الحكاية كما جرت:

أثناء تواجدي تونس من 17 ولغاية 23 نوفمبر 2021، ضيفاً على معرض الكتاب الدولي، من ضمن ما اقتنيته من كتب؛ روايتان للكاتب الكردي جان دوست، هما "ممر آمن"، و"مخطوط بطرسبورغ". فور عودتي إلى بلجيكا، بدأت بقراءة الرّواية الثانية، بسبب ما في عنوانها من طاقة جاذبة. وكنوع من التّواصل والاستئناس بين الأصدقاء، كنتُ أرسل ملاحظاتي على الرّواية، بين الفينة والأخرى، لبعض الأصدقاء المقرّبين جدًّا، للاطلاع وتبادل الرأي والفائدة المتبادلة. ومن أولئك الأصدقاء المقرّبين، الناقد والباحث، الأستاذ الدكتور، خالد حسين. لاحقًا؛ سجّلت ملاحظاتي وانتقاداتي ضمن دراسة. وإذ أتفاجأ بخبرٍ سارٍ ومفرح، مفاده؛ وصول رواية "مخطوط بطرسبورغ" إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. ورغم الخلاف والقطيعة بيني وبين الكاتب جان دوست، إلاّ أن ذلك، لم يمنعني من اقتناء كتبه من المعرض، وقراءتها والكتابة عنها. كذلك، تلك القطيعة، لم تمنعني من توجيه التهنئة إلى جان دوست على صفحتي الفيسبوكيّة، وبل طالبت الأصدقاء بنشر التهاني له على صفحاتهم، كنوع من الاحتفاء به وبروايته. أفصحُ عن هذه التفاصيل، لأنّ الضرورة اقتضت ذلك، وهي موثّقة لدي، وبعض الأصدقاء يعرفون تفاصيلها أيضاً.

حين أرسلت دراستي عن رواية "مخطوط بطرسبورغ" لبعض الأصدقاء والصديقات، المقرّبين جدًّا، وأغلبهم أصدقاء مشتركين بيني وبين جان دوست، وفي مقدّمتهم د. خالد حسين، (في يوم 10/12/2021)، طالبتهم بعد النشر، لئلا يفهم الأمر على نحو خاطئ، على أنه استهداف وحسد وغيرة، إلى آخر هذه المتوالية من الكلام التافه عديم المصاديق، وكثيرة الشّوشرة والتداول. وكرّرت الرّجاء بعدم النّشر. أكثر من ذلك، طالبت الدكتور خالد حسين بكتابة مادّة عن الرّواية دعمًا لها، مع الرّجاء أن تكون قراءته، بعيدة كلّ البعد عن قراءتي؛ مادّة دراستي للرّواية، المرسلة إليه. وكرّرت الرّجاء، بهذا الخصوص. ووعدني بذلك.

في 3 يناير 2022، وأثناء زيارتي لألمانيا، أرسل لك د. حسين دراسته عن رواية "مخطوط بطرسبورغ" لإبداء الرأي، قبل النشر، تحت عنوان: "مخطوط بطرسبورغ: التاريخ رمادًا". ولأنني كنت على سفر وفي جولة بين الأصدقاء، لم يتح لي قراءة الدراسة. فنشر دراسته في موقع "مدارات كورد" يوم 04/01/2022. بعد عودتي إلى البيت، أرسل إليّ مرّة أخرى الدراسة على شكل PDF، فقرأتها، وراعني ما رأيت. قام الدكتور خالد بدمج ما يزيد عن 60% من الأفكار والملاحظات والانتقادات التي طويت عليها دراستي، في مادّته، وبدأ بطحنها، ودحضها وتفنيدها، نقطة نقطة، وقلب ما اعتبرتُه مشاكل تقنيّة وأخطاءَ وعيوب شابت الرّواية على الصّعيد الفنّي، والبناء – التحرير، إلى محاسن فنيّة. هكذا، منح د. حسين، نفسه التفويض ورخصة استثمار ملاحظاتي وانتقاداتي، دحضًا، نقضًا وتفنيدًا، وقلب العيوب الواردة في الرواية إلى محاسن ومفاتن وخصال مائزة، إلاّ أنه أتى إلى جرم الاختلاس، وقفز من فوقه. وهنا، أصيب فقه التأويل التعسّفي والذرائعي لديه بالعجز والشلل. إذ كيف له أن يبرر الاختلاس، بنفس المهارة التي قلب فيها عيوب الرواية إلى محاسن ومفاتن عالية الجودة والفنيّة؟!

بعد إبداء سخطي وغضبي، عبر المراسلات البينيّة، واعتراضي على سلوك د. خالد حسين، وأنه أساء إلى الصّداقة، وانتهك رجائي بعدم الاقتراب من دراستي واستثمارها، وانتهك وعدهُ لي بذلك. حاول تبرير الأمر، وتأويله على أنها محاولة اشتباك نقدي بين صديقين أو كاتبين، وألبسَ سلوكه لبوساً نقديًّا؛ وأنّه وظّف جزءًا من أفكاري وملاحظاتي وانتقاداتي، كحوار، ضمن دراسته. والحقُّ أن تلك الطريقة، على جمالها وتميّزها وحداثيّتها وفرادتها، وسبقها، في الأعراف والتقاليد النقديّة، (وأعني؛ دمج الحوارات ضمن الدراسة النقديّة)، إلاّ أنّ دراسة د. حسين عانت من بعض العلل، في مقدّمتها:

1 ـ دارستي لم تكن منشورة، ليتخذها د. خالد، سندًا ووثيقة، ويقدّم مطارحته النقديّة لها. فهل يجيز العُرف النقدي، الاشتغالَ على مادّة غير منشورة (مخطوط) سواء أكانت رواية، قصّة، قصيدة، بحث، دراسة، أو مقالة؟! أطرح تساؤلي هذا، وفي ظنّي أن استثمار أيّ نصّ نقدي – انطباعي، غير منشور، سابقة وسقطة مهولة، لها وزنها ومقامها، في العُرف النقدي! وآمل أن أكون على خطأ، وظنّي ليس في محلّه.

3 ـ كتابة ونشر ردّ استباقي على دراسة غير منشورة، ضربَ الأخيرة في مقتل، وجعل الدراسة غير المنشورة، تبدو وكأنّها مقتبسة أو مختلسة من دراسة د. خالد حسين. علمًا أن الأخير، لم يشر إليّ أو إلى دراستي غير المنشورة في معرض دراسته الآنفة الذكر! وهذه أيضًا اعتبرها سقطة، غير متوقّعة أبدًا، من لدن ناقد هام وحصيف ومعروف، من وزن د. خالد حسين.

4 ـ تغافل د. حسين، وبل قفز من فوق، مثلب وعيب استراتيجي في رواية "مخطوط بطرسبورغ"، وقد وثّقته ضمن مادّتي. إلاّ أنه وظّف أغلب أفكار المادّة النقديّة، بهدف دحضها وتخطئتها، ملتمسًا المبررات والأعذار، وقلب المثالبِ محاسنًا ومفاتنا، وامتيازات فنيّة إبداعيّة في الرّواية، وقفز من فوق عيب الاختلاس الذي أوردته في دراستي. وهذا أيضًا له وزنه وتوصيفه في الأعراف والتقاليد النقديّة.

اللافت والغريب، وغير المتوقّع؛ أنه حين وصفت نقد د. خالد، بـ"التعسّفي والذرائعي"، صارَ يبرزُ في وجهي تلك المقالات والدراسات القديمة، التي كتبها عن نصوصي الشعريّة والرّوائيّة، على أنّ قناعتي هذه مستجّدة، وراءها؛ ما وراءها! أو أن الأمر محضُ خلافٍ شخصيّ، وأن نقد خالد حسين، بالنسبة إلي؛ يتخلّى عن تعسّفه وذرائعيّته، حين يطاول نتاج كاتب هذه الأسطر، شعرًا ورواية. وهذا الانطباع – الموقف، غير دقيق، وغير صحيح. كل ذلك، في مسعى "تتفيه" و"تسفيه" الردّ عليه، حتّى قبل نشري له!

وفي ظنّي أن ذلك الاستنفار في استحضار تلك المقالات والدراسات القديمة، يمكن تفسيره على نحو أنه من صنف "الترهيب" و"الابتزاز" المعنوي، بهدف الحؤول دون مواصلة تسلط الضّوء على تلك الخصلة التي باتت تتمظهر في نقد خالد حسين، مع الأسف. تلك الخصلة المكروهة، تسمم نقده؛ المتين اللغة والمراس والأدوات، ما يجعله مثار شبهة، أحيانًا، على صعيد الأحكام والخلاصات والنتائج. وعليه؛ تلك الحجّة (الدراسات القديمة)، جاءت عليه، وليس عليّ. إذ كان في إمكاني اتخاذ الصّمت ملاذًا، حافظًا على العلاقة والصّداقة. إلاّ أنني لم أخضع لذلك الترهيب المعنوي، ولم أدخل في أيّ شكل من أشكال المساومة أو الصفقة معه، وكتبت ما قرأتموه في الجزء الأوّل، وستقرؤون، ها هنا، الجزء الثاني. هذا الطبع الذي أفصح عنه ناقدنا العزيز، يمكن أن يتعرّض له أيّ كاتب/ة، في حال سجّلا انتقادات على نقد خالد حسين أو غيره. ولعمري أنه مسلكٌ مريب، وغير متوقّع.

حاصل القول: اعتذرَ الرجل مشكورًا. لكن، ذلك الاعتذار، على احترامي له، لن يعفيني من الردّ عليهِ. وكنتُ أجلّته، أيضًا بسبب وجود رواية جان دوست في القائمة الطويلة، لئلا يتمَّ تصدير موقفي على انه مناهض، حاقد، حاسد، كمّا عبّر جان دوست، نفسه، تعليقًا، على بوست لأحد الأصدقاء، ملمّحًا للدراسة التي كتبتها حول روايته "نواقيس روما" التي وثّقت فيها العديد من العيوب والمثالب الفنيّة والتقنيّة التي شكت منها تلك الرّواية، مع ذكري الإيجابيّات في العنوان والمتن أيضًا! لتأتي دراسة د. خالد حسين، وردّه على مقالي "عن سليم بركات ولغته التي جنت على خياله"، مكررًا نفس سلوك الاستهداف والتخطئة، والتأويل التعسّفي والذرائعي. فما كان منّي إلاّ الردّ عليه، على جزئين، هذا ثانيه. وأدنى هذه المقالة – الردّ، تجدون دراستي عن رواية "مخطوط بطرسبورغ"، وأدناها؛ تجدون رابط دراسة د. خالد حسين عن نفس الرواية.


توصيف لابدّ منه:

كي أكون واضحًا في مقصدي من "النقد التأويلي، التعسّفي الذرائعي"، اسمحوا لي بقول التالي: معلوم أن التأويل هو أحد أوجهه النقد، اعتمادًا على النصوص، والأدوات النقديّة، واجتهادات الوعي النقدي. ولأن النقد، دأبه الشرح والتوضيح، وجَسرُ الهوّة بين النصّ والقارئ، يندرج التأويل ضمن قائمة تلك الشّروح والتفاسير. وحين يشتطّ التأويل إلى مناطق، يمنح فيها النصّ ما ليس له، عبر استحضار واستنفار واستنهاض كل الخزينة من النظريات النقديّة، وتشبيكها وتعقيدها، بحيث يصبّ ذلك التعاقد والتعاضد والتضافر في طاحونة التأويل؛ رافعًا النصَّ إلى مقام زائدٍ عليه، أو إنزالهُ إلى مقام مجحفٍ، لا يليق به. وفي كلتا الحالتين، أرى في هكذا سلوك؛ تعسّفًا وغبنًا، وذرائعيّة "مع" أو "ضد" النصّ، لأبعد الحدود. نقدٌ من هذا الصنف، يلبس النصّ ما ليس له، إمّا فضفاض؛ لكثرة المدائح في فنيّة ومحاسن ومفاتن النصّ، أو شديد الضيق، يشدد الخناق عليه. نقد من هذا النوع، دومًا يعمل كدار الإفتاء، أربابه من النقّاد/النقادات، لا يتوانون عن إصدار الفتاوى، لصالح النصّ، يذهبون عنه العيوب والأخطاء والمثالب، وبل يقدّمونها على أنها محاسن ومفاتن، ويرون في أيّ نقد مناهض يحاول تسليط الأضواء على علل النصوص على الصّعيد الفنّي، اللغوي، التّحريري، على أنه نقد مثالبي، وراءه ما وراءه من الحسابات والأحقاد والحسد والمكايدة...، إلى آخر تلك المتوالية من النعوت – الأحكام الضّاربة في عرض النقد المناهض، الهاتكة له، ودائمًا وفق منظور استعلائي، أستذي، مشيخي، شكيم وعليم بأسرار النصوص، والنفوس أيضًا! وبالتالي، النقد التأويلي التعسّفي الذرائعي، يبيح لنفسه، ما يحرّمه على النقد المناهض له، ويسعى إلى تسخيف وتتفيه وتسفيه النقد الذي يضع في متناول القارئ والباحث، قسطًا من قبائح النصوص ومشاكلها التقنيّة، بالبرهان والدلائل الموثّقة من النصّ نفسه.

بهذا، أكون أوضحت؛ رؤيتي لما عنيته بـ"النقد التأويلي التعسّفي الذرائعي". وأدناه الدراسة التي أتيت عليها ذكرها، مع تقديم الاعتذار للقرّاء على الإطالة.

****

رواية "مخطوط بطرسبورغ" لجان دوسست: المتخيّل التاريخي المتعثّر

هوشنك أوسي

كما في عالم الموضى، قصّات الشّعر، العطور، والاكسسوارات...، كذلك في عالم الرواية، بين الفينة والأخرى، تطفو على حركة الكتابة والنّشر بعض "التّقليعات" أو "الصّيحات" التي تصبح رائجة لفترة، ثمّ تتراجع، لتتيح مكانها لـ"صحيات موضى روائيّة" أخرى، وهكذا. في تعبير آخر؛ بعض الأفكار الرّوائيّة تصبح متداولة وشائعة، سواء على مستوى العناوين أو المتون، بدليل؛ في الثّلاث سنوات الأخيرة، راجت الأعمال التي تستند إلى "المخطوطات". على سبيل الذّكر لا الحصر: "مخطوطة ابن اسحاق" (حسن الجندي)، "المخطوط الأزرق" (صبيحة الخمير)، "مخطوطة وجدت في عكرا" (باولو كويلو)، "المخطوط القرمزي" (انطونيو غالا)، "مخطوطة ابن الشيطان" (عمرو المنوفي). ويرى الروائي السوداني أمير تاج السرّ؛ أن تلك الحيلة في الكتابة: "قديمة بالفعل، فأرى أن الأوان قد حان للتخلّي عنها" (الرواية في شكل مخطوط. 8/7/2018 – القدس العربي). لكن، هل مِن تقنيّة استخدمها أو فكرة طرقها روائيّة أو روائي في العالم العربي، ولم تكن مطروقة، بشكل أو بآخر في العالم؟! وعليه، لبُّ الإشكال وأسّه ليسا في طرق ما كان مطروقًا من أفكار، بقدر ما هما في طريقة التطرّق، ونسبة الإبداع فيها.

يفترض أن لكلّ روائي أو روائيّة خاصّتهما من الأصدقاء المقرّبين الذين ربّما يكونون من أرباب حرفة الكتابة؛ مبدعين ونقّادًا، أو من المثقفين ذوي الذائقة الأدبيّة العالية، يطلعهم الروائي أو الروائيّة على أعمالهما، والاستماع لآرائهم، قبل إرسال تلك المخطوطات إلى النشر. وإن لم يكن للروائي، أصدقاء من ذلك الصنف، عليه خلقهم، كي يكونوا عونًا له. وإن لم يستطع، فليجعل من ناشرهِ أو محرّرهِ الأدبي، صديقًا، يصدقهُ القول والرأي في جودة النّصوص الروائيّة من عدمها، واعتلالها، وما يشوبها من هفوات وهنات وعثرات. وحين نجد تسطير الناشر وتصديره للرّواية مكتوبًا على غلافها الخلفي، هذا يعني، بالقطع، أنه قرأ العمل بتأنّ، وأعجبَ به. وإلاّ ما الذي يجبرهُ على نشر وتقديم عملٍ يكون خلاف تصديرهِ؟!

تصدير النّاشر:

"يتقفّى جان دوست في هذه الرواية آثار مخطوط ضائع كتبهُ الملا محمود البايزيدي في منتصف القرن التاسع عشر، بطلب من القنصل الروسيّ أوغست جابا في مدينة أرضروم. مخطوط عن تاريخ الأكراد وثقافتهم، كُتب ليحفظ ذاكرتهم في رفوف الأكاديميّة الروسيّة في بطرسبورغ. لكنه ضاع، وضاعت معه قطعة من الذاكرة. وهكذا تغدو الرواية رحلة بحث للعثور على الكنز الكردي المفقود، كنز الهويّة والمصير المحفوف بالمحن. ولئن ضاع المخطوط وتلاشى، فإن الخيال الروائي نفخ فيه الروح، فدوّن التاريخ وسرد وقائع شاءت الأقدار أن تخرج من السراديب. فليست الحقيقة دومًا صنو التاريخ والواقع، وإنما قد يتيح الخيال الخارق كنزًا حضاريًّا أغنى معرفةً، تحتضنه المكتبات وتتداوله. أفليس الخيال الخلاّق على رأي جان دوست هو من يرمّم ثغرات التاريخ ثغرةً ثغرة؟ ـ الناشر".

أعتقد أن الأسطر السّالفة، تصلح أن تكون توطئة لتسجيل بعض الملاحظات على رواية "مخطوط بطرسبورغ" للرّوائي الكردي السّوري المقيم في ألمانيا؛ جان دوست. الرّواية التي صدرت عن دار "مسكيلياني" التّونسيّة، في 190 صفحة من القطع المتوسّط. ذلك أنني اقتنيت العمل من معرض تونس الدولي للكتاب، وقرأته، واستفدت منهُ كثيرًا.

1 ــ متن الرواية ليس فيه اقتفاء أثر "المخطوط المفقود" إلاّ في الفصل الأوّل "مخطوط بطرسبورغ: بداية المتاهة" من الصفحة 7 ولغاية الصفحة 16. وباقي الفصول والصفحات، في جلِّها، تتناول حياة المستشرق البولوني – الروسي أوغست زابا (August Kościesza-Żaba)، وحياة كاتب المخطوط؛ الملام محمود البايزيدي الكردي. والحديث عن أماكن وأشياء أخرى. وعليه، ربّما الرّواية هي أقرب إلى أن تكون رحلة في معرفة أثر المخطوط وأين وكيف ضاع؟، بخاصّة في الفصل الأوّل "مخطوط بطرسبورغ: بداية المتاهة"، والفصل الأخير: "مخطوط بطرسبورغ: المصير" من الصفحة 179 ولغاية الصفحة 188. يعني؛ لم يكن المتن محاولة استحضار تخيّلي لمخطوط مفقود، يتناول تاريخ الكرد وثقافتهم عاداتهم وتقاليدهم، و"كنز الهويّة والمصير المحفوف بالمحن" على حدّ وصف الناشر. فنحن لا نعرف مضمون المخطوط المفقود، حتّى نفضّل عليه؛ المخطوط "المتخيّل" الرّوائي؛ الذي يفترض الناشر وجوده في الرواية!

معطوفًا على ما سلف؛ أغلب عناوين مقاطع – فصول الرواية، الـ23، لا علاقة لها بالتاريخ أو المدن الكرديّة: "مخطوط بطرسبورغ: بداية المتاهة"، "السمرقنديّة"، "دفينا"، "لقاء في القنصليّة"، "كراسلافا"، "قصر إسحاق باشا"، فيلنيوس"، "ورقة من المخطوط"، "نيفا-سانت بطرسبورغ"، "الأسطوانة التّاسعة"، الدفلى البيضاء"، "نخلة مار بطرس"، "شجرة البرتقال"، "مخطوط بطرسبورغ – الإنجاز"، "مخطوط بطرسبورغ – المصير". يعني؛ الرّواية تتحدّث عن أشياء كثيرة؛ جانب من التاريخ الروسي، التاريخ العثماني، التاريخ البولوني، فلسطين، والعلاقة بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي...، وأمور وأشياء كثيرة أخرى، بينما كانت نسبة الحديث عن الكرد وتاريخهم لا تتعدّى 20 بالمئة من العمل. فأيّ "كنز الهويّة"، يشير إليه الناشر في تصديره للرّواية؟!

2 ــ المتن، بما فيه من تفاصيل، لم يكن أبدًا من صنف ما "نفخ في روح (المخطوط) فدوّن التاريخ، وسرد وقائع شاءت أن الأقدار أن تخرج من السراديب". ذلك أن القليل من تفاصيل التاريخ الكردي، الوارد في الرواية، مشاع ومتداول، ويعرفه الكرد، وبعض المتخصّصين في تاريخ هذا الشّعب، وليس من قماشةِ كشفِ المتواري المغيّب المقبوع في السّراديب! وفي إمكان الناشر التّأكّد من ذلك، عبر الاستعانة بالمستشار العزيز؛ الأستاذ "غوغل".

مقصدي؛ التّصدير الموجود على الغلاف الخلفي، زد على أنه لا يوازي المتن وتفاصيل الرّواية، بنسبة كبيرة، فهو ينمّ عن عدم قراءة المتن أصلاً، بتلك الدقّة وذلك التمحيص المفترض. ولعمري أن متن الرّواية حتّى لو كان وليد المتخيّل الروائي، لا مناص من المتابعة والمراجعة، لئلا يصبح المرء على مزالق إطلاق الأوصاف والأحكام المبالغ فيها على النصوص الروائيّة، لجهة الفرادة والتميّز، على أن الخيال الروائي "قد ينتج كنزًا حضاريًّا أغنى معرفةً، تحتضنه المكتبات وتتداوله الأجيال" بحسب تسطير الناشر وتصديره للرّواية.

فخّ العنوان:

هذه كانت المرّة الرابعة التي يستخدم جان دوست أسماء المدن في عنوان رواياته: "كوباني"، "نواقيس روما، "باص أخضر يغادر حلب"، و"مخطوط بطرسبورغ". والتوظيف الأخير لاسم حاضرة روسيّة وعالميّة مهمّة، له سحرهُ على المستوى اللفظي والدّلالي والإيحائي أيضًا. عنوان جاذب إلى المتن، ودافع باتجاهه، لجهة إثارة الفضول، والسّعي نحو معرفة طبيعة ذلك المخطوط المنسوب إلى تلك المدينة الرّوسيّة العريقة الفاتنة. وعليه، أتى العنوان موفّقًا في تحقيق وظائفه. والسّؤال؛ ماذا عن المتن، النّص، حزمة السّرود الموزّعة على المقاطع – الفصول؛ الثّلاث والعشرين؟ الحقُّ أنّه في جُلِّها؛ لا هي كانت عن مضامين المخطوط المفقود، ولم تكن عن بطرسبورغ أيضًا، إلاّ ما ندر، بل أتت متنوّعة، ورد فيها بعض المعلومات عن المخطوط؛ الفكرة، العمل، الانجاز، الفقدان، الاحتراق. كما وردت بعض المعلومات عن بطرسبورغ، موزّعة هنا وهناك. وعليه، البون كان شاسعًا بين العنوان والمتن. وإذا اعتبرنا جدلاً ذلك الفارق، وفق فقه التّأويل لدى بعض النقّاد، (حين يفتحون باب الأعذار والفتاوى للكتّاب والرّوائيين)، فإن عدم الانسجام بين عنوان الرّواية ومتنها، يمكن تفسيرهُ على أنّه حيلة بارعة ولؤم إبداعي نجح فيه جان دوست، فإن حيل وتقنيات تدبيج العنوان لدى المبدعين، يفترض ألا تنحصر في العتبات الرئيسة والفرعيّة لرواياتهم وحسب، بل أن يستخدموا حيلهم ولؤمهم وعقبريتهم تلك في تريب وهندسة العمارة الداخليّة لمتون تلك الروايات أيضًا. ومن ينجح في تقليل المسافة بين العنوان والنصّ، مع ترك برزخ أو أرخبيل فاصل بينهما، فتلك مهارة قلّ نظيرها، واحترافٌ باهر، تُرفعُ له القبّعات.

العلاقة بين المثقف والسياسي:

الرّواية على عللها ومشاكلها التقنيّة التي سآتي على ذكرها لاحقًا، فإنها تنطوي على أفكار هامّة، منها:

1 ـ العلاقة بين السّياسي (الدبلوماسي) والمثقّف. بخاصّة إذا كانا على طرفي نقيض، أو أقلّه؛ مختلفين في القوميّة (مسيحيّة – إسلام)، قوميّة (روسيّة – كرديّة)، واحترام السّياسي للمثقّف، والاستفادة من خبراته. كذلك استفادة المثقّف من الإمكانات التي يوفّرها السّياسي له، بخاصّة منها الماليّة. الرّواية تذهب، ولو بشكل خافت وخفي، في اتجاه تطبيع العلاقة بين المثقف والسّياسي. تلك العلاقة المتوتّرة، القديمة – الجديدة، المشوبة بالاستثمار والاستفادة المتبادلة.

2 ـ العلاقة بين المثقف والسّياسي، ليس بالضرورة أن تكون محكومة بمنطق تبعية الأول للثاني. وهذه أيضًا من الأفكار التي يطرح العمل عكسها. فما كان بين القنصل الرّوسي والمثقف الكردي (العثماني) علاقة عمل ثقافي، علمي، بحثي، قوامها الاحترام المتبادل، ولا يشوبها منطق وعادات وتقاليد تبعية المثقف للسّياسي، المتعارف عليها.

3 ـ يمكن للمثقف أن يقفز من فوق الجراح القوميّة والشخصيّة، ويتواصل مع جهة، تناصب العداء لبلاده (الصّراع الرّوسي – العثماني)، ويقيم علاقة مع تلك الجهة حتّى لو كانت أيديها ملطّخة بدم شقيق أو أقارب المثقف (العلاقة بين الملا محمود والقنصل الرّوسي)، طالما أن الهدف من تلك العلاقة ثقافي؛ خدمة عامّة للكرد. وعليه، لم يكن ملا محمود يرى في علاقته مع القنصل، خيانة للسلطنة العثمانيّة، او للكرد، أو لشقيقه القتيل في حرب القرم. كذلك القنصل البولندي الأصل، لم يكن يعتبر عمله كدبلوماسي روسي، خيانة لبني جلدتهِ الذين اضطهدتهم روسيا القصيريّة. وبالتالي، تناولت الرّواية، ولو بشكل عرضي وعابر، مفهوم الخيانة القوميّة، ورفضت الفهم التقليدي لها.

4 ـ تدفع الرّواية في اتجاه توطيد العلاقة بين المثقّف والسياسي، إذا كان الأخير مثقّفًا.


مشاكل تقنيّة:

أغلب الأعمال الروائيّة التي يتجاوز عدد صفحاتها 350 صفحة، سواء من القطع المتوسّط أو الكبير، تشترك القراءات النقديّة حولها؛ أنها لا تخلو من الحشو والثّرثرة والتّكرار والإطالة المملّة التي لا تخدم تلك الرّوايات، بل تسيء إليها، وتتسبب في ترهّلها وزيادة الشّحوم والدّهون اللغويّة الفائضة، لديها. وفي هذا الرأي، الذي أميل إليه أيضًا، الكثير من الصّواب. لكن، ماذا عن رواية جميلة الغلاف، أنيقة التصميم والطباعة، رشيقة القدّ والقوام، كـ"مخطوط بطرسبورغ" التي عدد صفحاتها 190؟ مع حذف الصفحات الأولى والأخيرة التي تحتوي بيانات الكتاب وفهرسه، يبقى أن الرواية؛ 180 صفحة تقريبًا. هكذا رواية، في ظاهرها رشيقة أنيقة، بعنوانها الجذّاب، إذا شاب متنها التكرار والحشو، فهذا يعني أن هذه المشكلة، لا تخلو منها الروايات المتوسّطة والقصيرة الحجم أيضًا. أثناء قراءتي للعمل، راعني حجم التكرار، على مستوى الأفكار والمعلومات والمقولات. ما أورده هنا، نماذجًا، على سبيل الأمثلة وليس الحصر:

1 ـ في الصّفحة 12، يذكر الكاتب: "أسبوعًا كاملاً نبحث. موظّفة الأرشيف مارينا وأنا، في ردهات المكتبة العملاقة (...) عبث، في عبث، في عبث". وفي نفس الصّفحة يكرر الكاتب نفس الفكرة، بعبارة أخرى: "يمرُّ أسبوع دون أن نعثر على المخطوط الذي كتبه البايزيدي"! ألم يكن في الإمكان ذكر معلومة واحدة، مرّة واحدة في الصفحة الواحدة!؟

2 ـ في السّطر الثاني من الصّفحة 17 نقرأ على لسان ورقة من المخطوط: "سمعتُ هذه العبارة وأنا رمادٌ تذروه الريح (..)". وفي السّطر الرّابع، نقرأ: "رددتها الريح التي كانت تذروني"! يعني؛ أن الرّيح هي هي، لم تتغيّر، فهل هناك أيّ داعٍ لتذكيرنا بذلك!؟

3 ـ في الصّفحة 22 نقرأ: "سيمنحه الرّوس خلال دراسته في جامعة بطرسبورغ اسم الكسندر". وفي الصفحة 33 نقرأ: "أوغست جابا الذي اكتسب لقب الكسندر، أثناء دراسته في الأكاديميّة القيصريّة في بطربسبورغ...". وفي الصفحة 63، نقرأ: "كان الكسندر، وهذا هو الاسم الروسي الذي حصل عليه الشاب أوغست، بمقتضى العرف الغريب المعمول به في الأكاديميّة الروسيّة". وفي الصفحة 174، نقرأ نفس المعلومة مكررة: "نادى الجد أوغست، أو الكسندر، كما كان يحلو لبعض الأحفاد أن ينادوه حسب أعراف الأكاديميّة القيصريّة العلميّة في بطرسبورغ"! ما علاقة الأحفاد، في أزمير وقتذاك والرجل في التسعين من عمرهِ، بأعراف الأكاديميّة القيصريّة؟! وما الجدوى من تكرار هذه المعلومة في بداية ومنتصف ونهاية الرّواية؟ أليس هناك ثقة بذاكرة القارئ؟! هل لهذا التّكرار أيّة قيمة جمالية مضافة إلى السّرد؟!

4 ـ في 65 نقرأ: "وصف القيصر الروسي نيقولاي الأوّل السلطنة العثمانيّة بالرجل المريض"، وتكرر المعلومة في الصفحة 135، بصيغة أخرى أيضًا. بل من الصفحة 135 ولغاية الصفحة 138، ضمن فصل "وثبة المحتضر"، يتكرر وصف "الرّجل المريض" 5 مرّات، وتكررت مفردة المريض في وصف السّلطنة العثمانيّة في نفس الصّفحات، 4 مرّات. في تقديري؛ ما مِن داعٍ لهذا الإفراط في تكرار الوصف. خلاص، القارئ اكتشف هذه (المعلومة العظيمة) على أن صاحب وصف "الرجل المريض" هو القيصر الروسي، وانتهى الأمر.

5 ـ على صعيد الإكثار من تكرار المفردات، في الصفحة 23، كرر الفعل الماضي الناقص "كان" 9 مرّات، وفي الصفحة 96، كرر نفس الفعل 8 مرّات. وفي الصفحة 51، كرر كلمة "حرب" 5 مرّات، وكلمة "حروب" 3 مرّات.

كذلك من مظاهر التّكرار على صعيد ذكر نفس المعلومات في سياقات مشابهة؛ الحديث عن الانتفاضات الكرديّة على السلطنة العثمانيّة، وأسباب ونتائج فشلها. تمثيلاً وليس حصرًا: في الصّفحات 56، 57، 58، 59 وفي الصفحات 90 و91. كذلك معلومة مغادرة الملا محمود مدينته "بايزيد" واستقراره في "أرضروم" ومقتل شقيقه في حرب القرم، تكررت في أكثر من مكان، على سبيل الذكر؛ في الصّفحات 27 و53، و128.

أيضًا معلومة تكليف السّلطنة العثمانيّة الملا محمود بايزيدي بالتوسّط لدى الأمير بدرخان باشا الكردي، كي يوقف عصيانه، هذه المعلومة، تكررت في في الصّفحات 57، و125، و156.

في السّطر الأول من الصّفحة 102، نقرأ على لسان الشّجرة: "جلس الاثنان تحت أغصاني على كرسيين صغيرين"، وفي السّطر التّاسع من نفس الصفحة، نقرأ: "جلس الاثنان، كل واحد منهما على كرسيه..."!

6 ـ إذا كان الكاتب يودُّ تفصيح لغته الرّوائيّة، فلا لوم عليه أو حرج، ويتجنّب استخدام كلمة "القرفة"، ظنًّا منه أنها عاميّة دارجة، ويستبدلها بمفردة "الدارصيني" (ص18)، فعليه أيضًا تجنّب استخدام مفردة "أوتوبيسات" (ص7)، والاستعاضة عنها بـ"حافلات". ذلك أن "القرفة" متداولة ومعروفة وشائعة، وفي حكم الفصيحة، وأخفّ وأكثر استغاثة على النطق والسّمع والقراءة، من "الدارصيني".

7 ـ في الرّواية، يشير الكاتب إلى أن عدد صفحات المخطوط المفقود 200 صفحة. بينما في مكان آخر، يذكر أنها ألف صفحة! (راجع مقدّمة ترجمة جان دوست لكتاب: "رسالة في عادات الأكراد" لملا محمود البايزيدي. ص20 – هيئة أبو ظبي للثقافة – مشروع كلمة، 2010).

8 ـ في الصفحة 141 يذكر الكاتب أن جلد المخطوط "من رقبة وعلٍ أحمر صادهُ رعاةٌ من نواحي جبل سيبان في مدينة أخلاط على شاطئ بحيرة وان". بينما في الصفحة 145 يذكر الكاتب أن جلد المخطوط من "جلد الأيل الأحمر الذي تمّ اصطياده في شعاب جبل سيبان قريبًا من بحيرة وان"! فهل الجلد كان جلد وعلٍ أم أيل؟! على الكاتب أن يختار أحدهما!

9 ـ في الصّفحة 156، يذكر الكاتب على لسان الملا محمود بايزيدي (1797-1867) عبارة: "نحن وجيراننا متأخّرون عن ركب العالم"! والسّؤال: هل كان الملا، سنة 1867، تاريخ وفاته، مطلعًا على ركب العالم وما يجري فيه من تقدّم وتطوّر، حتّى يطلق حكم القيمة على الكرد وجيرانهم؟! ولا يحيل البايزيدي حكمه ذاك، إلى الحروب وحسب، بل لأن الكِتابَ عند الكرد وجيرانهم، "أقلّ قدرًا من الحذاء، ولأن أولي الأمر منّا يهتمّون بالمِغرفةَ، أكثر من المعرفة" (ص156-157)! طبقاً للحكم وأسبابه ومبرراته، من المفترض أن البايزيدي يعلم أن أولي الأمر في البلدان الأخرى يهتمّون بالكتاب، ويرجّحون المعرفة على المغرفة!

10 ـ بحسب القليل من البحث والتحرّي عن القنصل الروسي – البولوني، اتضح لي أن اسمه آوغست زابا (August Kościesza-Żaba)[1]، فما سبب تغيير كنيته إلى "جابا"، كما جاء في الرواية؟

إضافة: (لاحقًا، تحرّى د. خالد حسين وقال: أن حرف (Ż) يلفظ على أنه (J) في الأبجديّة البولنديّة. وبتكرار الاستماع للمقطع الصوتي، ظهر لي أن صوت الحرف (Ż) هو دمج بين Z وJ.). بل هو أقرب إلى الأوّل من الثاني. وربّما أكون مخطئًا).


اقتباس:

جاء في الصفحة 68 من رواية "مخطوط بطرسبورغ": "تأسس في عهده (نيكولاي الأوّل) المتحف الآسيوي الذي يعتبر منعطفًا جديدًا في تاريخ الاستشراق الأكاديمي، وصار مخزنًا مهمًّا للنوادر والآثار والمخطوطات والوثائق والنقود والمسكوكات تأتي إليه من خلال قنوات عدّة، وكان المستشرق الألماني فرين أول مدير له. وقد بقي فرين يشرف عليه ويرعى أعماله أكثر من عقدين من الزمان حتى خلفه المستشرق الألماني الآخر آلبريخت دورن"... إلى نهاية الصفحة.

شعرتُ أن هذه الفقرة، مأخوذة من مكان ما. وضعت جملاً منها في محرّك البحث "غوغل" فأحالني إلى كتاب "جهود الاستشراق الروسي في مجال السنّة والسيرة: دراسة ببليوغرافيّة" للدكتور سليمان بن محمد الجارالله. ففي الصفحتين 10 و11، مذكور المقتبس المشار إليه من رواية "مخطوط بطرسبورغ" بالنصّ والحرف. أولم يكن في مقدور الكاتب الاستفادة من المرجع على صعيد استِقاء المعلومة وحسب، وإعادة تحرير المقتبس، لا أن يستسهل الاقتباس نسخًا ولصقًا، وإدراجه في متن الرّواية؟!


منطق الأشياء والأحوال:

من جماليات هذه الرّواية، أن الرّوائي حاول أنسنة الأشياء؛ أنهار، أشجار، أوراق...، وتلك تقنيّة اتبعها ويتّبعها آخرون أيضًا، سواء في الشّعر أو الرّواية، وليست سبقًا مسجّلاً باسم صاحب "مخطوط بطرسبورغ". وكذلك سبق وأن اتبعها جان دوست نفسه في روايتيه؛ "دم على المئذنة" ورواية "نواقيس روما".

صحيحٌ أن تقنيّة تعدد الرّواة في "مخطوط بطرسبورغ" كانت من الثيمات الرّئيسة البارزة، وأن أولئك الرّواة في أغلبهم، لم يكونوا بشرًا؛ ورقة من مخطوط، نهر ديفنا، مدينة كارسلافا، قصر إسحاق باشا، جبل، شجرة الدفلى، نخلة، شجرة البرتقال، مدينة أرضروم، مسبحة الكهرمان...الخ. لكن، منطق الأشياء، وكذلك التخيّل الروائي، يفترض به أن يراعي مسألة في غاية الأهميّة؛ وهي الإمتاع والإقناع. فلا حرج أبدًا على الرّوائي أن يؤنسن شجرة البرتقال في مدينة يافا الفلسطينيّة، على أن تتحدّث تلك الشجرة عن ذكرياتها، مشاهداتها، تفاصيل الأحداث في محيطها القريب. أبعد من ذلك، يمكنها التحدّث عن عموم مدينة يافا. أبعد من ذلك، في عموم فلسطين. أبعد من ذلك، في بلاد الشام. لا أن تتحدّث شجرة البرتقال اليافاويّة عن التفاصيل التاريخيّة في بولونيا، والثورة البولونيّة على السلطة القيصريّة، وسحق الرّوس لها (ص100). فقط؛ لأن القنصل الروسي – البولوني؛ أوغست زابا، مرّ من يافا وسكنّها لفترة!


"انطلقت بنا العربة التي كان يجرّها جواد تركماني أشقر رشيق القوام، يقودها حوذي شاب من قوم اللاز، بعد شروق الشمس بحوالي ساعة، واتجهت إلى الغرب مسافة أربعة فراسخ قبل أن تنعطف شمالاً بدأ الجواد التركماني ينهب الطرقات كأنّه له معها ثأرًا قديمًا حتى بلغنا تخوم جبل مسجد داغ، وكانت قممه لا تزال مكللة بالثلوج" (ص179). هذا المشهد الروائي المكتوب بعين سينمائيّة، راصدة للتّفاصيل، بحيث وصفت الحصان، لونهُ، قوامهُ، حركتهُ، وحدّدت هويّتهُ (تركماني)، وهويّة الحوذي، واتجاهات السّير، وحدّدت الزّمن (بعد شروق الشمس بساعة) وقدّرت المسافة (أربعة فراسخ)، ووصفت الجبل، وأن قمّته (وليس قممه. الجبل له قمّة واحدة)، ما تزال مكللة بالثّلوج، تلك العين الرّاصدة البارعة الحاذقة، الدّقيقة في الوصف والتّقدير، يفترض بها أن تكون عين الحوذي، أو مرافقيه، أو الحصان، أو العربة. لا أن تكون عين ورقة داخل المخطوط المغلق، الموجود داخل كيس، الموجود داخل صندوق محكم الإغلاق، داخل العربة! تلك الورقة الرّاكنة في ظلمة مكانها، كيف لها تعطي القارئ تلك المشهديّة التّصويريّة الدّقيقة الوصف؟! ربّما وفق فقه التأويل والشّرعنة لدى بعض النقّاد، يمكن ذلك. لكن، ماذا لو عرفنا أن الورقة التي تتحدّث إلينا هي في الأصل محترقة!؟ يعني، رماد الورقة، أو روحها المحلّقة، يفترض أن تقصّ علينا ذلك الفصل الأخير من الرواية!

"قال الحوذي جملتهُ مبتسمًا ثم شدّ لجام الجواد الأشقر فتوقّف لفوره ونزل المرافقان بعد أن قاما بترتيب أكياس البريد المبعثرة والصناديق الصغيرة التي كنتُ مع زميلاتي أقبع في قعر صندوق منها، في صندوق العربة" (ص180). هذا ما تقوله الورقة المحترقة، وهي تستحضر ذاكرتها!؟


السّؤال المحيّر:

على أهميّة الرّواية، والأفكار التي تطرحها، والجرعة النقديّة للماضي الكردي بما فيه من انقسامات وصراعات بين الأمراء والقبائل والعشائر، (وتلك كانت سمّة العرب والتّرك والفرس أيضًا، ولم تقتصر الانقسامات والصّراعات الدمويّة الداخليّة على الكرد وحسب) الغريب في الأمر، حتّى على مستوى التخيّل الروائي، أن يختتم جان دوست روايته هذه بتحميل الكرد مسؤوليّة ضياع ذلك المخطوط، وحرقه من قبل قطّاع طرق كرد أميين وجهلة. كان في إمكانه عدم نسب قطّاع الطرق إلى ملّة بعينها، بل إلى الجهل والجريمة وحسب، لكنه نسبهم إلى الكرد. تلك النهاية، على جمالها، خلقت لدي سؤالاً محيّرًا وبسيطًا؛ لماذا؟!

خلاصة القول: هذا العمل الروائي، ليس مخطوطًا، ولا يمكن نسبه إلى بطرسبورغ، إلاّ لضرورات العنوان التي ذكرناها آنفًا. ويمكن إدراج هذه الرواية ضمن الأعمال المقبولة، لكنها ليست أفضل ما كتبه جان دوست، على امتداد مسيرته الروائيّة التي أثمرت ما يزيد عن 12 عمل روائي.


*******************

دارسة د. خالد حسين

مخطوط بطرسبورغ: التاريخ رمادًا

https://www.medaratkurd.com/2022/01/%d9%85%d8%ae%d8%b7%d9%88%d8%b7-%d8%a8%d8%b7%d8%b1%d8%b3%d8%a8%d9%88%d8%b1%d8%ba-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%8e%d9%91%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%b1%d9%85%d8%a7%d8%af%d8%a7%d9%8b/


[1] اسم القنصل

August Kościesza-Żaba

https://en.wikipedia.org/wiki/August_Ko%C5%9Bciesza-%C5%BBaba

August Kościesza-Żaba

https://pl.wikipedia.org/wiki/August_Ko%C5%9Bciesza-%C5%BBaba

https://www.kurdishstudies.pl/?en_august-kosciesza-zaba,36


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).