مدخل

ليس بالأمر اللاــ متوقع أَنْ يأتي مقالُ الشَّاعر والرّوائي هوشنك أوسي (عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ)([1]) وفق هذه الصُّورة، بل ما ليس من المتوقع أن يستديرَ المقالُ على "المتوقع "ذاته، ليتخذ مَسَاراً مغايراً وينتمي إلى اللاـ متوقع النقديِّ مِنْ حًيْثُ إنَّ شَذَراتٍ عديدةً للكاتب مبثوثة هنا وهناك قد دشّنتْ رُشَيْمَاتِ هذا المقال وما المقالُ إلا مساحةٌ موسّعةٌ لتلك الشَّذرات الأُولى أو أصداءٌ لها. هكذا ما ليس بالمباغتِ عَلَى وَجْهِ التَّحديدِ أنْ يصوغَ و/أو يستعيدُ المقالُ هذه "الصُّورة" النمطية، المتناثرة في المشهد الثَّقافي عن أدب/نصية سليم بركات، صُوْرةٌ لا تقبضُ على مُسَوّغاتِهَا من الكَوْنَيْن الشِّعري والسَّردي تحليلاً لهما بقدر ما تكتسبُ وجودَهَا من الطّارئ النّصي والقراءات المتعجّلة: سجين اللغة، الغلو في استعمال اللغة، اللغة التراثية ــ"الأنتيك"، التكرار والمراوحة، كائن العزلة، الفشلُ في الاحتياز على الجوائز بسبب وعورة لغة الكاتب وهذا ما جعلها تستعصي على الترجمة ذاتها إلى الألسنةِ الأخرى،...وما شابه ذلك من آراء انطباعيةٍ وبتناءٍ عن إجراءاتِ التَّحليل النَّقدي الواجبة.

لكن ما يُفاجىءُ القارىءَ في هَذِهِ "الصُّورة النمطية" لكاتبٍ، لا يعرف سوى الاختلاف مأوىً وإنجازاً منذ مصنّفهِ الأوّل (كلُّ داخلٍ سيهتف لأجلي، وكلُّ خارجٍ أيضاً، 1973) وحتى الأخير (الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنّوب، 2021) في تجربتهِ الأثيرةِ، أَنَّها تُصَاغُ بيدي كاتبٍ يَسْعَى هو ذاته إلى ضَفَافِ المغَاير والمختلفِ ذاتهِ في حقلي الشِّعر والرّواية، أي أنَّ الفُجَاءةَ المرافقةَ للصُّورةِ تحومُ حولَ مصدرِ إرسال الصُّورة وليستْ كامنةً في بنيتها، فهي لا تومىء بأيِّ جديدٍ في تمظهرها نقداً وتأملاً، وهذا ما يجعلَ مَسَاحةَ التّعجُّب تتسع أكثر فأكثر...! ومهما يكنْ سَوْفَ تُشكّلُ هذه الصُّورةُ أرضيةً لهذه المُسَاجلة "النّقد النّقدية"بروح المسْؤوليةِ وضمن أَخْلاقَياتِ المناقشةِ البحتة.

أسلوبيةُ التَّقويضِ

يَشْرَعُ مَقالُ الكاتبِ بدلالةِ التأكيد إثباتاً ليقبضَ على عُنُقِ الحقيقةِ منذ عتبة العنوان "عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ"، فالأمر، هكذا، وبرميةٍ واحدةٍ، مرتبطٌ بخيالٍ متصّدع بفعل لغةٍ، بفعل استعمال بركات الخاصّ للغة، لكن بركات يتشارك مع أهل العربية والمتكلمين بها معجماً ونحواً وطرائقَ التصريفٍ ذاتها. إذن فما يختلفُ فيه بركات مع الآخر ليس اللغة، وإنما يكمن في "الأسلوب"style، أسلوبه في صياغة العربية الذي ابتكره ونمّاه وينميّه حتى راهن الكتاب الأخير له (وهذا ما سنأتي إليه إجراءً في سياقه المناسب)! وهنا ماذا يظلُّ من الكاتب إن افتقد "الأسلوب"، الإمضاء، التوقيع، الاختلاف في تصريف اللغة؟ ماذا لو أنَّ بركات افتقد أسلوبه المميز الذي يتلاءم و"خياله الشرس"؟ ماذا لو أن هذا "الخيالَ الجسورَ": ظلَّ مدفوناً في كَفَنِ أسلوبٍ يخضعُ للسّائد من أساليب الكتابة؟ إنّ الخيال الشّرس لا يرتضي إلا أنْ يتواءمَ مع "أسلوبٍ" صعب المراس، مغاير، يتخذ من التَّبايُنِ منطقاً ووسماً وجرحاً له. إن بركات في صنيعه هذا، وعلى غرار الأسلوبيين الكبار، أحدثَ جرحاً في جَسَدِ "العربية"؛ لكيلا تفغو في نعيم بلاغتها السائدة وتستكين. وفي الحقيقة ابتكر "لغةً أجنبية ضمن اللغة" التي يكتب بها، جعل الجملة العربية تتلعثم وتتشوّه وتتلوّى من ألم الاختلاف([2]) وهذا مطلب الإبداع ــ الأصيل. أما لماذا اتخذَ بركات هذا الممرّ، هذا الأسلوب لكينونة الكتابة لديه غير المعتاد، فالأمر ليس أبعد من ماهية الإمضاء ذاتها، لا إمضاءَ متماثلٌ مع إمضاءٍ آخرَ ومتشاكلٌ له، كلُّ كاتبٍ كبير هو إمضاءٌ، هو توقيعٌ، كلُّ إمضاءٍ هو حدثٌ فريدٌ...!

من جهة أخرى، وكما جرت الإشارة، فالعنوان يتخذُ من الدِّلالة التأكيدية إقامةً وإثباتاً وقطعاً وحسماً: "عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ"! ووفقاً لهذا المنطق التأكيدي فالنتيجة التي حتّمت هذه الصّيغة للعنوان إنما انبثقت من تأمّلٍ نقديٍّ للمسار التاريخي لــ"أسلوبية" بركات شعراً وروايةً لكننا في الواقع لا نجد في تضاريس المقال الطّويل نسبياً أيّ اختبار نقدي لهذا المسَار المثمر والمدهش من الكتابةِ لدى بركات باستقطاع شذراتٍ من الأعمال الأولى ومقارنتها بالأعمال الوسطى وهذه مع الأعمال التي صدرت وتصدر راهناً حتى نُدرك المسوّغات التحليلية والمعرفية والجمالية التي دفعت بالكاتب إلى نعيم هذا اليقين الذي أَودعَ فيه "عنوان" مقالته بكلّ راحةِ بال واستكانةٍ. هكذا ومنذ عتبة العنوان نجد ذواتنا إزاء مقال يملك خزائن "الحقيقة" الواحدة "عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ"، كيف حَكمَ الكاتب على ثلاث وعشرين مجموعة شعرية وثلاثين كتاباً سردياً عبر مساحةٍ من الزمن (1973ــ 2021) بهذا التأكيد، بهذا "اليقينِ"، الذي لا يختلفُ عن أيّ يقينٍ أيديولوجي في وسم حدثٍ كتابيّ "مدهشٍ"([3]) بكونه لم يتأثر بأيّةِ طعناتٍ من الزَّمن بالمقارنة مع أحداثٍ/أساليب أُخرى سابقة أو متزامنة معه تتنفَّس التَّاريخ؟ على هذا النحو وبتوجيهٍ من هذه الميتافيزيقا الانطباعية التي تضخُّ العنوان بالطاقة تنبسط تضاريس المقال لتأكيد الحكم النقدي المسبق شرحاً وتفسيراً وتوسيعاً.

اللغة/ الأسلوب 

يفتتح الكاتبُ مطلعَ مقالته بقولةٍ لبركات "اللغة بوصفها وطناً" ثمّ يقدِّمُ تأويله لها بالقول: "فبالنسبة إلى كاتبٍ كردي، (...)[فـ] الانتماءُ الأصيلُ، الوحيد، العميق المنتج والمجدي، والتحدّي الوجودي الذي وجده أمام نفسهِ، ويكاد يكون الحبل السرّي الذي يربطه بالحياة، هو الانتماء إلى اللغة العربيّة، شعراً ونثراً، وطناً وهويّةً(...) [ليبلغ الكاتب الفكرة الأكثر أهمية]: ولأن العقدين الأوّلين من عمرهِ؛ أسّسا وخصّبا خيالهُ، والعقود الخمسة اللاحقة كانت عطفاً وتأسيساً على ما سبق، وتعضيداً وتخصيباً له، فالأصل والجذر لخيال بركات، هي تلك السنوات الأولى". لاشكَّ بأنَّ باللغة، وبخاصةٍ اللغة ــ الأم، مجازاً هي أشبه بالمأوى، بل هي بيتُ الكينونة على حدّ قولة هايدغر؛ لكنَّ الإنسان، ولاسيما الكاتب في الواقع، يتخذ أكثر من لغةٍ مأوىً له. بل إنّ بعضاً من المآوي (اللغات) تُفرض على الإنسان رغم إرادته ورغبته كحال "الكردي" في سوريا ومن ثمَّ فانتماءُ "بركات" للعربية مأوىً ليس بالانتماء الأصيل، كما يمضي الكاتب، بل هو انتماءٌ مُرْغَمٌ عليه، انتماءُ المتغلِّب على المتغلَّبِ، المهيمِن على المهيمَن. وإذا كانت حتّى اللغة ـ الأم، البيت الأول، تمارس إكراهاتها وإراداتها على الكائن في تشكيل عالمه/عوالمه؛ فماذا يمكن القول بما يخصُّ لغةً أُرْغمَ الكردُ(سوريا) على اتخاذها مأوىً؟ ففي مشهد إبادة اللغة الكردية ونسفها لم يكن بحوزةٍ بركات والكرد قاطبةً في سوريا سوى "العربية" ممراً لعرض الكينونة الكردية ومن ثمَّ فاتخاذ بركات للعربية ليس "انتماءً أصيلاً" وإنما هو من قبيل "التحدي الوجودي"ــ حيث يصيب الكاتب هنا تماماًــ إذ لم تكن الكتابة بـ"العربية إلا تحدياً وجودياً مهارةً وإتقاناً وبلاغةً للردّ بالكتابة ذاتها، باللغة المهيمِنة ذاتها على سائد اللغة ذاتها وتراثها والسُّلطة التي رسختها لتكون "اللغة الوحيدة" على حساب اللغات الوطنية ولاسيما "الكردية" التي حاولت السُّلطة ليس بإزاحتها وتنحيتها عن المشهد الوطني ثقافةً وتعليماً بل القيام بأقصى المحاولات لاجتثاثها واستئصالها ومحوها ومحقها...!

من جهةٍ أخرى، وبما يرتبطُ بالمقبوس ذاته، يرى الكاتب أن السَّنوات الأُولى تمثّل "الأصل والجذر" لخيال بركات وما تلاها فهو تأسيسٌ وعطفٌ و"تخصيبٌ"، أي إنَّ بركات وفق الكاتب سلك مساراً تاريخياً، منطقياً لبناء "الخيال" الأدبي من التأسيس إلى التخصيب مروراً بالتعضيد، وهذا ما يضع النتائج التي استنطقها وتوصّل إليها الكاتب لاحقاً قاب قوسين أو أدنى من التناقض والتعارض بعضها مع بعضٍ وبصورةٍ مريعةٍ، فكيف مرَّ هذا الخيال بالفعل "التخصيبي"بوصفه فعلاً تاريخياً يقتضي انتقالاً بين المصادر والمراجع عربييها وأجنبييها وظلَّ متجمّداً في ثلوج مرحلة التأسيس الأولى؟! لكن لنتابع الكاتب وهو ينطلق لتوضيح هذه الفكرة انطلاقاً من مقولة "اللغة" التي ينبغي على الكاتب اتخاذها وطناً ألا يتوقّف عن تحديث هذه "اللغة" في سياقاتها واستعمالاتها فالحياة الجارية في تدفقها لا ترحم، يكتب: "ما أودُّ قوله وطرحه هو، المفاجأة اللغويّة البلاغيّة التي أحدثها بركات مطلع السبعينات، وجعلت أدونيس يلتفت إلى موهبة هذا الكردي الآتي من الشمال السوري، هل ما زالت تلك المفاجأة هي نفسها؛ تمتلك جذوة توهّجها، ودسم ألقها، وعسل دهشتها؟ قطعاً لا.". في الواقع يلتبس الأمر هنا على الكاتب بين اللغة بوصفها ملكية الجماعة وغير قابلةٍ للامتلاك بتاتاً وبين "الأسلوب"، أي الخصوصية الفريدة التي يبتكرها الكاتب ــ المبدع في جسد هذه الملكية، ومن ثم يجري تشبيهه بالإمضاء والتوقيع والجرح، أي صناعة الاختلاف الذي يحافظ على أثره مطلقاً(ابن المقفع، أبو تمام، النّفري، المعري ، الجزري[في الكردية])، فما جعل "أدونيس" ينتبه إلى ويتباغت بـ: فهو "الجرح" الذي أحدثه بركات في العربية، في الكتابة العربية السَّائدة من حيث عمقُهُ واختلافُهُ، فهذا الجرح ــ الأسلوب وبدءاً من المجموعة الشِّعرية الأولى(كلُّ داخل سيهتف لأجلي، وكلُّ خارج أيضاً) وما تلاها من مجموعاتٍ إلى الأخيرة منها (الشظايا الخمسمائة" أين يمضي هذا الذي لاتلمسه يداي") يتسم بالفرادة والانعطاف والتغييرات الواضحة على مستويات العنونة وبناء الجملة والمعجم والصُّورة والكون الشِّعري. وفي واقع الحال فما باغتَ "أدونيس" هو المنطق الذي كان ولايزال وفقه هذا "الأسلوب" وهو "منطق التقويض" على وجه التّحديد إذ يتأسّس على تحرير العلامات اللغوية من إرثها الدّلالي، التداولي من خلال الدفع بها إلى سياقات نصية غير متداولة حتى تتكلم اللغة بلغةٍ غريبةٍ على ذاتها، بل إن اللغة في نصية بركات تبلغ "الصَّمت"([4]) ذاته وتغدو خرساء، بكماء إلا قليلاً في هيئةٍ من "التحدي الوجودي"! هذا التقويض لم يصبِ العلامات اللغوية وحدها بل حتى البنيات النَّصية أي أشكال النّص وأنواعه وخطاب العناوين،إلخ؛ ليكون القارىء إزاء حدثٍ نصيٍّ فريدٍ وبتوقيع متفردٍ: (هكذا أبعثر موسيسانا، 1973، الجمهرات، 1978، بالشِّباك ذاتها؛ بالثعالب التي تقود الرِّيح،1986، طيش الياقوت، 1992، المجابهات، المواثيق الأجران، التصاريف، وغيرها، 1996 تنبيه الحيوان إلى أنسابه، 2019.. على سبيل المثال)، لكنَّ الكاتب، وبعد التساؤل عن استمرارية هذه المفاجأة من عدمها بكلّ ألقها ودهشتها، يحسم الأمر تماماً بحكمٍ باترٍ: "قطعاً لا"! بيد أن هذا القطع الحاسم بتلاشي "الوهج" عن كتابة بركات سرداً وشعراً يقتضي وحسب أصول النَّقد واشتراطاته نماذج، عناوين، شذرات نصية تحت طائلة التحليل من منجز بركات في المرحلتين الوسطى والراهنة شعراً ونثراً حتى يكون الحكم النقديُّ حاسماً أي يكون محايثاً للأعمال الأدبية وليس ضرباً من نزق القول.

وطالما أنَّ الكاتب لم يجد فاقةً لاستحضار أمثلةٍ من قبيل اليقين التام الذي يستغرقُ خطابَهُ بهذا الحسم، أي حقيقة ما اقتنصه من تقييم؛ فالعدالةُ تتوجّبُ مسايرة هذا اليقين التأكيدي ذاته والسّير به إلى راهن التَّحليل النقدي بصورةٍ مباشرة عبر التحايُث مع نصوصٍ لبركات. ويمكننا هنا تقديم خطاب عدة عناوين من شأنها تعكس شعرية بركات في مددٍ زمنية اجتازتها "المفاجأة اللغوية" لبركات وتجتاز فيها:

1ــ كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً، 1973.

2ــ بالشباك ذاتها؛ بالثعالب التي تقود الريح، 1986

3ــ المجابهات؛ المواثيق الأجران؛ التصاريف، وغيرها، 1996

4ــ شمال القلوب أو غربها (عشاق لم يحسموا أمرهم)، 2014

5ــ تنبيه الحيوان إلى أنسابه، 2019

 6ــ الشَّظايا الخمسمائة (أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟)، 2021

ربما المرء لا يحتاج هنا لأكثر من قراءةٍ بسيطةٍ، ليدرك أنّ كلَّ خطابٍ من هذه الخطابات يؤسّس لعالم دلاليٍّ مفارقٍ، وعلاماتٍ تنبىء بالمختلف والمغاير ومع ذلك نلمسُ بكلّ بساطةٍ تغيّر المنحى الدلالي إلى الانتقال من التعبير عن الذات (1) إلى التعبير عن العالم بعوالمه المتعددة (2، 3، 4، 5، 6). وفي العناوين الشعرية لبركات ونصوصها لا أثر للتماثل البتة، يحضرُ الاخـ(تـــ)ـلاف différance برمّته. هل يفتقدُ العنوانُ الأخيرُ: الشَّظايا الخمسمائة (أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟) إلى "جذوة التوهج، ودسم الألق، وعسل الدّهشةبالمقارنة مع العنوان (1)، قطعاً لا...! فهذا العنوان يُدخلُ الحيرة أكثر، لا الدَّهشة فحسب، في أفق التلقي فما هذه الشظايا المقصودة عدداً؟ لتنهض بعدئذٍ صورة استعارية بجماليات فائقة تستحضر اللامرئي بالمرئي: أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟ إنّ ما يجمع هذه العناوين ونصوصها يتمثّل بأسلوبية بركات، أسلوبية التقويض ذاتها، الأسلوبية الفريدة إذ شرعت بالانبثاق في المجموعةِ الأولى لتغتني عبر المجموعات الأُخَر اللاحقة تركيباً ومعجماً وصورةً وتجربةً تعكس علاقة الشَّاعر ذاته ليس بالمشهد الثقافي العربي وإنما العالمي أيضاً (يُنظر في “سليم بركات: لوعة كالرياضيات، وحنين كالهندسة: حوار وليد هرمز،2020)، فأسلوبية بركات ليست بتلك الأسلوبية التي تيبست مع انفجارها في المرحلة الأولى كما يرى الكاتب وإنما اكتسبت مع الفعل السَّردي أبعاداً أكثر ثراءً وجمالاً ومرونةً ويمكن للقارىء أن يلمس المنعطفات التي مرّت بهذه أسلوبية بركات السّردية من البساطة (قياساً إلى عمل بركات وليس بالإحالة إلى أعمال خارجية وطرداً مع الموضوعات السَّردية) كما في "السيرتان" إلى أسلوبية الاكتناز والقوة والجمال الفائق في (فقهاء الظلام، الريش، معسكرات الأبد، أنقاض الأزل الثاني) إلى أسلوبية مركّزة، تندفع بغموضٍ هائج [ثلاثية: الفلكيون في ثلثاء الموت: عبور البشروش(1)، الكون(2)، كبد ميلاؤس(3)، الأختام والسديم، دلشاد(فراسخ الخلود المهجورة]، لتأتي الأسلوبية ذات السّمت الميثولوجي [كهوف هَايْدْرَاهُوْدَاهُوْس، ثادريميس، موتى مبتدئون، السَّلالم الرملية، لوعة الأليف اللاموصوف المحيّر في صوت سارماك، حوافر مهمشة في هايَدْرَاهُوْدَاهُوْس، حورية الماء وبناتها، سجناء جبل آيايانو الشرقي، أقاليم الجن، موسوعة الكمال بلاتحريف (نشوء المعادن)، ميدوسا لاتسرّح شعرها]، لتليها تلك الأسلوبية بتوصيفها التاريخي(السَّماء شاغرة فوق أورشليم(1،2)، زئير الظلال في حدائق زنوبيا، سيرة الوجود وموجز تاريخ القيامة) وأخيراً الأسلوبية الواضحة، المرنة[هياج الإوز، سبايا سنجار، ماذا عن السيدة اليهودية راحيل، الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب]. بناء على ما تقدم لا يمكن الركون إلى "اليقين القطعي" الذي خرج به الكاتب في توصيف أسلوبية بركات (المفاجأة اللغوية) بكونها قد تخلّت عن ألقها ودهشتها وبشكلٍ قاطع! فهذه الأسلوبية في واقعها النصيّ خاضعة للفعل التاريخي للكتابة؛ فهي تحافظ على سماتها وتومىء إلى ذاتها (وهذه حال أيّ أسلوب) ولكنها مشرّعة على الآخر تفاعلاً واغتناءً وإثراءً.

هيمنة اليقين وإهدار التاريخ

يتراءى لنا أن "اليقين" هو الذي يراكم المساحة اللغوية في مقال الشَّاعر والرّوائي، بل هو الاستراتيجية التي يحكم بها على نصية بركات سرداً وشعراً، بوصفها أسلوبية ساكنة، بعيدة عن تلوثات التاريخ. يتحدّث الكاتب في هذا السياق عن أستاذية محمود درويش وأدونيس لبركات (افتراضاً أو حقيقةً) مع الإشارة إلى مرور خطابيهما الشّعريين في منعطفات القلق والتوتر والتطور عبر مسيرتيهما، إذ " لم يكونا مستقيمين، ساكنين، لا يشوبهما الصعود والهبوط. بالعكس من ذلك. تمثيلاً وليس حصراً تمكن مقارنة لغة قصائد “أغاني مهيار الدمشقي” بلغة قصائد “أوّل الجسد آخر البحر”. كذلك تمكن مقارنة لغة “حبيبتي تنهض من نومها” بلغة “الجداريّة”. ذلك أن الفروق على صعيد فنيّة اللغة بين “سجّل أنا عربي” و”تنسى كأنّك لم تكن” أو “لا شيء يعجبني”، أو “لاعب النرد”، واضحة، لا تخطئها عين الذائقة، وعين النقد".

بدايةً إنَّ التَّحليل النَّصيَّ لأعمال بركات لا تكشف عن أيِّ تأثير مارسته أعمال درويش عليها، بل العكس ربما يكون هو الصَّحيح وهو ما اعترف به درويش ضمناً:" "بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات"([5]). أمّا أدونيس فما يجمع بركات به هو السِّمة التقويضية لأسلوبيهما مع التأكيد أنَّ أسلوبية بركات هي الأكثر شراسةً وتحرُّراً من عبءِ التَّاريخ و"الجماعة" قياساً إلى أسلوبيةِ أدونيس التي حافظت إلى جانب ذلك على شيءٍ من الغنائية والاحتراس من الذهاب باللغةِ إلى حدودِ "الصّمت"، السِّمة المميزة لأدب ما بعد الحداثة([6])، كما فعل بركات...ومن ثمَّ يمكن وضع هذه "الأستاذية" تحت طائلةِ الشَّطبِ؛ لتُستبدل إلى "صَداقة" جامعةٍ بين سليم ودرويش من جهةٍ وانقطاع بين سليم وأدونيس([7]) من جهة أخرى.

وهنا نتساءل لماذا وسم التاريخُ بميسمه خطابي الشَّاعرين دون خطاب سليم بركات الشَّعري؟ قدّم الكاتب رشقةً من الأمثلة الدّالة على التغيُّر الذي أصاب خطاب الشَّاعرين على نحو نظريّ دون أيّ إجراءٍ تحليليّ، دون اللجوء إلى آليات الحجاج والإقناع في حين غيّب ذلك بما يخصُّ بركات للتأكيد على "اليقين" الذي يحرّك خرائطَ النظر لديه واتهام بركات بميتافيزيقا الثبات الأسلوبي. والسُّؤال الذي يندفع بذاته هل حقاً أنَّ أسلوبية (اللغة وفق الكاتب) ظلّت كما هي أو هي هي بلغة الفلسفة، أي هذه الأسلوبية لا تتجاوز مبادئ أرسطو في "الهوية"؟ لو شرعنا بأخذ السّرد لدى بركات في تمثيل زمنيّ؛ هل من الواقعيّ أنّ لغةَ بركات في "السّيرتان" هي ذاتها التي تتكرّر في "الريش" وفي ثلاثية "الفلكيون في ثلثاء الموت" لتتشاكل جميعاً مع لغة "دلشاد (فراسخ الخلود المهجورة)" و"الثلوج أكثر خداعاً في غابات التَّنُّوب"؟ ألا تفرضُ "الثيمات" السَّردية والنوع الأدبي على الكاتب معجماً مختلفاً ومبايناً عن معجم آخر يخصُّ ثيماتٍ أُخَر ونوعاً آخر؟ المنطق السَّردي يقول "نعم" بكلّ بساطةٍ ووضوح. والآن هل النَّسج الأسلوبي هو ذاته في "السّيرتان"، [حيث السّلاسة والبساطة والشّعرية والمعجمية] و"الفلكيون في ثلثاء الموت"، [حيث الإبهام والبنية المعقدة والموضوع المغاير والمعجم الفلسفي]، هل ثمّة من تشاكل أسلوبي بين العملين؟ إذا كان ذلك كذلك؛ فلنستدع شذرتين من النَّصين المذكورين إلى مشهد القراءة ونرى حقيقة الواقع النصي:

1ــ [كنّا صغاراً يا صاحبي، صغاراً جداً، مثل فراخ الإوزّ، واقفين على طرفين الشَّارع كسطور الكتابة. وكان ثمّتَ هرجٌ كبيرٌ مهولٌ. وكان المعلمون الذين يقفزونَ بين الصُّفوف ملوّحين بعصيّهم، أشبه بقططٍ مذعورة يصرخون:" انتبهوا، لوّحوا بأيدكم حين مرّ الرئيس..."([8])، (الجندب الحديدي، 1980]. 

2ــ ["الرغبةُ هي المشيئة الممتلئة بذاتها، نداء الشّكل إلى عافية ضروراته. سطوعٌ واحدٌ للماجن النبيل ظمآن إلى مرتبته. انتهاكٌ مأمولٌ، وإغداق شره من خزائن الأمل على ربيبتها المتاهة. بها يستعيد الجسد هبة انقلابه طريداً وقناصاً. يستعيد الفاحش الأكثر نقاءً في غور معناه"([9]) (الفلكيون: كبد ميلاؤس ـ ج3)، 1997].

ثمة مسافة زمنية بين النَّصين السّرديين (1980، 1997)، ولاريب أنّ القارىء لن يخطىء في إدراك الانعطاف الدلاليّ والرمزيّ والتركيبيّ المعقد والمعجم اللغوي المغاير الظاهر في الشّذرة الثانية بمواجهة البساطة والسُّهولة التي تجتاج الشَّذرة الأولى، فالمسافة الزَّمنية، بما تتضمَّن التغذية الذَّاتية على نصوصٍ متنوعةٍ مع ثيمات السَّرد ذاتها، لها فعلها وتأثيرها على أسلوبية اللغة بمستوياتها المختلفة. لكن بركات سوف يقدّمُ سرداً أكثر سلاسةً وغنىً لغوياً في روايته الأخيرة "الثلوج أكثر خداعاً في غابات التَّنّوب، 2021"كمثال على تحرّك أسلوبيته في بعدها التاريخي، بخلاف ما تُتهم به من سكونيةٍ متأبدة لايطالها التّغيير.

اللغة في ابتكارها الأدبي

في منعطف آخر من هذه العاصفة النَّقدية لنَّصية بركات المبثوثة في المقال؛ تأتي سمةُ "الإفراط في الغلوّ" التي يمكن التمثيل لها وفق الكاتب بالتلغيز اللغوي وشحن المعجم السّردي والشَّعري باللغة التراثية، الأمر الذي دفع بنصية بركات أو خياله إلى الاعتياش طيَّ التحجّر: "...وبذلك، الخيال الوحشي الشرس الرهيب الذي يمتلكهُ، صنع له بركات تابوتاً حجريّاً بالغ الحصانة من لغة كتب التراث، التي بقي أسيرها، وما عاد يقوى على مغادرتها." [ومن ثمّ بات بركات سجين أسلوبيته/ لغته، يتساءل الكاتب] هل لأنه هجرَ الواقع وتحوّلاته وتحديثاته، والتجأ إلى لغة، هي من التراثيّة والقاموسيّة بمكان، ما بات يصعب على أصحابها العرب فهمها وهضمها؟". أشرنا بجلاءٍ إلى أنَّ "المنطق التقويضي" الذي تتأسَّسُ عليه أسلوبيةُ بركات لا تتيح بأيّ حالٍ للغةِ التراثيةِ أن تتحكّم بخطابه الأدبيّ؛ فالخيالُ الأدبيُّ لبركات قائم على تحرير العلامةِ اللغوية من رأسمالها الدلاليّ والتّداولي بدفعها إلى سياقاتٍ تركيبيةٍ/ تغريبيةٍ تفقدُ وفق دلالاتِها الجديدةِ أية صلةٍ بمواقعها الدّلاليةِ السّائدةِ أو التّراثيّةِ وتفكيكِ العَلاقةِ الإحاليةِ مع العالم؛ لتغدو العلامة حرّة في انزلاقها الدلاليِّ وهذا هو الأصلُ في ابتكار العلامة الأدبية. وبذلك فأسلوبية بركات هي أبعد ما تكون عن القاموسية والتراثية التي وردت في كلام الكاتب، نتحدّث عن قاموسية العلامة وتراثيتها حين تُستدعى إلى السّياقات النّصية الجديدة دون إلحاق أيّ أذى بدلالتها المتحجّرة، لكنَّ هذا النمط لا حيّز له، لا قيامة له في شعرية بركات شعراً وسرداً. والصّواب أنَّ اللغة مع نصية بركات تقاسي من محنةٍ، تدخل في شهيق الصَّمت وتلك هي المعضلة، المعضلة في الاستقبال لا في النّصِّ، فنصُّ بركات يبدو من شدّة الانزياحات والانحرافات واللعب لا يعبأ بالمعنى الأحادي، المعنى المرسوم وفق ذائقة التداول والتراث أو القاموس، وإنما ينفتح على لامتناهٍ من الدّلالة، لذلك وصفته بالنص المفتوح على شهيق الصَّمت، فهل تنتمي المجموعة الأخيرة "الشّظايا الخمسمائة (أين يمضي هذا الذي لا تلمسه يداي؟) بهذه المفردات وهذا التركيب الفريد إلى "التراث"؟ يمكن للقارىء الكريم أن يستدرج أيّ نصّ لبركات إلى حقل القراءة، ليكتشفَ بأنه ليس بالنّص ــ السّهل، القابل للاصطياد في أول قراءةٍ، وإنما النصّ الذي يفرض كتابته وإنتاجه، النصَّ الذي يصنع قارئاً جديداً على وجه التحديد.

إنَّ العلامة اللغوية في نصية بركات تنعتق من عالمها القاموسي، التداولي، التراثي لتأتلق من جديدٍ، لتقول عالماً مغايراً، بل حتى تغدو النصية "لغةً ضمن لغةٍ" وهذا يشمل السَّرد والشّعر فكيف استنتج الكاتب الطابع "الماضوي" للغة بركات أو قربية من "الماضوية"، لغة عتيقة لا تمتّ إلى المعاصرة بصلةٍ، فحرف "الواو" في مفهوم "الماضوية" سمة للمبالغة، أي الانجرار إلى الماضي والاستغراق فيه. لنمتحن هذه "الخاصية" التي يقول بها الكاتب؛ ولأجل ذلك سأقتلع مساحةً نصيةً لا على التحديد من الرّواية الأخيرة لبركات، أي أنَّ هذه المساحة ستُقرأ في غياب السّياق، وبناء السّياق له وجودٌ استراتيجيٌّ لفهم أيّ نصّ ومن ثمَّ لأيّ شذرة مُقْتَطعة، لنرى هل هي لغةٌ ماضــ"و"ية وتفتك بها المراوحة ويسمها التكرار؟: [الفتاة الصغيرة، التي علّقت قطعة اللحم للوشا إلى غصن، هبّت راقصةً، ليس قربَ النار وسط قومها، بل من وراء ظهورهم، متقافزةً من جذع شجرةٍ مكسورة مستلقية أرضاً إلى جذع آخر، بذراعين مرفوعتين عن جنبيها إلى أعلى، وشعر خافق، معتم ليس أحمرَ، كما خمّنه لوشا من مرآة للمرة الأولى. البعد أعتمَ شعرها الأحمرَ، لكنه لم يُعتمْ حمرتَه في خيال لوشا. قفزاتها من دورة رقصها فوق الجذوع كانت غَدْرَ الحقيقة بنفسها على لسان لوشا بلا نطقٍ: "أنا أتوهّمُكِ، أيتها الفتاة"([10])]. هنا؛ القارىء الذي يمتلك قليلاً من "خبرة العالم"، يستطيع بسهولةٍ متناهية إدراج الشّذرة في عالم السّرد، بل قراءتها بعيداً عن فضائها الأساسيّ ويستنتج من اسم العَلم "لوشا" فضاءَ مغايراً وثقافة مختلفة، والشذرة بتمامها تتموضع في إطار الأسلوب الكنائي، القريب إلى الإدراك باستثناء جملة استعارية واحدة: "غَدْرَ الحقيقة بنفسها"، ولن يتوقف القارىء إزاءها لكونها ضمن سياق الشَّذرة وفي متناول اليد.

إنّ الرّواية الوحيدة لسليم بركات التي تبطش بأفق التلقي هي ثلاثية "الفلكيون في ثلثاء الموت" وتحديداً في الجزأين (2 و3) لكن هذه "الوعورة اللغوية" التي تسمهما لا تعفي القارىء من القراءة؛ فسليم بركات لا يقدّم نصّه سرداً وشعراً في صندوقٍ مغلقٍ، بل يُدرج الكثير من المفاتيح والعتبات مع النُّصوص التي تسمح للقارىء للدخول إلى عوالمها. ثمة الكثير من الأعمال العالمية التي تكتنفها صعوبات جمة من مثيل "عوليس" لجميس جويس، الرواية التي أسّست لمفهوم ما بعد الحداثة في الأدب. لكن هذا لا يمنع من الإقدام على القراءة وافتضاض سرّ الأدب. إنّ صعوبات التأويل تتضاعف مع شعر بركات لكن متى كان "الشِّعر" في متناول القراءة؟ هل أعمال أدونيس أو درويش ــ أتحدّث عن الأعمال الناضجة([11]) ــ سهلة الفهم؟!


الترجمة، قلق التأثر

يتناول الكاتب في مقالهِ مسألةً مهمةً للغاية وتتعلّق بقضية "الترجمة"، ترجمة أعمال بركات إلى اللغات الأخرى ولاسيما الأوروبية وهي حقاً ضعيفة ولاترتقي إلى المستوى المطلوب ويرى الكاتب بأنَّ لغة بركات الشّائكة هي من تتحمّل المسؤولية إذا ما تجاوزنا بعض الأمور الجانبية، يكتب: "... وأقصد هنا، مسؤوليّة لغته التي بقيت ملتبسة ووعرة، وبحاجة إلى قرّاء ضالعين في اللغة العربيّة، وبل في النقد أيضاً، حتّى يفكّوا عويص طلاسمها واشتباكاتها وسيماءاتها عليهم أن يكونوا فقهاء في التأويل واجتراج التفاسير، حتّى يمكنهم فهم بركات ولغته وهضمهما. ذلك أن ما يصعبُ على القراءة والفهم، لن تكون ترجمته سهلة". لا يصمد هذا الكلام إزاء الواقع النَّصي لبركات؛ فإذا كانت ثمة أعمال عويصة على الترجمة، فكثير من أعمال بركات قابلة للترجمة عندما تتوفّر إرادة الترجمة: [السّيرتان، فقهاء الظلام، الريش، معسكرات الأبد، أنقاض الأزل الثاني، عبور البشروش، سبايا سنجار، ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟ الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب]، الأمر هنا مرتبط بغياب مؤسّسات الترجمة أكثر من أيّ شيء آخر. سأتجاوز قضتي ["العزلة"، و"الجائزة الأدبية"]([12]) إلى مناقشتها في هامش هذه القراءة؛ للتركيز على تفسير هذا "النقد العَاصف" على "نصيّة" بركات، وهو "نقدٌ" يعثرُ على مشروعيةِ وجودِهِ ضمن نظريةِ النّاقد الأمريكي هارولد بلوم "قلق التأثر"([13])، لتفسير الفعل الأدبي ومن ثمّ يمكننا التنائي عن أيّ تفسيراتٍ أُخَرَ لا تخدم الحقل النقديّ، وهذا ما سأعملُ عليهِ هُنا:

وفقاً لفرويد فإنَّ "الابن" يرى في "الأب" بوصفه "منافساً خطيراً"، وباستعارة هذين الطرفين إلى المشهد الأدبيّ يتحوّلُ الأدبُ إلى [استعارة حرب]، ساحةِ صَراع بين كاتبين: اللاحق والسَّابق. وتحت وطأة "قلق التأثير" يسعى "الابن"/ الكاتب اللاحق ــ في هذه الحرب المستعرة ـــ إلى مكافحة آثار"الكاتب السَّابق" والتقليل من شأنهِ وأثرهِ، فالأمرً يقتضي التقليل من "العبء المقيّد الثقيل للكتّاب السَّابقين"، فثمة محاولة، محاولات لاغتيال "الأب/ الكاتب السَّابق" سواء على صعيد التَّناص مع آثاره، أي محاكاته بقصد الاختلاف والانحراف والسُّخرية أو انتقاده بتفريغ قوة الكاتب ــ الأب من محتواها لخلق مسافةٍ معه والتنائي عنه. وفي هذا الصَّدد ليس من الصعوبة بمكانٍ أن نمسكَ بمحاكاةٍ تناصية انتهجها الشَّاعر هوشنك أوسي في مساحاتٍ نصيةٍ معتبرةٍ في مجموعتيه الشّعريتين (قلائد النار الضّالة: في مديح القرابين([14])، 2016/ لا أزلَ إلا صمتك، لا أبدَ إلا صوتك، 2020)، وفي هاتين المجموعتين فإن التقاطعات التناصية الجارية تكمن في محاكاةِ أسلوبيةِ بركات، القائمة على ممارسةِ أقصى الانزياح والانحراف للمعنى. وتبدو محاكاة هوشنك تتنزل في سياق التماثل والتشاكُل مع بركات بعيداً عن استراتيجيات الانحراف أو السُّخرية أو التناقض والانقطاع والتفوق؛ لذلك سيعثرُ القارىء على صوتَ "الشَّاعر اللاحق ــ الابن"، مبحوحاً يكاد يختنقُ من الإرهاق والإجهاد تحت وطأة قوة صوت "الشَّاعر ـ الأب"، صوت سليم بركات الذي ظلّ قوياً بحضوره. ولكون المقارعة الشِّعرية قد فشلت نصياً فقد انتقل هوشنك إلى صياغة أسلوب ملائم لصوتهِ الشّعري [وحسناً فعل] كما في مجموعة "بعيني غراب عجوز، 2020"، أيْ أنَّ الانتقال إلى الصّوت ــ الخاص حدثَ بفضل وتحت ضغوط صعوبة قتل الأب وقوة خطابه، فآثر الشَّاعر اللاحق البحث عن ملاذ آخر لصوته. من هنا أيضاً يأتي مقال الكاتب الانتقادي في الإحاطة بعالم سليم بركات الأدبي، على هذه الصُّورة، من منظور "قلق التأثر"([15]) من قلب المسرح الأدبي، سعياً للبحث عن حضورٍ للكاتب، عن مكانٍ له، لكن من وجهة نظري المتواضعة جرى الحدث باستراتيجيةٍ تفتقد إلى الحِجَاج النقدي والإقناع؛ لينتهي الأمر بمحاولةِ اغتيالٍ فاشلةٍ وفق مفاهيم قلق التأثُّر! ذلك أنَّ الانتصار في حربٍ إبداعيةٍ يقتضي تقديم نصوصٍ أدبيةٍ قويةٍ ومفارقةٍ ولاسيما في مواجهة نصية لا تعرف المهادنة والسُّهولة لا بالاتكاء على آراء نقدية قادمة من مهبّ الانطباع.

أخيراً؛ نصيةُ بركات ليست بالعمل الطارئ والسّائد على الأدب، بل يمكن اعتبارها واحدة من أكثر النَّصيات غرابةً وجمالاً وانتهاكاً وسفكاً للمعايير الكتابية السَّائدة، إنها بمنزلة صَدعٍ، هوّةٍ، "لغةٍ أجنبيةٍ" في العربية ذاتها، علامة فارقة باتتْ رأسمالاً رمزياً ولذلك تحتاجُ إلى استراتيجياتٍ مغايرةٍ في القراءة والتأويل، والنَّصيّة ــ السرّ هي التي لا تستلم وإنما تستمرّ في تحدّيها وهذا ما تتميز به أعمال بركات باقتدار، أعمال تترقّبُ الفعل النّقدي لكشف أسرارها وجمالياتها لتعميق تجربتنا بالفعل الأدبي في علاقته الجمالية بالعالم وبذواتنا.







 


([1]) ـــ هوشنك أوسي: عن سليم بركات الذي جارتْ لغتهُ على خيالهِ، موقع درج، 30 يناير، 2022:

https://daraj.com/86043 /

([2]) ـــ أوظّف هنا فكرة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز عن مسألة الأسلوب، ينظر: ألف باء دولوز: جيل دولوز ـــ كلير برنت، ترجمة: أحمد حسان، القاهرة: مصر المحروسة، ط1، 2018، ص 165ـــ1969.

([3]) ـــ وفق آراء كبار أدباء العربية وغير العربية؛ فإنّ نصيات سليم بركات شعراً وسرداً تسكن المغايرة والإدهاش ومنسوجة بتفرّد عميق، يكتب [الكاتب والمترجم الإسباني الكبير خوان غويتيسولو، لقد كتب حول الانطباع الذي تتركه لديه تجارب سليم بركات الأدبية:

إنَّ نثر سليم بركات، مثلما هي الحال عند خوسيه ليزاما ليما، يمثِّل هبة دائمة من الابداعات المنعشة والصور المُلْهِمة والاستعارات غير المتوقَّعة وشرارةً شعريةً وكلمات مُجنَّحة - مزيج هائل من الحلم والحقيقة، من أسطورة وتاريخ مرير لا يخضع لقوانين الزمان ولا حتى لقوانين المكان. وبالإضافة إلى ذلك يكتب خوان غويتيسولو: "النصُّ يتحرَّك داخل نوع من الجغرافيا البصيرة، بين معالم عابرة ومُتغيِّرة: تظهر كردستان ألف مرة في الحلم، كنقيض للحياة في قبرص. تختلط الطفولة بعالم الكبار، والواقع بالخيال. "مِمْ آزاد"، الشخصية الرئيسية في الرواية، يتم تحويله: مرة إلى عصفور ومرة أخرى إلى ابن آوى. ويتحدَّث مع البشر وكذلك مع الحيوانات. سليم بركات يطلق لإبداعه العنان ليتجاوز حدود المعقولية". ويضيف: "حتى وإن لا يُصَدِّق البعض ذلك: فإنَّ ثروة سليم بركات الإبداعية والإنشائية غير مستمدة من فولكنر ولا من غارسيا ماركيز. في أعماله نجد طبقات غير متناهية من الأساطير والخرافات وذكريات المآسي الماضية والحالية. وتحت سطح كلِّ ذلك يكمن تاريخ كئيب للمدينة التي ولد فيها".] محمود حسني: الأديب السوري "سليمو": سليم بركات ترجمة: رائد الباش، حقوق النشر: موقع قنطرة14‏/04‏/2017



([4]) ـــ في نصوص مثل "المجابهات والمثاقيل والمعجم" وفي عدد من الروايات يغدو الفعل التواصلي بصورته الاعتيادية في محنة حقيقية، فهذه الأعمال تحتاج إلى قارىء يقظ...

([5]) ـــ عمار الشقيري: محمود درويش وسليم بركات، موقع ثقافات، 1 أغسطس، 2013:

https://thaqafat.com/2013/08/21164: ” أبكيتني مرّتين، يا محمود. مرّة حين رميتَ على عاهن البسيط كلماتٍ لم أصدّق أذنيَّ أنني أسمعها. قلتَ، بالإنكليزية، في ندوة جمعتنا بإحدى مدن أسوج: “بذلتُ جهداً كي لا أتاثر بسليم بركات. وإذ صدّقتُ أذنيَّ، اغرورقت عيناي، بل بكيت صامتاً: جليلٌ مثلُك، ضمّ عصراً أدبياً إلى ظلّه، لا يحذر اعترافَه العابرَ، الذي يُبكي مثلي “: سليم بركات/ تأخرت يا محمود / النهار 8 ديسمبر 2008.

([6]) ـــ يمكن إحالة القارىء بخصوص سمات أدب مابعد الحداثة إلى أعمال الناقد الأمريكي إيهاب حسن ولاسيما: تقطيع أوصال أورفيوس، ترجمة: سيد إمام، البصرة: دار شهريار، ط1، 2020.

([7]) ـــ لا معلومات موثقة لدي عن استمرار العلاقة بين سليم وأدونيس بعد الاحتفاء الأولي لأدونيس به وطباعة نصوصه الأولى...بخصوص ذلك ينظر حديث سليم عن أدونيس عن البدايات الأولى: لوعة كالرياضيات وحنين كالهندسة: سليم بركات، حوار: وليد هرمز، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2021.

([8]) ـــ المقبوس من سليم بركات: السيرتان، بيروت: دار الجديد، ط1، 1998، ص 21، مع الإشارة إلى الطبعة الأولى للجندب الحديدي كانت في 1980 وهاته عالياً، هات النفير على آخره في 1982.

([9]) ــ سليم بركات: الفلكيون في ثلثاء الكون: ج3 (كبد ميلاؤس 3)، بيروت: دار النهار، ط1، 1997، ص111.

([10]) ــــ سليم بركات: الثلوج أكثر خداعاً في غابات التنوب، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1ـ 2021، ص294.

([11]) ــــ ثمة أعمال لدرويش [قصيدة الهدهد مثلاً] وأدونيس [المطابقات والأوائل مثلاً] لا تقلّ صعوبة للتأويل عن أعمال سليم بركات...

([12]) ـــ لا أعتقد بأنَّ "عزلة" بركات بمنزلة تسّجيل نقاطٍ عليه، فالعزلة شأن شخصيٌ أولاً وأخيراً كما يمكن بسهولة تأويل هذه "العزلة" بأنها "عزلة العمل الأدبي"، العزلة من أجل "العمل الأدبي" المفارق والمربك في تجربة بركات، العمل الذي لا يشبه أية أعمال سابقة ...العمل الذي لا ينتهي وربما هذه الغزارة التي تتدفق من لدن بركات تفسّر لنا هذا الاعتكاف والإخلاص للعمل. وشخصياً لا معلومات لديّ في هذا الجانب. لكنني يمكن أن أتساءل ما إذا كان للانبساط والتعامل اليومي من عدمه أي أثر في رفع القيمة الفنية للعمل الأدبي؟

في نقطةٍ أخرى يقف الكاتب عند فكرة "الجوائز" ويفسّر الكاتب عدم احتياز بركات على "الجوائز العربية بالقول".... ذلك أن لجان التحكيم في الجوائز الأدبيّة لا تنتمي إلى العصر العبّاسي، أو الفاطمي، أو الأيوبي، أو المملوكي، أو العثماني… حتّى تستعذب لغة بركات، وتهضمها، بل هم أبناء عصرهم، ومدارسه الحديثة في النقد.". والسُّؤال كيف هم بنقاد أدبٍ وليسوا بضليعين في الأدب واللغة؟ فلجان التحكيم لها سياساتها وطرائقها والإكراهات، بل الإرادات المفروضة عليها. ومن جهة أخرى؛ فالكاتب حينما يكتب لا يكتب وفق "معايير نقاد لجان تحكيم الجوائز" ليفوز بجائزةٍ وإنما يكتب تحت وطأة أصالة العمل الأدبي، نداء الأدب ذاته هو الذي يفرض شكل النص ولغته. بهذا الصدد يجدر بالتذكير: أُزيح تولستوي عن الفوز بجائزة نوبل وقت ذاك لصالح كاتب سقط اسمه من التاريخ كلياً لكن أعمال تولستوي لاتزال تتألق وتصنع الجمال...!

([13]) ــــ ينظر باول إندو: بلوم، هارولد ج (2): نقاد، ص147ــ 149، وقلق التأثر ج(3) مفاهيم، ص22 ــ 24 ضمن كتاب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة: حسن البنا عز الدين، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط 1، 2017.

([14]) ـــ خالد حسين: قلائـد النَّـار الضَّالة: دلالات العنوان، مجازفة المُحاكاة واستعادة الصوت، موقع رامينا نيوز، 24أغسطس، 2021.

 https://www.raminanews.com/research/klad-alnar-aldal-dlalat-alaanoan-mgazf-almhaka-oastaaad-alsot


([15]) ــــ أي لا يخرج المقال عن أحداث الفضاء الأدبي وما تفترضه هذه الأحداث من حرب مستعرة بين اللاحق والسّابق ويحدّد هارولد بلوم عدة محدّدات يتبعها الكاتب اللاحق للفتك بالكاتب السّابق من مثيل: "الانحراف (إفساد الشاعر/ الكاتب اللاحق لرؤية الشاعر/الكاتب السابق) والانقطاع ( قيام اللاحق بالتقليل من شأن السابق أو تفريغه من محتواه [تماماً هذا مالجأ إليه الشاعر والروائي هوشنك أوسي في علاقته ببركات، يكتب: "ما مدى صواب الحديث عن الإبداع مع حضور التكرار والمراوحة اللغويّة، أو عدم التزحزح اللغوي عن تلك التقنيّات والسياقات والمعاجم التراثيّة، في تجربة سليم بركات؟"] ثم التفوق ــ المضاد(أي بوضع التفوق اللاحق أمام تفوّق السابق)،...إلخ...ينظر باول إندو: قلق التأثر ج(3) مفاهيم ضمن كتاب موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة، مرجع مذكور، ص23.

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية