكان»، إذ كان من الممكن أن يمضي هذا المشهد ويختفي ويُهدر لولا اللُّغة التي تدفع الشَّاعر إلى التكلُّم؛ فيحوزُ المشهدَ على حضوره الأثير في فضاءِ اللُّغة، هكذا يغدو الخريف أكثر ألقاً، وأكثر إثارةًً من خلال القصيدة التي تكشف السِّرَّ، سرَّ الطبيعةِ التي لا تكفُّ عن مناداة الإنسان؛ ليشملها بعنايته والمحافظة عليها حتى تستمر في ألقها ورنينها؛ فأيُّ عبث بها من شأنه أن يقود الكينونة/ العالم إلى الاختفاء بدلاً من الإبانة، والاستتار بدلاً من الظهور والحضور. إنَّ الطبيعة من خلال أوراق الخريف تنادي الإنسان، وتدعوه إليها؛ لكي تحضرَ إلى العالم؛ فنادراً ما يثير المشهدُ الطبيعيُّ الكائن ــ الإنسان، ونادراً ما يصغي الأخير إلى نداء الطبيعة في حمأة سقوطه وانشغاله بالاستهلاك والانهمام بالحياة اليومية التي أنسته الوجود في العالم والإقامة بجوار الأشياء:

 قليلاً من النَّوم يا ساقان

 قليلاً من النِّسيان يا قلب

ولهذا لا بُدَّ من الشُّعراء لينصتوا إلى نداءِ الطَّبيعة ويصغوا إليها، فبقدر الالتفات إليها وشمولها بالرِّعاية والحفظ؛ فإنها تمنحُ وتَهَبُ وتُعطي: 

ورقة

ورقة 

 كانت تُدثرني

 أوراق الخريف.

 إنَّ المقطع الأخير يأتي تتويجاً للتناغم الحاصل بين الكائن والكينونة، فكلٌّ منهما مشغوف بالآخر، لأنَّ حضورَهُمَا الحقيقيَّ مرهونٌ بهذا الشَّغف. وهنا يكمن الاختلاف بأسره بين «الكلمة» الشِّعرية و«الكلمة» الفلسفية؛ ففيما تتجه الأخيرة إلى معانقة التجريد والمفهوم والتَّحليق في أفق الميتافيزيقا، تسعى الأولى إلى الانغمار بالعالم، والإصغاء إلى صخب الوجود. وفي الوقت الذي تتعامل فيه الكلمة الفلسفية مع العالم وفق مفهوم التذويت والتمثُّل، فإنَّ الكلمة الشِّعرية تفرُّ بالعالم ليكون حدثاً وانكشافاً وجسداً وكثرةً، يفيض على المفهوم والنَّسق والبنية.


([1]) ـــ ينظر بخصوص هذا المفهوم: كمال أبو ديب: جماليات التجاور، بيروت: دار العلم للملايين، ط1 1997.

([2]) ــ منذر مصري: المجموعات الأربع الأولى، بيروت: أميسا للنشر والتوزيع، ط1، ص40.

([3]) ــ المصدر السابق، ص 491.

[4] ــ مارتن هيدغر: الشعر مسكن الإنسان، ترجمة: عزيز الحاكم، مجلة نزوى، ع(35)، مسقط، 2003، ص168.

([5]) ـــ منذر مصري: المجموعات الأربع الأولى، مصدر مذكور ، ص 487.

[6] ــ مارتن هيدغر: الشعر مسكن الإنسان، مصدر مذكور، ع(35)، مسقط، 2003، ص172.

([7]) ــ منذر مصري: المجموعات الأربع الأولى، مصدر مذكور ، ، ص 299.

([8]) ـــ المصدر السابق، ص 218.

([9]) ـــ محمد الشيكر: هايدغر وسؤال الحداثة، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، ط1، 2006، ص 96.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية