في صفة الحدودية، تحضر الجغرافية، وثمة سقف تاريخ لا يستقر في تكوينه وتلوينه، وفقاً للدائر في النطاق الجغرافي، وهو أكثر من كونه نطاقاً طالما أنه غير مأخوذ به في ثباته. الجغرافية حدود، وما أكثرها وأسخنها وأكثرها توتراً من حدود، وهي تحمل ألقاباً، صفات، تصورات، تسمّي لغات، بشراً، أمماً وأنظمة سياسية..الخ.

من البؤر المتنوعة لهذه الحدوديات اللامستقرة، كما هو عالمنا، كما هو عالم اليوم، بصورة أكثر حضوراً وسفوراً بالمعاني المتشابكة، تكون للغة التي تحمل هي الأخرى صفة اسمية، لغة لا ينبغي النظر إليها مجردة، محكومة بنا حصراً، ففيها ولها ذاكرة تعلِم حملتها بما آل إليهم أمرهم، وما يمكن أو ينتهوا إليه هنا وهناك، لغة مشغولة بالدائر هنا وهناك، حيث الرواية ذات الحظوة في حيازة مساحة واسعة منها، على صعيد الانتشار أو الانكفاء، أو التوتر الحدودي، هي التي تتقدم بخاصيتها الكبرى هنا.

صفة الحدودية التي تكون مفرداً بصيغة الجمع، في وضعها هذا، أو حدوديات عند إطلاقها هكذا، تدمغ كل كتابة، غير أن الرواية عبْر وساعة مساحتها الجغرافية، وما تتضمنه من علاقات ونوعيتها، في المكان والزمان، تكاد تحصرها داخلها أكثر.

حدود القول، وما يكون القول بطبيعته، والقائل ومقامه، والحدث ومتغيراته...إلخ، علامات حدودية فارقة. ولا أعتقد أن هناك روائياً ما، أياًّ كان، ليس لديه هذا " المستخدَم " الحدودي، أو الشاغل الحدودي، أو الحدود ذات المأثرة الجغرافية وحاملها التاريخي.

ولعل أكثر مَن يتعرض لوطأة الحدود وعائدها السياسي والاجتماعي والثقافي، هو الأكثر توقعاً في التأثر بما هو متحرك وموجَّه حدودياً، أو الاكتواء، حيث لا تكون الحدود شريطاً فاصلاً بين جغرافيتين، وإنما العلامة الكبرى للمتشكل جغرافياً بإحداثياتها السياسية. وليس من قبيل المبالغة القول: اذْكر الحدود يحضر الكردي، أكثر من سواه، جرّاء تمزقاته الحدودية، كما هو معلوم.

هل من غرابة، في الحالة هذه، أن نتلمس في أفق متخيل الكاتب الكردي، والروائي في المقدَّمة، إلى جانب المحفّز له على الكتابة، وميكانيزم الفعل المركَّب: النفسي – الذهني، هذه الحدود التي تمضي بخاتمها على مجمل ما يكتب، ما يواجهنا بالحدود داخلاً وخارجاً ؟

إنه شاهد عيان، كما آثر أن يكون في لحظة مدرجة في التاريخ، زماناً ومكاناً، كما لو أنه يقاوم هذه الحدود، توسعة، وتعميق أثر ومكاشفة المخبَّأ، بما يكتب، لتكون الكتابة حفْراً في القائم !

وهو بالطريقة هذه، مساح حدود، متحرّي المتشكل ِ حدودياً، والقوى الفاعلة في ذلك، حيث يحرَّر الزمن نفسه من أبعاده: ماضياً، حاضراً، ومستقبلاً، وهنا تكون فتنة كتابة الرواية ورهانها الصعب بالتأكيد. فالمتكلم الحدودي ناطق رمزي بحدود تحمل بصمته، وخاصيته الإبداعية.

ربما من هذه النقطة المحورية، يكون للكاتب الكردي جان دوست هذا الحضور الحدودي، الرحالة الحدودي، إن أخلصنا للعنوان وترسيماته القيمية، يكون انتشاره، وهو المنوّع في الكتابة، بأكثر من لغة: كتابةً وترجمة، سوى أن الكردي كلغة ثلاثية الأبعاد، وهي ترسم حدود مأثرتها التاريخية، وعلامة وصْلها الجغرافية، ببشرها وصيرورتها، وكيف تتشكل مواقعها داخلها، على تخومها وخارجها، يظل مُعنىً به في الاعتبار الأول.

من الاهتمام بما هو تراثي كردي" مم وزين ": الخميرة الفاعلة بعمق في بنية تكوينه النفسي، إلى الاهتمام بالشعر الكردي وترجمة نصوص منه إلى العربية ومزاولته ، وكذلك، بما سطَّره ملا محمود البايزيدي عن عادات الأكراد تقاليدهم، كما سنرى، وسوى ذلك من الانشغالات الأخرى، ليكون لدينا داخل دوست : بيت بمنازل كثيرة، ولكل منزل ما يميّزه عن سواه ويتفاعل معه .

أن نقرأ هذا العدد المحسوس بمحتواه: دزينة من الروايات، هي حصيلة ما طرحه خارجاً بمتخيله الإبداعي، وشملت رواياته هذه حدوداً شتى، سوى أن الكردية فيها لماحة أكثر، وعلى وقع انتثارها والاهتمام بها كردياً وعربياً، يعني أن هناك استحقاقاً لهذه العناوين للنظر فيها.

من " مهاباد " إلى " ثلاث خطوات إلى المشنقة " إلى " ميرنامه " إلى " كوباني " إلى " ممر آمن " إلى " مخطوط بطرسبورغ "، و" الكوردي سيبس- سيرة خبات "، ...إلخ، يكون رصيده غير النافد طبعاً من المأثور الروائي.

إن الوقوف عند روايته " مخطوط بطرسبورغ : سيرة رجُلين" يتعزز من خلال المثار فنياً فيها.

فأنا هنال أزعم، أن دوست حاول أن يقدّم أجوبة، من معبَر الرواية هذه عن أسئلة راهنة كردية وأبعد. وإذا كان لكل رواية تاريخها، فإن تاريخ الرواية هذه، وعلى صعيد المحتوى، هو أنها لا ترسم حدوداً، لا تسمّي تاريخاً كعادة الجغرافيين، والسياسيين بالمقابل، وإنما تثير أسئلة تبلبل ذاكرة واضعي الحدود، وتقلق واعية المؤرخ نفسه. تاريخ الرواية ليس رواية تاريخ، ولو أن الأمر خلاف ذلك، فماالذي يشدنا إلى قراءة الرواية، وثمة كتب كثيرة تحمل صفة تاريخ؟

إن القراءة الممكنة هنا، تطوف حول الأجوبة ولا تسمّيها، لأن في ذلك استحالة، إذ ليس المطلوب من أي قراءة الرهان على أجوبة مضمرة في واعية الكاتب، حتى وإن أفلحت في تشخيصها، فثمة ما لا يحاط به، كما هو الممكن النظر فيه، جهة الرواية مفهوماً !

سأنطلق هنا من مقولة لموريس بلانشو، ذات موشور فني: روائي: سوء النية la mauvaise foi وانشغلَ عليها وبها مكسيم دوكوت وخلافهما طبعاً. وأسعى إلى تفعيلها بما يتناسب وحيوية الرواية الدوستية " أسمّي الدوستية انطلاقاً من كون الرواية تحمل بصمته، وتبقي القارىء لها في نطاق مأثرة الاسم هنا ".

إن القراءة التي أتقدم بها هنا، هي التي تفصح عما هو منوَّه إليه، حيث " الدوستية " علامة تحكيم،ما دامت القراءة قائمة هكذا!

في " سوء النية " ما ينزع القارىء عن يقينه، لأن الرواية تحرّك الساكن، وربما تحيل سواد العين بياضاً، لتكون القراءة من البصيرة، كما لو أن تعميداً لعالم مثير، هو الحادث هنا.

سوء النية محرّر الكتابة، والروائية منها في الصميم، من كل دوغمائية، أو ثبات معنى مزعوم بالمحْكَم، أو أحادية دلالة، أو صفة محورية، أو تمركز قيمة محددة.لدينا أوقيانوس من الدلالات في بنية النص.

ولعل قارىء السيرة المقتضبة لدوست وهو مولود في" كوباني " ومقيم في ألمانيا، ويحمل جنسيتها، ورحالة حدودي، وبين ثقافات، يعاين هذا المتعزز حدودياً، وما يترتب على هذه المتابعة: قارئه قبل الإقبال على قراءة روايته، غيره بعدها !

القارىء نفسه يصاب بعدوى المدفوع فنياً في شبكة النص الروائية، في نسيجها اللحمي الحي، إنه، وبوصفه قارئاً فعلياً، يواجه مكوّنه الثقافي، وما هو عليه نفسياً، وما الذي يتنفسه اعتبارياً. هنا يكون جانب الخلق روائياً .


جان دوست: قارىء تاريخ وكاتب روايات تواجه التاريخ الموضوع

إذا كان هناك مِن هم محوري يشغل ذهن جان دوست، فهو التاريخ! هذا لم يتشكل اعتباطاً !

إذ يعرف الكردي البسيط، ما ألمَّ به كثيراً من دوامات التاريخ، وألاعيب سياسات الأنظمة التي مزَّقته جغرافياً، ومثّلته بالإكراه تاريخياً، ومن يتحدثون بلسانه أيضاً، ليكون ولا يكون، أي يجرَّد من كونه الكردي الذي يعرَف بمكانه وزمانه !

بناءً عليه، لا يكون انهمام دوست بالتاريخ، إلا ليدفع به إلى السطح، وتشريح القوى الفاعلة فيه، ليكون المندرج تراثياً، ذا حمولة تاريخية، تعرض " بضاعتها " الرمزية راهناً. كما في حال : مم وزين " الملحمة الكردية الشعبية الأصل، والتي اهتم بها كثيراً، كونها تستجيب لطائفة من التأويلات وتنفتح عليها، بوصفها علامة قومية وامضة!

ورواية " مخطوط بطرسبورغ- سيرة رجلين " الصادرة عن دار الرافدين لعام " 2020 " في رتبة لاحقة على روايات عدة سبقتها من شقيقاتها ذات النسَب التاريخي، إنما المحفّز الجغرافي والسياسي حاضراً.

ربما هكذا هو واقع الحال مع " ثلاث خطوات إلى المشنقة " مع ثورة الشيخ سعيد، سنة 1925، وما جرى في جمهورية مهاباد، سنة 1946، من خلال " مهاباد "، وما هو واقع الكرد في تاريخ أقدم،في " ميرنامه: الشاعر والأمير " حيث يحضرنا وجه الشاعر الكردي الشهير أحمد خاني، وما يشكّله هذا من عجينة روائية بخميرة تاريخية معينة !

في " مخطوط بطرسبورغ " ما يوسّع حدود أثر الكردي، ما يخرجه عن حدوده المعلومة في الذاكرة الجمعية، وما يهيب بالكردي لأن ينظر في كارثة جغرافية الكردي، وتأتأة تاريخه تحت وطأة المتداول سياسياً هنا وهناك.

ماالذي يصل الكردي، ودوست في مبتدأ القول، بهذا الاسم النائي عن الكرد جغرافيا: بطرسبورغ ؟ إنه ذلك الشريان التاريخي والثقافي الذي يبصّر الكردي بموقع بطرسبورغ، وما كانت عليه تاريخياً، جهة علاقة روسيا بما كان عليه الكرد سياسياً، على حدودها وفي العمق. إنها ذاكرة تاريخية ساخنة ومدماة بأكثر من معنى جهة المسمى كردياً.

مخطوط بطرسبورغ: المدينة الروسية العريقة، هو مخطوط كردي أولاً وأخيراً، وهنا ندرك في الحال، وقبل أي شيء آخر، كيف تتلاعب الأسماء، وتتنازع فيما بينها، لتسمي أمكنة وأزمنة،وتتفاوت مراتبياً، كما لو أن اسم بطرسبورغ الذي ينحّي مخطوط الكردي عالي القامة والعلامة ملا محمود البايزيدي الذي رحل " عنا " منذ أكثر من قرن ونصف القرن " عاش تقريباً بين عامي 1799-1868 " يترجم سياسياً وينير ثقافياً مسيرة الكردي في تاريخ ماكر.

يستخدم دوست تعبيراً قديماً، ومألوفاً في علاقته بالتاريخ، وهو أن يكون " مطيّة ". طبعاً هو أكثر من كونه مطية، بما أن المتشكّل من ذاكرة خيال الكاتب، وليس من أرشيف المؤرخ بالحرف، حيث تختفي المطية على وقْع المعمول به فنياً، وهو تاريخي جهة الاستدعاء أو الذهاب إليه، وكليهما معاً.

ففي حوار معه بتاريخ 30-7/ 2019 عن سر اهتمامه بالتاريخ وجانب الرواية المأمولة به، نقرأ:

( التاريخ مطيتي لنشر أفكاري. إطار لا بد منه ليس لأنني مهووس بالتاريخ ويشدني إليه حنين أو ما شابه ذلك. بل لأن التاريخ هو الحاضر بعينه الذي نعيشه. لا يتغيّر شيء. أنا لا أكتب رواية تاريخية، بمعنى لا تهمني الفترة التاريخية التي تجري أحداث رواياتي فيها بل الوقائع نفسها هي التي تشغل بالي. الأفكار التي يتجادل بها شخوص رواياتي، تفكيرهم، نظرتهم إلى الآخر، إلى المكان إلى الوجود. هذه الأمور تشغلني أكثر بكثير من الفترة الزمنية التي تجري فها الرواية. الزمان عندي عجينة يمكن صنع أي شيء منها. التاريخ حيلة ألجأ إليها للحديث عن الراهن البشع، راهن الحروب والكراهية والقتل وسفك الدماء. لكن ينبغي القول إنني وفيّ للمناخ التاريخي..).

فكرة " المطية " التي أشرتُ إليها آنفاً، قد تصبح " مطباً " عند الفشل بتفهم لغة التاريخ، وصعوبة التعامل معه من خلالها، وهو في طبقاته، وأغواره،وما يستدعيه فعل الفهم والتفهم والمصاحبة المثمرة من حوارمتقن، يُراعى بدقة !

وهوس التاريخ يحرّر التاريخ من نظام العمل به، وجهة واضعه، ليكون مادة جار ٍ استقطارها، أو استثمارها، فلا يعود لهذا التاريخ جهة، ومقاماً، وكائنات، من وجود، وقد جرى " هضمه " وجعْله " عصارات " في الجسد الروائي.

كما لو أن دوست في إجرائه هذا يحمل بين جنبيه بصيرة ناقد تاريخ، وواعية روائي لا يغفل عن لعبة التاريخي. إنه الشغل الشاغل بالجرائم المرتكبة باسم التاريخ وعنفها البنيوي وضحاياها، وما في ذلك من استنطاق لها !

إنه الانجراح التاريخي بما يتعدى التاريخي وهو في وضعية المدوَّن. جرح الجسد الكردي من هامة رأسه إلى أخمص قدميه، وهو متنوع في أصنافه النازفة ومسبباته وتداعياته، ولا زال يستمر بآلامه إلى الآن.

من هنا، يأتي مفهوم " الهوس " أكثر من كونه محوَّلاً "مرضياً " بما أن المأخوذ باسمه يطرَح روائياً.

إنه هو نفسه من يشير إلى التوأمة التاريخية- الجغرافية، وما يرفد النص الروائي تاريخياً، ومن خلال حوار معه، حول عمله هذا، بتاريخ 13 -12/ 2021 ، حين يقول عن خاصية روايته هذه( أعتبر هذا العمل محاولة للخوض في التاريخ الذي رسم للكُرد أقدارهم السوداء. وظل يحاصرهم ويلاحقهم حتى جردهم من عباءة الحرية. في هذه الرواية يمكن الاهتداء إلى بعض الخيوط التي تؤدي بالقارئ إلى العثور على العلة الكامنة التي جعلت الكرد خارج التاريخ.)

وما يثير الوضوح المأتي عليه وضوحاً ( صحيح أن فكرة البحث عن مخطوط أو كتاب غابر أصبحت ثيمة أثيرة لدى العديد من مشاهير الرواية في العالم، إلا أن روايتي تتحدث عن مخطوط حقيقي ضاع أثره، مخطوط جمع بين دفتيه جزءاً مهماً من التاريخ الكردي. ربما تتقاطع بعض الأفكار وأساليب السرد بين رواية وأخرى، لكنني في الحقيقة لست مهتماً بالسير وراء "الموضة الأدبية". علاقتي بالتاريخ علاقة قديمة، وقد كتبت أولى رواياتي الشعرية وأنا شاب صغير وكانت رواية تنهل من التاريخ.).

إنها مكاشفة لكارثة التقدم، بتعبير فالتر بنيامين، حيث التاريخ الكردي عاصف وسْفر لدرب آلامه الكبرى.

وليس صنيع الروائي الذي يستقرىء لحظات التاريخ " بالمكبّر "، إلا هذا المأثور الأدبي: الروائي، حيث يكون بـ" المرصاد" لما هو مدون تاريخياً، وهو يستشعر أنه موجَّه ضد مكوّنه الثقافي أو القيمي عموماً والكردي خصوصاً.

إن المنشور على غلاف الرواية، أشبه بالهداية إلى جانب الدراية بواقع أمرها، وأنا أورده ليقرَأ بسهولة أكثر:

( يتقفى جان دوست في هذه الرواية آثار مخطوط ضائع كتبه الملّا محمود البايزيدي في منتصف القرن التاسع عشر بطلب من القنصل الروسي أوغست جابا في مدينة أرضروم، مخطوط عن تاريخ الأكراد وثقافتهم كُتب ليحفظ ذاكراتهم في رفوف الأكاديمية الروسية في بطرسبورغ، ولكنه ضاع وضاعت معه قطعة من الذاكرة. وهكذا تغدو الرواية رحلة بحث للعثور على الكنز الكردي المفقود، كنز الهوية والمصير المحفوف بالمحن.

ولئن ضاع المخطوط وتلاشى الخيال الروائي الذي نفخ فيه الروح فدوَّن التاريخ وسرد وقائع شاءت الأقدار أن تخرج من السراديب. فليست الحقيقة دوماً صنواً للتاريخ والواقع، وإنما قد يُنتج الخيال الخارق كنزاً حضارياً أغنى معرفةً، تحتضنه المكتبات وتتداوله الأجيال. أفليس الخيال الخلّاق على رأي جان دوست هو من يرمّم ثغرات التاريخ ثغراً ثغراً ؟).

طبعاً من حق القارىء السؤال عن المنتقى من القول التعريفي- التوصيفي لكلمة كهذه، ومن يكون الكاتب، وكيف، لأن هناك ما يشبه الاستشراف في أصل المثار، ما يشغل القول حدودياً، وليس المقرَّر هنا هو المقرَّر المتوقع في واعية القارىء، طالما أن الذي يسطَّر باسم الروائي يتجاوزه هو نفسه، لا بل يحيله هو بالذات إلى بعد متشرَّب في النص، وما يتشكل في هذا المعمعان التفسيري والاستبصاري من تشكيلات حدودية، ومن يربضون حدودياً وينشغلون بخطوطها. فالمخطوط الموسوم هو " قرنا استشعار " لمتخيل الروائي، وهو يجس نبض ما كان، لإطلاق أسمائه الرمزية على ما هو كائن، حيث الروائي يقول ذاته، ما يراه عائداً إليه، وليس ما يتمنى القارىء سماعه، أو قراءته، ودون ذلك ينعدم الإبداع، أو صفة التميز في الكتابة . فيكون لدينا التقابل بين داخل الكردي وخارجه، بين المعتل فيه ونقيضه، بين المعدَم فيه عن فقر أو بؤس متشعب، أو قهر موشوري، والمقاوم، رفضاً للمساوَم عليه وباسمه .

ولعل المدقق في مفهوم " مخطوط " نفسه، ينشغل بحقيقة أمره، فهو لم يطبع بعد، ولهذا، يكون السؤال المنصبّ عليه مختلفاً، فيما لو كان مطبوعاً. لا بل ما كان للرواية هذه من أثر، لو كان مطبوعاً، كما لو أن الرواية في رحلتها القارية والمثقَلة بالتوقعات ومنغصاتها، مساءلة عن مخطوط، أشير إليه، دون محتواه بالتفصيل، أي جملة المسطور عن عادات الأكراد وتقاليدهم، بقلم ملا محمود البايزيدي، ليكون " خلْق " الروائي نفسه، ليعطي ما عنده ما ليس فيه أوعنده، لأنه هو نفسه غير عالم بالمقيم بين دفتي مائتي صفحة، في النطاق الفني وليس العملي، وليس من إشارة تستجيب لفضول الباحث أو القارىء، إنما هي إشارة الروائي وليس البياحث في المخطوط، حيث يعلم دوست وسواه ما يكونه هذا المخطوط في محتواه وهو مطبوع، وما في ذلك في حكم المجَّل إظهاره، وإن أردت ما هو أكثر إيلاماً وإشغال بال،ما يترجم حدود الكرد وهي طي العدَم، أي ما يجعل المخطوط " في نسخة دوست الفنية غير المطبوعة " شاهد عيان تاريخي على مدى الإطاحة بما هو جغرافي. إن عدم ظهوره للنور، يوازي عدم شرعنة حدود الكردي بعمق !

وفي ضوء هذا المأتي عليه، ربما أمكن القول أنه يستحيل قراءة دوست عبر روايته بعيداً عن المستجد الحدودي، حيث تتشكل قوى أو تتصارع أو تتشابك أو تحضر وتغيب في هيئات وفي مطحنتها ومحصّلها ضحايا ودماء مسفوكة. فيكون دوست القارىء لتاريخ والمقروء في رواية، وهو يسعى لأن يعطي ما ليس في حوزته، على صعيد المتحصل في مختتم قراءة نصه، بمقدار ما يبرز القارىء ساعياً لأن يمنح الرواية ما عنده من وعي المكاشفة الروائية .

من خلال حوار معه، بتاريخ " 13-1/ 2021 " وربما هو أحدث حواراته، في نطاق حواراته، وهي متنوعة وكثيرة، وهذه علامة لافتة، تضيء طبيعة انشغالات دوست وصلاته بالعالم الخارجي، نقرأ التالي:

(يذكر صاحب “دم على المئذنة”: “هنا أسئلة كبيرة تؤرقني حقاً. في كل رواياتي أبحث عن أجوبة عن الهوية والحرية ومصائر البشر المختلفين في بيئات مشحونة بالكراهية. وأنا كفرد من أمة كبيرة يبلغ تعدادها خمسين مليون نسمة موزعين في أقاليم ودول عدة أطرح على نفسي السؤال المصيري الذي طرحته النخبة الثقافية الكردية منذ خمسة قرون تقريباً: لماذا تفرقنا وما الذي يفرقنا ويجعلنا مستعبدين؟ المصيبة الكبرى في اعتقادي أن الشعب الكردي يحارب تنيناً بعدة رؤوس. ليس لهم عدوٌ واحدٌ بل أعداء كثيرون يستفردون بمن تحت أيديهم. يجتمعون دورياً كما رأينا ونراهم يتباحثون سبل منع هذا الشعب من التحرر والاستقلال؛ فالاجتماعات بين طهران وأنقرة مثلاً لم تنقطع، وبالرغم من نقاط الخلاف الكثيرة بين العاصمتين فإنهما يجتمعان على مواجهة طموحات الكرد ونزوعهم إلى الاستقلال).

هذا الحديث يصلح لأن ينسب في الكثير منه، إلى منشغل بالتاريخ، ومن زاوية التأريخ، ومهام المؤرخ، فحمولة التاريخ ممّا هو سكاني لا يغفَل في بعض حالاته، ليكون المرسوم فنياً أهلاً أكثر، لأن ينظر في واقعته، سوى أنه يضعنا في نطاق المقدَّم بما هو تاريخي، وما يبقي التاريخ مستقطراً في النص، وقابلية التحويل ومن ثم التفعيل الروائيين، وتلك بدعة الكتابة ومغامرة الدال فيها.

أكثر من ذلك، تبرز صفة الحدود قاطعة للقول طولاً وعرضاً وعمقاً، طالما أن الحدود تمثّل عرّاب المجترح التخيلي، وحافز الروائي لأن يخرِج ما ينشغل به نفسياً إلى القرطاس، ومن ثم إلى الخارج بلغة معينة، حيث يكون مشدد عليه فنياً .

وما يفصح عنه في الحوار الآنف الذكر نفسه، بصدد بايزيدي يعزّز طبيعة علاقة دوست به، وكيف تشكّل شخصية مفهومية ببعديها التاريخي والجغرافي، ويستجيب لأكثر من سؤال ينصبُّ على التاريخ ويتعداه ، كما هو مقروء من خلال محاوره:(يشير دوست أيضاً إلى أبرز الكتّاب الذين أسهموا في إعلاء شأن الثقافة الكردية ومصادرها، مثل العالم محمود بايزيدي في مجال النثر والكتابة، ففي رأيه، هو "أبو النثر الكردي ". والوحيد تقريباً من المثقفين الكرد قبل القرن العشرين الذي لم يكتب شعراً على حد علمي. هناك مصادر كردية شحيحة للأسف، وأغلبها دواوين شعر. كتابات البايزيدي مختلفة، تهتم باللغة الكردية، بتاريخ الأدب الكردي وبالحكايات التاريخية وبعلم التاريخ ووقائعه. قمت بترجمة كتاب عادات وتقاليد الأكراد للبايزيدي إلى العربية. والآن بصدد ترجمة حكاياته التاريخية، التي تبلغ أربعين حكاية، عبارة عن مزيج من الواقعة التاريخية والأسلوب القصصي الكلاسيكي. بطبيعة الحال يقف شرفخان البدليسي على قمة هرم المؤرخين الكرد، وهناك علي أكبر كردستاني مؤرخ الإمارة الأردلانية وابنة عمه مستورة كردستاني الشاعرة والمؤرخة الشهيرة).

دوست لا يقدّم ما يريح به قارئه، بالعكس، ما يخرجه إلى السطح الذي ينكشف به، حيث يثير فيه ما يصله بتاريخ قائم.

تلك خاصية سوء النية التي وحدها، وباسمها، تكون الولادة المستمرة للكائن الروائي وتعرضه للتحول .

إن مستهل الرواية يعزز هذه العلامة وهي في منعطف طرق التاريخ بالذات:

"والعقول حين تتجاور، تتحاور أيضاً

ينتج من تحاورها ثمر بهي نسميه المعرفة "

مخطوط بطرسبورغ


إنه صوت الروائي الذي يستهدي به سارده، وما يضفي قيمة متحفية/ أرشيفية على عمله المقيم والمسمى في رقعة من مكتبة بطرسبورغ، كما هو مفكَّر فيه هكذا.

والذي يتكلم في ضوء المسطور هنا، يرسم حدود علاقة، جهة العقول، وما ينبغي أن تكون عليه، بما أن التجاور تضمين للتحاور، والعكس يعزز، بالمقابل، هذه العلاقة المركَّبة.

أي ليس من معرفة، وبوصفها حصيلة علاقات قائمة، إلا على وقْع هذا التجاور/ التحاور، لأنها في أصل تشكلها وليدة علاقات حدودية وأبعدها، وهي بذاتها تكاشف هذه التكوينات الحدودية !

ودوست ملحوظ عبْر نصوصه، ونصه المأخوذ للنظر فيه فيه، يتقن إحكام القبضة على مفاصل الرواية، كما هو المنشود، قبضة متبصرة لعلاقات الرواية، وهي في تجلياتها حدودياً !


هذه الحدود اللاحدود

تمنحك الحدود مهما كانت ملغومة، أو مهدّدة، أو محل ترهيب ومخاوف بوصلةَ استهداء معينة، لأنك تراها، أو تكون لديك فكرة تضاريسية عنها، وكيف تجري مراقبتها وحمايتها، والتحرك عليها. سوى أن اللاحدود هي النقيض المباشر للحدود، فاللاحدود غير موجودة بنقاطها العلامة والفعلية، وهذا يتطلب قدرة مضاعفة على تحريها واقتفاء أثرها، وربطها بما هو عياني. وللرواية أن تقول كلمتها، إحداثاً لأثر غير مسبوق، تجنباً للتكرار، ودوست حدوديّ في المنظور إليه تقديراً، ولكنه لاحدودي، إن أمعنا النظر في الحافز على كتابة رواية كهذه.

المخطوط، اسم يحمل رائحة أنفاس الكاتب، بصمة أصابعه، رؤية خرائطية لطريقة الكتابة أحياناً. سوى أنه في أقصى اللامرئي يضاعف الفضول، ويغذّي الهواجس، بالتوازي مع وضعه وموضعه .

إن ما يُقرأ أسفل العنوان الفرعي :مخطوط بطرسبورغ بداية المتاهة، هو الذي يعقّد محتوى الحدود، وما إذا كانت قابلة للرؤية العيانية أم المقدَّرة. لتكون " بداية المتاهة " ترجمة مباشرة وصادمة بجوهر المخطوط، حيث يكون البحث عنه قائماً. المتاهة أكثر من كونه بورخيسية، فهذه لا تخفي متعتها بعوالمها المتخيلة، إنما مع دوست، وجرّاء تاريخه الذي يحفر فيه، فأقرب إلى ما هو كابوسي ومقلق !

إن ذلك يشكّل من وجهة نظر بحثية، تنبيهاً للقارىء، والناقد ، قبل أي كان، لأن يحتاط لهذا الذي تنشغل به الرواية، أو ما صار لأجله روايةً. فالروائي لا يعدُ بالراحة، لا لقارئه ولا لناقده، بالعكس، ربما يكون الضغط على القوى النفسية لكل منهما أكثر، إذ حيث توجد قوى مصمتة، تكون نقاط استراتيجية للنص، وعناصر إضاءة لحقيقة المتضمّن في مضمارها المفتوح.

وهي بذلك، تكون مشدودة إلى صفتها الحدودية تحريضاً، واللاحدودية بحثاً ومقاربة.

نلاحظ أن البداية تحيلنا على صوت متكلم، هو سارد، وهو يمضي بنا إلى داخل المتاهة، وربما يقوم بمهمة، إلى نقطة حدودية معينة، ويترك القارىء في مواجهة تشعبات الرواية وأصواتها:

والسارد كردي، وهو الباحث في مخطوط كردي، ليس كأي كردي، كما سنرى، حيث يكون ملا محمود البايزيدي، إنه الجواب المبحوث عنه بصدد أكثر من فراغ هو طيّ سؤال السارد المغاير للروائي، ولو أنه من بدعته، سوى أنه في جبلّته مفارقه، ومجسّد رمز في محتواه، ليكون في مقدور القارىء أن يقيم علاقة مع المقروء كما لو أنه هو المعني به، وهو مرجعه ليمتد في الزمن، مثلما أن الروائي من خلال سارده، وما يأتي تالياً من تمثيلات صوتية هي حالات، بمقدار ما تكون إرهاصات وتعزيزات الشاغل للذات الروائية، مأخوذ بسوء النية ذي القدرة اللافتة على تطويب نص إلى نهايته، وليكون الروائي نفسه حلقة وصل بين كونه الكاتب، وكونه المأهول بالأصوات الساردة، والتي تكون في حميمية علاقاتها عناصر مجتمعية لروايته .

بالطريقة هذه، تأخذ اللعبة الفنية مداها الأقصى، بحيث يكون المبحوث عنه هو الباحث عن خاصية الروائي، ولسان حاله التخيلي، ويتراجع الحاضر، بمفهومه الزمني المتقدم، إلى الوراء متوسلاً مَن ودّع دنيا الأحياء منذ أواخر القرن التاسع عشر،ويكون ما كان حينئذ بعالمه الكردي مطروحاً، مهما كانت طبيعة المؤثرات الصوتية وتجسيدات المعاني ضمناً،ومن ثم يتراجع ما كان، إفساحاً في المجال لما هو حاضر، للنظر فيهما وبينهما. إذ ثمة ما يشبه قاعدة الكتابة، بذائقتها الجمالية، وهي أن ليس في مقدور أي كاتب، وفي المضمار الروائي خصوصاً، أن يباشر كتابة نصه الروائي، إلا لحظة الشعور أن هناك حبلاً مشيمياً يصله بالمنتظر.

في ضمير المتكلم ما يتكلم عن هذا التقريب في فجوة الزمن لما هو مسمى:

( أنا في ساحة قريبة من محطة المترو في الشمال الشرقي من مركز مدينة بطرسبورغ. الهاتف الذكي في يدي. أحدق في شاشته الصغيرة وأمشي مهتدياً بتطبيق مجاني يدلني إلى أي مكان أريده.

لقد صدمني الروس. فهم لا يعرفون اللغة الإنكليزية وليسوا مستعدين لمساعدة الغرباء أو السياح. الكل في عجلة من أمرهم. يمضون متجهماين" متجهمين " إلى محطات المترو والأوتوبيسات. تستوقف أحدهم لتطرح عليه سؤالاً يتعلق بعنوان ما فلا يجيب. يمضي وكأنه تخلص من شرّ محدِق. إذاً لا بد من اللجوء إلى صديقتي التكنولوجيا التي لم يساهم فيها الروس.

الوجهة الآن: المكتبة الوطنية الروسية. ساحة أوستروفسكوغو.

الغاية: البحث عن أي أثر يدل على المخطوط دونه الملا محمود البايزيدي قبل قرن ونصف لصالح الأكاديمية الإمبراطورية الروسية. " ص 2 ").

ما أكثرها حدوداً، ولا أكثر منها علامات ترقيم حدودية، جرّاء البحث عن شاغل التفكير. وبطرسبورغ، من خلال المدوَّن هنا، تواجهنا بتلك الحدود " القصار المدوخة " ومؤثّراتها النفسية: مما هو أرضي، ومما هو مرئي: مشيَّد، ومما هو ممتد بينهما، ومما يفيد في الاهتداء: الهاتف الذكي...

إن هذه الرحلة الشاقة المكلفة مجزية، إن توّجت بالمأمول. وهي مثيرة على هذا الأساس، وفي عاصمة قياصرة الروس ذات العراقة موقعاً وأثراً تاريخيين.

نعم، هناك في الانتظار: مخطوط ملا محمود البايزيدي: عادات الأكراد وتقاليدهم.

ذلك ما ينجلي أمره لاحقاً، ليكون القارىء على بيّنة من حقيقة هذا التعب الماراتوني.

ملا محمود البايزيدي الكردي والمتعدد اللغات : أمير النثر الكردي، تبعاً لوصف الكاتب، شاهد على مرحلة عاصفة " رغم أن التاريخ الكردي مشغول ومضغوط عليه عواصفياً "، والتعدد اللغوي، قد يؤخَذ بعين الاعتبار جهة الربط والترابط الوجدانيين، حيث يسهل لكل منهما أن يحل محل الآخر، أو يمثّله بطريقة ما، طالما أن هناك محناً ومآسيَ وهزائم كردية في النطاقين التاريخيين، ويبقى المختلف: التحديد الزمني، على وجه العموم،وخصوصاً، اللغات الثلاث: العربية، الفارسية، والتركية، حيث إن إتقان لغة قوم، دخول إلى خبيئته النفسية. سوى أن الذي شغل بايزيدي مستثنىً به، في زمانه ومكانه، وهو ما يثير فضيلة المكاشفة التاريخية من لدن دوست، رغم أن الأخير فيما يقوم به، وفي العقد الأخير هذا بالمقابل، يكاد يناظر نشاط بايزيدي، وهو يترجم أعماله: الروائية بامتياز، إلى العربية، ويقيم أنشطة، أو تتم دعوته من قبل جهات ثقافية عربية، وما يتفوه به، امتداد لما يفكر فيه، وما ينبغي أن يكون في المسعى الأرخبيلي الثقافي باعتباره كردياً، والممكن تفعيله إنسانياً، وكما لو أن المثار في كتابه بمضمونه الاثنوغرافي، يضيء صفحة تاريخ الكردي المنقسم على نفسه، وجغرافيته التي لم تستقر على هيئة، وهو الأثر الذي ترجمه دوست إلى العربية، وبعنوانه الكامل (رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم ) والصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث / كلمة، لعام 2020، في " 137 ص " حيث يردُ اسم محمود بايزيدي على صفحة غلاف الكتاب دون " ملا " وجِهة " أل " التعريف : بايزيدي، وليس " البايزيدي "، وكذلك اللغة المترجَم عنها، ويأتي تقديم المترجم جان دوست مضيئاً لبايزيدي، نطاقَ تاريخ وجغرافية، ومضمار ثقافة، حيث نتعرف على الاسم في كتابته مختلفاً في النص، وفي الصفحة الثانية: الملا محمود البايزيدي ".

إن تركيب الواقعة الفنية، وبدءاً من السارد الإنساني إشغال لمقام، أريدَ له أن يكون إشهاراً لتاريخ، وفي موقع إزاحة الستار عن مسرح الواقعة/ الحدث. وهو بمسلكه الفني هذا، لا يريد أن يقول شيئاً منتظراً، وإنما ما يجب أن يقال، ما يجب أن يكشَف عنه، على وقْع التصرف بما هو تاريخي، ليصبح ما ليس تاريخاً، ومن خلاله يواجَه به التاريخ، كون مخطوط بايزيدي موجود.

لعبة الروائي حيلته هي في استدراج القارىء وإبرام عقْد ما معه، جرّاء شد انتباهه، إلى أن هناك ما يستحق التوقف عنده. فالرواية، كأثر مكتوب، لا تقرَأ إلا إذا استشعر القارىء ما يغذّي دافعاً له.

يأتي تحديد المنشود تعبيراً عن مدى أهميته له، حيث إن كتابة الرواية إقرار بواقعة نفسية، ومن ثم بملء شاغر دِلالي يهم أمر المتكلم نفسه، وإن كان في أصل دعواه متعدّي المفرد، حيث يستغرق ما هو مجتمعي، وتلك بداهة، لأن اللغة جماعية هنا، والمتكلم يتعزز بها ويعزّزها، يأتي هذا التحديد لموظفة المكتبة، لتهتم بمطلبه:

( أنا أكتب رواية عن مخطوط ضاع أثره. ومن المحتمل أن يكون المخطوط استقر هنا في المكتبة الوطنية الروسية في بطرسبورغ. لأن الذي استلمها آخر مرة كان قنصل الإمبراطورية الروسية في أرضروم منتصف القرن التاسع عشر السيد أوغست جابا. وقد جرت العادة أن يرسل القنصل جابا كل ما يجمعه خلال عمله الديبلوماسي إلى العاصمة الروسية." 3 " ).

طبعاً، قد لا يهم كل الوارد موظفة الاستقبال، أوعاملة المكتبة، سوى أن في المنطوق ما يصل القول بالمخاطَب، أو الإبلاغ عما هو مهم، ويتهيأ له المتكلم، على صعيد المتابعة.

ولا بد أن التالي يزداد تعميق أثر.

( يقول لموظفة المكتبة مارينا:

- أنا الذي كتبت الإيميل بخصوص كنز ضائع.

ترد عبْر تعليق، بعد قول السارد أنه قال ذلك مازحاً لينتظر ما ستقوله:

- الكنز؟ كل الرجال يبحثون عن الكنوز. فأي كنز تبحث عنه؟

ثم توضيح المطلوب:

-أنا أبحث عن مخطوط كردي ضائع ربما استقر هنا قبل أكثر من مئة عام ".3 " ).

مشهد حواري، يفصح عن علاقة خارج- داخل، وهو نسيج هذا التعامل مع المودع في المكتبة. ويحسَب فعل النسج هذا إيجابياً لصالح السارد، تأكيداً على معرفة نوع الخطاب المطلوب.

يبقى هنا، ما ينوَّه إليه، وهو المشار إليه بمفردة " كنز ".

إنها من جهة الدلالة لدى مارينا، كعاملة، وكامرأة، غير ما مضى إليه السارد.

لعل التسمية " كنز " جهة مارينا، هي إشارة إلى سخرية مما هو ذكوري، أو ما يعنى به الرجل وهو يثمّن ما يبحث عنه، بوصفه رجل مغامرة، سوى أنها" التسمية " لدى السارد حقيقة، ولو أنها لم تُسمّ باسمها. فما هو مدفون في التاريخ، في غياهب النسيان، ويعرَف بمادته لا يعدو أن يكون كنزاً، وليس أي كنز، على مستوى القيمة. لنكون إزاء خاصتيْ حدود في التفريق !

يبحثان أسبوعاً في ردهات المكتبة العملاقة، القسم الآسيوي، دون جدوى.

وإثر البحث المضني لمدة أسبوع، وقد أسفر عن لا شيء:

(عبث

في عبث

في عبث " ص 4 "

ترجمة واقعة نفسية من جهة، وإشارة إلى الممكن وقوعه، أي استحالة العثور عليه بعد ذلك من جهة ثانية.

وما يقوله السارد بعد ذلك، يقرّبه ممّا يعنى به، كما يثير فضول قارئه فيما توقَّعه :

( "لقد دُفِن المخطوط الذي سطَّره يراع الملا محمود البايزيدي على مدى عامين بين مجموعة أخرى من الكتب في مكان ما. في بقعة قريبة من جامع أرضروم الكبير". وليس بمستبعد أن يكون المخطوط مدفوناً هنا.

لا يعجبني هذا الاحتمال فأتخيل احتمالاً بشكل آخر:

- ومن يدري! ربما ُسرق المخطوط كما سرقت مخطوطات أخرى كثيرة دون أن يعرف اللصوص قيمتها فتركوها نهباً للنسيان وعرضة للتلف . " ص 4 ") .

لا يشير " دفن المخطوط " إلا إلى نوع من " موت الأثر " إلى تلفه، أو ضياع كل أثر له ، وكل توقع، في وضْع كوضعه، في قائمة الاحتمالات الجائزة، كون الموسوم كردياً، وليس هناك ما هو أسهل من وصول يد ما، لا تريد له بقاء، أو استمرارية، إنما التخلص منه، كما هو واقع حال الكرد الذي يتعرضون لمضايقات شتى، على مستوى الوجود، وما يعتّم عليها واقعاً .

وحديث السارد عن مدة إقامته، كخطاب ذي طابع إخباري، لا يخرج عن نطاق السباق على اللحظة الزمنية، ومتغيراتها، حيث إن محكومية السارد بتناهي الوقت المعلوم إشارة إلى أنها تعريف لواقع حاله، حيث الزمن يجري تشخيصه.

إن العودة إلى الوراء، توسيع لقاعدة الحدث، إضاءة أكثر لحقيقة الجاري، وما يكون انتقالاً إلى النقاط المفصلية الأكثر سخونة، وهي تروى بألسنة أخرى، ليست بشرية، والقيمة الرمزية الكبرى، ومن ثم مرارة المأثور في السرد، كما سنرى مطولاً في الرواية:

( أتذكر ما كتبه المستشرق بيتر ليرخ عام 1867من تقييم لمقدمة المخطوط التي كتبها البايزيدي وترجمها القنصل إلى الفرنسية: "المقال الذي وصلنا في الثلاثين من شهر آذار هذا العام من قبل السيد ألكسندر جابا في إزمير، ليس سوى ترجمة فرنسية لمقدمة كتاب تواريخ جديد كردستان. المقدمة كتبت في الأصل باللغة الكردية وحسب قول المترجم فإن الكتاب يعتبر استمراراً لكتاب شرفخان بدليسي الذي طبعه السيد ويليامينوف زرنوف بالفارسية. وأن النص الكردي الذي ترجم منه النص الفرنسي غير موجود بين أيدينا، فلا يمكننا الحكم على دقة الترجمة. ولكن وقياسا على ما قدمه السيد جابا من أعمال سابقة فلا يمكنني ً أنا الموقع أدناه إلا القول إن ما قدمه الآن أيضاً عمل دقيق وصحيح. وبعد التدقيق في مضمون المقدمة تبين لنا أن المعلومات ً التي وردت فيها ليست بجديدة وهي معروفة لدينا منذ زمن ما عدا المعلومات المتعلقة باللهجات الكردية.).

نحن إزاء جغرافية واسعة النطاق، صحبة ممثلين لقوى سياسية، أو قوى ذات نفوذ ومصالح، وأن الأثر الموسوم المتنقل، أكثر من كونه سلعة، لأنها تفصح عن شعب كامل، وكل معرفة له، تكون بمثابة زيادة قوة للحاصل عليها، أعن بذلك الكرد، وهم في عاداتهم وتقاليدهم .

( وهو يحاول الجلوس في مقعده بالطائرة، يقول بصوت شبه مسموع ممَّن في الطائرة:

-لقد أحرقوا المخطوط. أحرقوه بلا شك.

وبعد الاستقرار في مقعده، يهمس لنفسه:

-ربما أجد المخطوط في الرواية. ربما تدلني صفحات روايتي التي أكتبها على مصير المخطوط. من يدري. ففي بعض الروايات أجوبة كثيرة لأسئلة تؤرق الإنسان. " 5 ").

لسنا هنا إزاء نفاد الصبر، وإنما في مواجهة دراما تاريخ ساخنة، لعب الكرد فيها دور الحاطب والحطب لوقوع الصراعات بين القوى الكبرى التي تقاسمتهم، واستثمرت قواهم لصالحها.

وكما لو أنه ينعي خبر المخطوط، وما يعتمل داخل القول من قول آخر، يخرج من بوتقة التاريخ المكتوب، أو المسطور، إلى رحابة المتخيل الأدبي، ليكون لسوء النية مقام التعميد للمتتالي .

تنحية المخطوط، تعني في الحال، تقديم البديل، وهو بديل يعهَد بأمره إلى الروائي وفن سرديات الخيال وصنعة مآثره بالمقابل. وما كان للرواية أن تظهر، إلا لأنها تقول ما لم يُقَل، حيث إن عامل الإدهاش على مستوى السرد، يمثّل الذخيرة الحية لعملية انبناء النص، وهي في فاعلية المردود، المقابل المقدم للقارىء، ليتم الدفع به إلى هذا العالم المنسوج تخيلياً، حيث تصعد حدود أخرى، وتتلون بمؤثرات أخرى، وفي هذه النقلة النوعية، يكون حضور الروائي بكامل ثقله.


ألسنة مستعارة في جوهرها

الرواية تعدِم أي نسب لها! إنها على صعيد الانبناء تقيم في اللامحدود، في اللاإطار، بالعكس، إنها من حيث المهمة أو الأداء تحمل ذاكرة النسيان: أن تنسى في كل مرة ما كانته، لتكون ما تصبو إليه، حيث تتعدد وتتنوع ميتاتها وحيواتها، لتستحق شرف اسمها إبداعياً، ومن هنا تكون خيارات الكتابة لانهائية، بمقدار ما تكون ألسنة الكتابة المعتمدة دون تحديد. كما لو أنها، بحكم الظهور، ومن ثم التحول، والتغير، مشدود إلى " أصل " مفترض لها في المستقبل، وهو الأصل غير المعطى، احتكاراً، أوتمثيل مكرمة رمزية، لأي كان، وإنما هو نفاذ فعل متخيل الروائي، دون تحديد لنوعه أو جنسه أو عمره، حتى بالنسبة للكاتب الواحد نفسه، فهو، في أصال تكونه واحد وكثير، إنه يسمّي أمسه، لكنه لا ينسى أن يشير ببنانه إلى آت مؤثّر.

وفي رواية جان دوست، ثمة نوع من القطيعة جهة أسلوب السرد، أو بناء معمارالرواية، كما لو أنه كائن آخر، وما في ذلك، من تحريك لإرادة معرفة تعنى بالمفارقات. عما استجد هنا، ليس لأن الكاتب يميت نفسه السالفة، ويبعث نفساً أخرى أخرى، بما يتناسب والمؤتى به، وإنما، لأنه ساع إلى ما هو مختلف، وقد يكون المستجد والثقيل وطأة عرّاب هذا المنعطف الأسلوبي.

هنا، يظهر جان دوست متعدداً، حيث يصبح للداخل أكثر من خارج، وللخارج أكثر من داخل، ومن خلال اللغة التي تستولد خطاباتها اللاحدودية، من حدود معلومة، محرّضة على اجتراح ما يشبه المستحيل، أو على تخومه، من باب التعرض للجاري،وتعرية لعسفه الحدودي.

إنها لعبة المتاهة التي يبدو أن دوست داخل في تقدير أبعادها الهندسية، ليرتب مداخلها ومخارجها، وفي الوقت نفسه، ليطلق سراح شخوصه اللاآدميين، وقد ناله من أغلب آدميّيه ما أسهم في هدْر الآدمي فيه. ليكون الخارج حيلة المعنى داخلاً عبر مهماز الخيال .

المدن، الأمكنة، الأشياء،النباتات، الأوراق هي التي تتحدث. إنها الولادة من جهات شتى، ليكون في الآتي تسطير تاريخ مغاير لما كان، وليس لأن برزخاً يحتذى هنا، إنما قطيعة تعني بالآتي دفعاً لما كان، وهو في عنف تجليه، أو تمادي حضوره، وما يترتب عليه كارثياً.

ذلك ما لا نعهده في مجمل رواياته طبعاً. ولهذا تكتسب هذه الرواية علامة النوعية الفارقة:

في " ميرنامه: الشاعر والأمير- هيئة أبو ظبي للثقافة- 2011 "، يتردد صوت السارد محيلاً قارئه إلى ماض صاعد إلينا بمثيله إيلاماً

( كان صباحاً ماطراً

نفض الملثم بيده اليمنى ما علق على ثيابه ولثامه من التراب الممزوج بالطر وهتف من قاع القبر: " يكفي هذا القدر ". ص 13 ).

إنه مدخل سينمائي يغري بالمتابعة، ولكنه لا يفارق متخيلاً مألوفاً ببدعته إجمالاً.

وفي " مهاباد، وطن من ضباب- مقام للنشر، طبعة عربية 2014 "

فالمتكلم آدمي، ولغته ذات المأثرة الشعرية تبقيه آدمياً ( أنا بادين، ريح مجنونة، روحي غدير ماء غطته الطحالب. رماد أثافي الرّحّل إذ يتركونها وراءهم. محاصر أنا بالأحلام، بالذكريات ومزق من قلب محطم. فخاخ الزمن تطبق على سنوات عمري الشبيهة بعصفور أعمى.وحيد أنا مثل شجرة الأماني ومسافر أنهاه التعب. ص 11 ).

التشبيه في أصل تشكله إثراء للنص جمالياً، لكنه في إكثاره يمحور الضعف المتحصل، حيلة السارد فيما لا يمكنه مغالبته، وهي خاصية إبراز عجز بنيوي تاريخي، ربما كان القاسم المشترك الأكبر بين عموم شخصيات دوست الروائية. إنها واعية لحدودها كثيراً، سوى أن حدود إرادتها أدنى من أن تواجه الحدود الملغومة والمجابهة لها، وما يتمثل في المتن، من اعتراف تراجيدي بالمتحول كردياً، وهو متحول يمضي به من فاجعة إلى أخرى .

وفي " نواقيس روما- دار الساقي، بيروت، 2016 " نشهد خراباً مماثلاً ومختلفاً، بدءاً من عنوان فرعي : الفتى الغريب ( غطى الثلج طرقات المدينة والجبال المجاورة حتى خفيت المعالم وصارت الطيور الجائعة تغوص حذرة في البياض الهش بحثاً عن طعامها في يوم الجمعة ذاك من شهر كانون الثاني. ص 7 ) .

وفي " ثلاث خطوات إلى المشنقة- دار الساقي، بيروت، 2017 " يكون السرد المعهود بكامل قيافته، رغم أن حس الشاعرية لا يفارق نبرة القول لدى دوست، تعبيراً عن قوة توأمية لكل من النثر والشعر، حين نقرأ بداية، ما يشهد بحقيقة هذه التوأمة فنياً:

( جرِت هذه الأحداث في حلكة الليل وتحت ظلال مشانق رفرفت عليها أجنحة مشتعلة لطائر الخيال....إنك لست في حاجة إلى ضوء لتقرأها...فقط اخلع نعليْ قلبك ليمشي حافياً على شوك هذه الرواية . ص 6 ) .

وحتى في " كوباني، الفاجعة والربع- مسكلياني، تونس، 2018 " لدينا هذه المتابعة السردية التي تبقي القارىء في نطاق معلَمها الفني، دون شعور بالانقطاع عما كان سالفاً، كما في هذا المشهد ( تظلم السماء. تسودُّ. لا سماء. إنها أسراب غربان وحسب. حفيف أجنحتها يتحول إلى عاصفة هوجاء تثير الغبار المتراكم على الأطلال والخرائب. كلما يخفف غراب بجناحيه في الجو ينثر ما يشبهخ دخاناً أسود. ص 532 ) .

كما يلاحَظ، أنا لا أتحدث عن مدى نجاعة وصف كهذا، وهو يختلف في بنيته من رواية إلى أخرى، وإنما عما يشغل أسلوب الكتابة من جانب السرد ومقامه أو نوعيته.

وحدها " مخطوط بطرسبورغ " تحتفظ بمثل هذه الميزة،في الانعطافة السردية وناطقيها، وحدها عاصمة القياصرة الروس، تتميز عن المدن الأخرى والتي قيّض لها أن تكون شريكة عناوين روائية، أو عناوين روائية لدوست: مهاباد، روما، حلب، روما،كوباني. طبعاً ليس الاسم هو الذي يفرض شرطه في كيفية مباشرة السرد وجنس ناطقه، وإنما تقدير المختلف تاريخياً، وعنف الرهان في سباق الزمن، وما يمنحه الروائي من متوخى رمزي لعناصر روايته هنا.

ربما أظهر روايته الأخيرة " الكردي سيبس- سيرة خبات " خمة أسلوبية،ولو في منحى سردي مختلف، لـ" مخطوط بطرسبورغ "، حين نقرأ الوارد على غلاف الرواية:

(حدث ذلك في صيف العام الماضي.. كانت كتيبة من النمل تنقل جثة دودة صغيرة حين مرَّتِ الخنافس بجانبها.

كانت الخنافس تثرثر وهي تدحرج غنائمها من روث خنزير ضخم الجثة مرَّ مصادفة بالغابة العظيمة، بحثاً عن الطعام قادماً من بحيرة الموت شمالي المستعمرة السعيدة. سمعت جماعة النمل ثرثرات الخنافس السوداء.. فلم تُعِرها أدنى اهتمام.. لكن النملة الشقراء توقفت فجأة عن الحركة، ووضعت ما كانت تقبض عليه بفكيها, وصارت تسترق السمع إلى أمواج الثرثرة الخنفسية.. ينقلها الأثير المتخَم بروائح كثيرة.. لا تميزها سوى تلك المخلوقات. ).

لا إمكان للتقريب بين الوارد هنا، والمشار إليه في روايات سالفة الذكر، فالمناخ مغاير تماماً بمحتواه .

وفي وسعنا هنا، متابعة ما توقفنا عنده، وقد أمكنا، ولو بإيجاز، تسمية علاقات وصنعتها أسلوباً.

لدينا قائمة من العناوين التي تتتالى،وكل عنوان يفصح عن خاصية جغرافية، أو بيئية مختلفة.

" السمرقندية " في البداية، لأنها تحمل في تضاعيفها خاصية تدشينية لمحور رئيس في الرواية: بايزيدي:

ومن " البدء "، واشتعال النثر والشعر، لإنارة ليل بهيم، كما هو مقدَّر، أو كما يمكن أن يقدَّر في السرد:

-) مات ملا محمود البايزيدي.

سمعت هذه العبارة وأنا رماد تذروه الريح قرب جبل مسجد داغ على الطريق بين أرضروم وميناء طرابزون على البحر الأسود. رددتها الريح التي كانت تذروني دون أن تأبه بي وبألمي على الفقيد الحبيب.

مات الرجل الذي أحبني وأحببته إذن! مات الرجل الذي عشت معه سنتين كاملتين منحني فيهما الكثير من الحب والحنان والهمس الدافئ والقبلات وحتى دموع الفرح. " ص 6 "

يتحدث بصيغة شاعرية وجدانية عن صلة زوجته به ومعايشتها معه " قرابة 700 يوم "، وما يضيء مشهد المكان والزمان، في الحجرة التي عاشت فيها وإياه، وهو المأهول بالثقافة وحب الكتب :

في تلك الحجرة أصغيت مع رفيقاتي وأنا قابعة بصمت بجانب موقد صغير في إحدى الزوايا، أو بين يدي مولاي البايزيدي، إلى أحاديث خافتة عن الحروب التي لا تنتهي بين الدولة العلية والدول الأخرى، وسمعت كثيراً من الأحيان اختلافات فقهاء المذاهب الأربعة في مسائل عديدة وأحاديث عن معارك عشائر الكرد وصراعات الولاة والأمراء وتاريخ سلاطين آل عثمان ونفحات من السيرة النبوية. تلك كانت أحاديث مختلفة كان القفز خلالهات من موضوع إلى آخر يشبه طقس شهر شباط الذي يتبدل بين ساعة وأخرى من مشمس إلى عاصف إلى غائم ماطر إلى مثلج بارد إلى غائم يهب زخات مشاغبة من البَرَد إلى صحو مرة أخرى . ص 6 ".

لتسمع حكايات عما يجري ليلاً " 40 حكاية ". وما لفت نظرها، حكاية الفتى الكردي المنتفض ضد الدولة العليَّة ورفضه دفع الضرائب.).

مشاهد كما هي الدمى الروسية، متداخلة، كل مشهد له ميزته، سوى أن يباباً يصل ما بين الجميع، وفي الواجهة، يكون الحضور المأساوي لملا محمود بايزيدي، أو نعيه، وما في النعي من نهاية لحياة، ليست أكثر من مفصل مركَّب، متخيل من جهة دوست، ليزيد في فضول قارئه كي يمضي إلى حرف الرواية الأخير. لتكون صفة الأنسنة تصعيداً ببؤرة توتر الحدث، وتحريراً للحياة مما هو بشري، بعد أن أظهِر فيها ما يأتي صدمة من البشر، فيما بينهم، ومن قبلهم، تجاه الحياة قاطبة، كما لو أن تسمية الإنسان لا تعدو أن تكون تأصيل كارثة مستدامة.

وللحرب، في الحرب، وبالحرب، يكون هذا الدمار الناطق باسم بشري هنا وهناك .

في عنوان " دفينا " يأتي النهر متحدثاً، مدلياً بدلوه الطبيعي شاهداً على المخرَّب طبيعياً، من جهة المعرَّف به كائناً حياً عاقلاً، وليكون لنبرة الشاعرة أوج تجليها روعة تشبيه، والتداخل بين الاسم نهراً، والنهر نظير حياة الكائن، والكائن الإنسي نهراً، والنهر تمثيل زمان وتاريخ:

-) صبي!

صاحت الداية مبشرةً. تبع صيحتَها صرا ُخ طفل ولد للتو حين وصلت في أحد أيام الصيف في بداية القرن التاسع عشر إلى كراسلافا الصغيرة. كنت أنا ، نهر دفينا، قد قطعت مئات الأميال عن مكان والدتي في مرتفعات الفالداي حيث انفصلت عن أخي الفولغا الذي ظل يدير لي ظهره منذ أن ولدتنا الينابيع في عصر سحيق واختار لنفسه مجرى يأخذه إلى بحر قزوين في الجنوب الشرقي. بينما اتخذت أنا سبيلي لأنقل سحر المرتفعات التي ولدتني إلى أمواج خليج ريغا ، على بحر البلطيق غرباً. ص 7

ونحن معشر الأنهار، كما هو ليس معلوماً لدى بني البشر، نعرف مستقبل الأطفال من صرخاتهم لحظة يولدون. إذ لا تشبه صرخة طفل صرخة طفل آخر. تماماً كما لا تشبه حشرجةُ محتضر حشرجة محتضر آخر ..ص 7 .

صرخة الطفل الوليد أوغست جابا الذي سيمنحه الروس خلال دراسته في جامعة بطرسبورغ اسم ألكسندر، وهو اسم يوحي بالأرثوذكسية بدل اسم أوغست الذي أطلقه عليه والده دومينيك جابا،وهو ما يزال في رحم أمه آنا هولوفنيانكا جنيناً لا يعرف شيئاً عن صراع المذاهب. ص 7 .).

لقد بلغ سوء النية بالكاتب في عملية الاستعارة والتوصيف حداً لافتاً، وما في هذا التوسيع للتسميات من جعْل أفق المتخيل أوسع نطاقاً، ليتسنى للقارىء مد النظر عميقاً، حيث الحياة تُسمى خارج المسرد البشري ولغته .

ولنشهد متابعة لـ " لقاء في القنصلية "

( وقد صار أوغست جابا قنصلاً لقيصر روسيا، وليبحث عن رجل يعاونه في أبحاثه عن الكرد، وفي أرضروم يلتقي بالملا محمود البايزيدي (الذي هاجر من بلدة بايزيد منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً واستقر في أرضروم. كان سرور القنصل عظيماً حين التقى عصر أحد الأيام في مبنى القنصلية الروسية في أرضروم بالملا محمود البايزيدي الذي كان يكبره بأربعة أعوام فقط. ص 8 .

قرأ القنصل أثناء دراسته في أكاديمية بطرسبورغ العلمية آراء بعض المستشرقين والمبشرين عن شخصية الكردي وعنادها و حدَّة طباعها النارية. كان قد هيأ نفسه لطريقة معينة يصل بها إلى قلب هذا الملا العنيد لكنه فوجئ بملا محمود يكلمه بنبرة وكأنه يخاطب قاتل أخيه وجهاً لوجه . والكرد، كما قرأ القنصل في رسالة أرسلها المستشرق بيتر ليرخ بمناسبة تعيينه قنصلاً لروسيا القيصرية في أرضروم، قد يسامحون في كل شيء إلا في مسائل الثأر والشرف .ص 9 .

تحدثا لمدة ساعتين عن الأوضاع، وفي النهاية أهداه ساعة ثمينة .ص 9 ).

هذا اللقاء المنسوج بين كائنين ينتسبان إلى ثقافتين مختلفتين، تجمعهما ببعضهما بعضاً مصلحة معينة، هو ما يمتّن أرضية الرواية في الرقعة المقدَّمة لما هو نهري، والتقارب الحدودي بالمقابل، حيث السرد لا يخفي حيويته في عمومه.

ولنشهد جدة السرد بلسانه الناطق، من جهة الساعة، أي نسمع سرديتها، وقد أدخلتنا زمناً حديثاً نسبياً:

(في أحد أيام صيف عام 1836 وقبل أن تغرب الشمس في وادي دو ترافيه السويسري انتهى هنري فرانسوا دو بوفيه من صنعي في قصره الفاره شاتو دو موتييه الذي اشتراه قبل عام من الدولة . ص 10 .) .

هذه الساعة التي شكلت عنصراً مدغماً بالطاقم السردي لرواية دوست تأشيرة دخول لما هو جديد إلى الرواية وتلوينها، حيث إن تعددية العناصر وأجناسها توسيع لقاعدة الرواية بالذات.

ورغم أن المقروء بلسان المعتبَر جماداً يستدعي لسان حال الكاتب، سوى أن القيمة المضافة إلى النص وإثراء مكوناته، تسجّل تنويعاً آخر لهذا المشترك المتعدد الأصناف، كما في السرد المنسوب إلى مدينة كراسلافا ( من صغار المدن المهملة من جهة المؤرخين. ص 10 )، وما يصل مأساة جابا البولوني بمأساة بايزيدي الكردي، واشتراكهما في جرح جغرافي، حيث وطنهما يعيش سطوة الآخر: المحتل والغريب والمستبد، وصدمة الحادث، لحظة الحديث عن فرح البولونيين بغزو روسيا ليتحرروا منها، إنما كانت الهزيمة الساحقة من نصيب نابليون. ( عاد نابليون بمن تبقى معه من الناجين من أفراد جيشه وسط غابة من جثث الجنود التي غطتها الثلوج إلى باريس وضاع من جديد حلم التخلص من النير الروسي لدى شعب بولونيا وغيرها.ص 12 )

ولعل الذي يقرَأ من خلال " ورقة من المخطوط " يقرّبنا من تاريخ بايزيدي ومأساة الواقع، وما كان عليه واقع الكرد،وتمزقهما بين الدول التي تنتهب الحدود، وتتدخل حدودياً، وتشهر حدودها، عندما ينبري تاريخ، ولو أنه مصهور في جسد النص:

( في بداية ربيع 1856 انتهت المسألة الزائلة أي حرب القرم كما ترد في أرشيف الدولة العثمانية وهي الحرب التي يسميها الرو ُس الحر َب الشرقية. وللحروب كما لكل شيء أسماء وأعمار. لكنها كلها تشترك في أنها قبيحة منذ لحظة والدتها وتزداد قبحاً أما حرب القرم فلم تصل إلى عمر يجعلها تأكل أعمار مزيد من البشر. لقد كانت حرباً قصيرة لم تدم سوى سنتين ونصف ومع ذلك فقد حصدت أرواح خمسمائة ألف من البشر. أي أن اليوم الواحد من أيام تلك الحرب شهد مصرع خمسمائة نفس من البشر لا يذكر التاريخ عنهم في صفحاته أي شيء.ص 15

عن الحرب الروسية- العثمانية وفظائعها، ومقتل أخيه فيها (قتل أخوه ً في الحرب وتتالت خسارات ابنه في التجارة. ضاقت عليه الحياة فسئم الغربة وقرر العودة إلى مسقط رأسه. والحروب التي تنتصر فيها الدول، ينكسر فيها أفراد تلك الدول. كل نصر يحتاج إلى قرابين كثيرة من النساء والأطفال والعساكر. عائلات كثيرة ضحت بأعز الأبناء على مذبح النصر العثماني في حرب القرم. كانت عائلة مولاي محمود من بينها. لذلك لم يأبه أبداً بأفراح النصر ولا بالزينة التي عمت شوارع أرضروم وساحاتها . شعر بأن الدولة العلية انتصرت عليه وعلى أمثاله قبل أن تنتصر على الروس. أدرك أنها لم تنتصر على القيصر الروسي فها هو لا يزال متوجاً بالذهب، يجلس على عرشه بينما هو يتقلب على نيران الأحزان.

-في كل نصر للدولة العلية هزيمة لرعاياها وسكانها.

قال لجلسائه وهو يبري قلمه النحيل ذات عصر.

. - كيف ذلك يا ملا محمود؟

سأل ملا إحسان بصوته الأجش وهو يمسح لحيته المدورة.

توقف مال محمود عن برْي القلم. حدق في وجوه جلسائه ثم التفت إلى ملا إحسان وقال: . نعم، الحروب شرور. ولا يوقد سراج النصر إلا زيت من دم الشباب - ليس من العبث أن الكرد يسمون كل حرب شراً ودموع الثكالى. يُهدى بالدماء؟ص 16 .

شهد القرن التاسع عشر، وخاصة بعد إعلان الإصلاحات، عصيانات وثورات كبيرة قام بها أمراء الكرد دفاعاً عن إماراتهم شبه المستقلة ضد هجوم العثمانيين وسعيهم لضبط الدولة وحصر السلطات في المركز. عادى أمراء الكرد بعضهم بعضاً وتقاتلوا فيما بينهم بناء على عداوات موغلة في القدم على قطعة أرض أو ضيعة أو حقل أو ثأر قديم، حتى أن بعض الأمراء منهم تحالف مع عساكر الآستانة للقضاء على إمارة خصمه أو منافسه غافلاً عن أنه سيكون التالي في مسلسل زوال الإمارات، وأنهم بناء على ذلك لم يستطيعوا إقامة تحالف فيما بينهم فقد انقرضت إماراتهم الصغيرة الواحدة تلو الأخرى.ص 17 .).

لقد أردت من هذه المقتبسات أن تكون دمغة تاريخية وروائية في آن، للتعرف إلى منغصات الروائي نفسه أكثر.

ما يبدو جلياً للعيان، هو أن دوست يسعى أن يوسع دائرة التوتر هذه، من خلال تسليط الضوء عليها، وهي بخاصيتها التاريخية، ليس لأن هناك رغبة في سرديات الحرب، باعتبارها سرديات القوى الكبرى، وتلك الساعية إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلالها، وإنما لأن هناك ما يعزّز هذا الحافز غير المرغوب فيه، ولكنه موصول، وهو بكامل حيويته بالواقع. ليكون خطاب السارد، مهما كان نوعه، معرّياً لما هو تاريخي جهوياً .

يبرز الكرد في معمعان هذا السرد المتحرك والمتعدد السياقات حدودياً: حدود تضيق بهم، وحدود تمضي بهم إلى حيث لعبة القوى الإمبراطورية والمحلية، وحدود تتلون عبر الإشارة إليهم، وهم حراسها وضحاياها بالمقابل، وحدود هم أنفسهم معنيون بها، فيما بينهم، ولهم سهم وافر، جهة المسئولية عنها، وهي تنال منهم، عبر انقساماتهم.

من هنا كان شغفه بالتاريخ كرهاً للدائر فيه، أي لما يعتمل جغرافياً، للعباد والبلاد !

في العودة إلى حوار معه : بتاريخ 13 -1/ 2021، يقول عن صلته بالمدون عما هو كردي، نقرأ ( بالبحث في مدونة الأكراد، نجد أن التاريخ يحمّلهم جزءاً من المسئولية تجاه ما جرى ويجري لهم، إذ يلوح الانقسام بينهم طوال المسيرة، وتسجل كلاسيكيات أدبهم عن تركيبتهم النفسية أنهم “نفورون من المنّة، ورافضون لأعبائها، هم أشتات متفرقون دائمو العصيان والشقاق”، “وبقدر ما فيهم من شجاعة مصحوبة بالتهور ووفرة المروءة والسخاء فإنهم يلقون بأنفسهم إلى المهالك”، بهذا الشأن يرى دوست، أن طبيعة هذا الشقاق “سياسية، وقبلية، وثقافية. وجميعها أضر بالقضية الكردية بشكل كبير وأصبح أحد معوقاتها، وانعكس كل ذلك بطبيعة الحال في نتاجات الكتاب الكرد، فما من كاتب كردي إلا وتجد في أدبه صدى للمرارة التي يتجرعها بسبب هذا الواقع الكردي الأليم (

هذا يرجعنا إلى حوار قديم معه، نتلمس التهاب جرح الذاكرة الكردية التاريخي، وذلك بتاريخ " 15 كانون الثاني- 2007 )مع فاطمة سافجي، يكاشف جانب مسئولية الكرد في انكسارات الكرد وهزائمهم التاريخية، حيث الحوار ينصب على " مهاباد " وفي الجواب عن سؤال محاورته فاطمة سافجي عن حصة الأكراد في ضبابية مزاباد؟( تعلمنا نحن الأكراد أن نلقي بإنكساراتنا على عاتق الأعداء الذين يحيطون بنا, لم نعترف بأننا مذنبون أبداً , نحن لم نجر حفريات داخلية عميقة في تاريخنا و مجتمعاتنا و أنفسنا. في كل هزيمة لنا حاولنا البحث عن سبب خارجي. تعودنا أن نقول مثلاً إن عدم نجاح ثورة الشيخ سعيد هو خيانة قاسم بك الجبرانلي!! لو لم يخن قاسم بك هل مانت الثورة ستنجح؟؟ هذا ما لا تجيبنا عليه تواريخنا و لا مؤرخونا. هكذا نستطيع التحدث عن جمهوريتنا الشهيدة و لكن لا أستطيع أن أحدد مدى مسؤولية و .ذنب الأكراد في التراجيديا الكبيرة أو انهيار الجمهورية أو استشهاد القاضي محمد و هجرة البارزاني و رفاقه.).

ليكون توضيحه لطبيعة تعامله مع التاريخ تشديداً على ما يشتغل عليه روائياً، حيث إن البحث في التاريخ يستبعد سوء النية، ويكون الواقع مرصوداً بحدوده المختلفة، أما في الرواية فسوء النية، على وقع تصريف المادة التاريخية، بما يجعلها فناً ينمّي الخيال، وبدوره، يفلح الخيال في تربة المادة:


( أنا لست مؤرخا لكنني أقرأ التاريخ بعيني شاعر و روائي, أحاول أن أفجر أسئلة لا أن أقدم أجوبة جاهزة, دوري في الكتابة ليس الإجابة و إنما السؤال.).

وهذا الانكسار التاريخي الكردي، أو سلسلة هزائم الكرد، في واجهة الدرس العميق للمؤرخ المنفتح على ما كان، حيث يكون مستقبل الكرد مرهوناً بمعرفة ماضيهم، حين تناوله بالبحث في مكوناته ذاتياً وموضوعياً.

ولا أخفي بهذا الصدد جانباً من طبيعة اشتغالاتي بما هو تأريخي شقاقي كردي، كما في كتابي " العالقون في الخندق المعلَّق: المدخل القبائلي إلى دراسة تاريخ كوردستان- منشورات الأكاديمية الكردية، أربيل، 2020"، وكذلك " البدرخانيون بوصفهم البدرخانيين – منشورات مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية، دهوك، 2020 " وهو ما نجد توكيداً له، في القسم الآخر، حين رفض أمير بوتان وساطة بايزيدي وتجنب الدخول في حرب مع الجيش العثماني ، وما في ذلك من أنفة، وعدم اعتراف بالآخر، لأن هناك رهاناً على السلطة، دون أخذ المترتب على ذلك بعين الاعتبار .

في " نيفا-سانت بطرسبورغ " نكاشف المزيد من جغرافية الرواية، وأوجه الاختلاف والتشابه بين جابا وبايزيدي:

( عام 1824 وفد إلى سانت بطرسبورغ شاب بولوني طموح لدراسة اللغات الشرقية وتراث شعوبها. كان الشاب يخطط للعمل في السلك الدبلوماسي القيصري ضارباً عرض الحائط رغبةَ والده في أن يدرس تاريخ بولونيا لعله، كما صرخ أبوه ذات مشاجرة بينهما، يفيد شعب بولونيا المسكين ويكتشف سبب مأساة تمزقِه بين ممالك ثلاث. لم يكن هذا الشاب الطموح سوى الطالب أوغست جابا من كراسلافا والذي أنهى دراسته في جامعة فيلنيوس وجاء ليكملها في بطرسبورغ. لا يدري أحد سر ولعه بالشرق وآدابه! ولا يدري أحد لماذا خص الكرد من بين كل شعوب الشرق باهتمامه! ربما كان ذلك عائداً إلى تشابه حال الشعبين البولوني والكردي من حيث التمزق والرزوح تحت نير عبودية مثلثة أو مزدوجة ً وكذلك كثرة الانتفاضات التي تنتهي بالهزيمة والفشل والدماء.

لم يكن الشرق بالنسبة له على أي حال شرقاً رومانسياً جميلاً لا تغيب الشمس عن سمائه. ً قرأ في كتب الرحالة كثيراً عن هذا الشرق الجميل ، لكنه أراد شرقاً آخر. شرقاً حزيناً مثله، كئيباً مثله. حائراً يبحث عن هويته ويكافح لأجلها مثل شعبه. شرقا ، كان الشرق الذي يرغب في زيارته والتعرف إليه، شرقاً سحقته الحروب وتجاذبته الإمبراطوريات مثل ورقة في مخطوط حتى مزقته شر ممزق. لم يجد أنسب لرحلته سوى بلاد الكرد أو ما تم الاصطلاح عليه بلفظ ُكردستان. لذلك قرر أن يتعلم أن يتعلم لغتهم ، ويتعرف على آدابهم كما حلم ذات صيف. ص 18 .

وقد استدعى القيصر بنفسه مستشرقين من خارج روسيا للاستفادة من علومهم، مثل المستشرق ألبريخت دورن الذي دعاه القيصر للتدريس في جامعة خاركوف قبل أن يتوجه إلى بطرسبورغ ليدير المعهد الآسيوي خلفاً لمواطنه كريستيان فربن. أرسلت روسيا مستشرقين، بعد أن درسوا لغات الشرق وتعرفوا على تراث شعوبه وعاداتها في جامعات قازان وبطرسبورغ وموسكو وخاركوف، إلى كثير من الأصقاع العثمانية مثل مصر والعراق وكردستان لجمع معلومات عن الشعوب القاطنة هناك. وعينت عدداً من المستشرقين الذين تخرجوا من جامعات روسيا، ومنهم البولوني أوغست جابا، قناصل في المدن المتاخمة للإمبراطورية الروسية في الدول المجاورة بهدف جمع المعلومات وإرسالها فيما بعد إلى معهد الاستشراق ووزارة الخارجية في بطرسبورغ. 20 .).

القيصر، وكونه القيصر، كان يقدّر كل معلومة مدروسة تأتي من الجهات التي يطمع في السيطرة عليها، وكان ممثلوه في تلك الجهات، متعددي المهام، فالمعرفة سلطة وهي قوة مكتسبة، وهو ما يذكرنا بعنوان كتاب ادوارد سعيد: الاستشراق" السلطة، المعرفة، الإنشاء!ّ إنه ثالوث قويم ورهيب في مضرب أثره، وكان جابا قنصلاً وخبير معرفة جغرافياً كذلك . وفي الوقت نفسه يعيش مأساة بلاده: بولونيا، وهو أكثر حضوراً من خلال اختلاف الموقع الجغرافي .

وفي مشهد تال، وهو مكون تاريخي وروائي، حيث يكون بايزيدي في " إيران "، ومع أستاذه الأذري الملا صادق " 22 " نعاين التوترات المفخخة، وكيفية ضرب الشعوب بعضها بالبعض الآخر:

( لقد ألقى القدر رداءه الناري الذي حاكته الجغرافيا على أكتاف الكرد والأرمن فجعلتهم منقسمين بين إمبراطوريات ثلاث لا تهدأ عند حكامها شهوة الملك. تارة تغير هذه مثل موج البحر فتجرف شعوب الحدود أمامها، وتارة تغير تلك مثل سيل جارف فلا تبقي ولا تذر. وتارة تغير الثالثة مثل إعصار فتزرع الموت والدمار حيث قرقعت سنابك خيلها.ص 22 .).

إنه واقع تاريخي حاصل، ولو أن السرد الروائي يعتمد لغة توصيف للتخفيف من كابوس التاريخي وعنعناته .

ولا أعتقد أن عنوان " حديث الجبل " ببعيد عما هو أسطوري، وما هو محلي ورمزي بالنسبة إلى الكرد، عندما يتحدث الجبل، وما في حديثه من مقاربة لتلك الحروب والصراعات التي شهدتها جنباته :

( منذ أن رست السفينة العملاقة واستوت على إحدى قممي قبل بضعة آلاف من السنوات والبشر الذين أنجبهم المنقذ من الطوفان يتقاتلون في سفوحي وعلى مد البصر حتى الممالك القصية. ربما صاروا يتحاربون مثل التيوس الجبلية بنصر أبيهم الأكبر على الانقراض والغرق .

كم كان غبياً ذلك الإنسان العجوز أوتنابشتم وهو يصنع السفينة من خشب غابات الحور المحيطة بابني العظيم نهر الفرات. كم كان غبياً حين أصر على إنقاذ البشر من الطوفان الذي توقع أن يداهمهم ويخرب مساكنهم الطينية على ضفاف النهر. كان ذلك العجوز من حكماء قومه وكان عالما بالأنواء وذا خبرة عظيمة بمواسم هطول الأمطار...ص23.).

ولآرارات باسمه الجغرافي والملحمي والتاريخي والمختلف عليه، ما يشدد على هذه التصارعات، في متابعة موجعة:

( ثلاث إمبراطوريات تناوبت عبر مئات السنين على شن الحروب فيما بينها كل بضعة أعوام لأسباب شتى. بل لم يهدأ الصراع في تلك البقعة الملعونة طوال آلاف السنوات منذ عهد السومريين ومن جاءوا بعد انقراضهم وتفرقهم في الأمم .ص 24 .).

وما يمنح التاريخ حضوراً لافتاً على مستوى تتالي الأحداث والوقائع وانجرافات الجغرافية ودمار المكان:

( هجوم الروس سنة 1828، على الدولة العثمانية ابتداء من المناطق الكردية فاحتل بسهولة تامة بايزيد وقارص وأرضروم ووصلت طلائع الجيش الروسي برفقة الأرمن من المتحالفين معه حتى منطقة موش. حاول الأمير ال ُكردي بهلول باشا، أن يستغل الفرصة فيتحالف مع الروس للتحرر نهائياً من النير التركي فأرسل أحد أتباعه سراً إلى الجنرال إيفان باسكفيتش في مقر إقامته في تبريز يعرض عليه اتفاقاً بين الطرفين الروسي والكردي ضد الأتراك. ً وحين فشلت مساعيه تواصل مع القس الأرمني نرسيس وطلب منه تبليغ الجنرال باسكفيتش برغبته في التحالف مع الروس لكن القس، ودون أن يتصل بباسكفيتش خدعه بقوله إن الجنرال الروسي يقول: الوقت لم يحن بعد. بالرغم من ذلك تحالف أمراء كرد آخرون مع الجيش الروسي وحرروا مناطقهم من السيطرة التركية. لكن الأمر لم يدم طويلاً . هزم العثمانيون واضطروا للقبول بشروط معاهدة أدرنة وانتهت الحرب.

ولم تصل أخبار تلك المعاهدة إلى الجبهة الشرقية إلا بعد شهر تقريباً. وحين سمع الجنرال بما اتفق عليه الطرفان في أدرنة.سحب قواته على عجل تنفيذاً لبنودها. استغل الباشوات الكرد انسحاب الروس وانقلبوا عليهم وصاروا يطاردون فلولهم ً وينتقمون من الأرمن فأخرجوهم من أردهان وأرضروم وموش وغيرها من المناطق التي احتلوها بمعية الجيش الروسي. وبدأ التنافر الكردي الأرمني منذ ذلك اليوم.ص 25 .).

يلاحَظ في هذه المقتطفات مدى التركيز على مفارقات التاريخ وحكمة المتوخى منها، بالنسبة لمن يكرّس حياته، وبوصفه كاتباً متعدد الاهتمامات، بوصفه الجامع بين الشعري والنثري، في سياقات مختلفة. إنه التكريس لما هو تأريخي، وذلك لمصلحة الأدب الذي يرتقي دوست من خلاله إلى ما يستشرف به جهاته، أي ما يحرّره من حدوده الانقسامية، ومن تلك العلامات الحدودية التي تقض مضجعه، وقد استدرج إليه كائنات شتى، ليكون المنبني روائياً ذا اعتبار.

إنه المنتمي إلى عامة الناس، سوى أنه في سيرورته كاتباً وروائياً، يكون المنظور إليه من جهات مختلفة، وتلك هي فضيلة المقتدر روائياً، أو القوى الكامنة التي ترقى بشأنه عالياً، فيكون الشاهد البليغ روائياً، وإن سمّي ضحية تاريخ واقعاً .

ولكنه من هذا الانتماء يرسم حدوده التي تعلو به على كل حدود، وهو يقتنص أكثر اللحظات اشتمالاً على كثافة المروي أو المختلف عليه تاريخياً، وما هي الرواية بخارجها الداخلي، وداخلها الخارجي، إن لم تكن هذه المحلقة على ما هو مؤطر، والتقاط التوترات الموجهة ومساراتها السياسية والاجتماعية، وقد حرّرت من حضوراتها التأريخية المباشرة؟

بعض مما هو تاريخي يمضي بقارئه إلى هذه الساحة أو تلك، ومن خلال إشارة معينة، إلى هذه القوة المرسومة، أو تلك، وليكون ذلك تكريساً جمالياً لما هو روائي. إن قبح التاريخ حين يمرَّر إلى عالم الرواية، يحتفى به، لأنه مكاشف الأول، حيث تصبح كل لحظة من الزمان، وكل رقعة جغرافية بمرجعيتها الحدودية في عهدة الروائي وتحت تصرفه هنا.

وليست الشجرة " البيضاء هنا " ببعيدة عن اتخاذ دور، وهي بدالتها الديمومتية أو الإخصابية. وهي تتداخل مع حب بايزيدي، حيث يسمى التبريزي وجلال الدين الرومي، ويفلح في زواجه بعد مكابدة، ليرحل من بايزيد بعد ذلك.

وفي مسرد الأمير الكردي وصراعاته العائلية والسلطوية ما يقلق، ما يبث كرباً في سرد السارد (كان الأمير الكردي بهلول باشا، محكوماً مثل غيره من أمراء الكرد بالجغرافيا السياسية التي شاء القدر أن يوجد هو وتوجد إمارات أخرى مثل إمارته في عين عاصفتها وتحت تأثير مد حروب الجيران وجزرها. وحين تم خلعه بعد أعوام كثيرة بدسائس أحد باشوات إيالة وان، طالب أعيان بايزيد بإعادته. شكوا ظلم الحاكم الجديد وتعدياته على الأهالي فعاد بهلول مرة أخرى حاكماً ليتم خلعه بعد ذلك بوقت قصير. لم يرق هذا الفضاء السياسي المشحون بالاضطرابات للملا محمود البايزيدي الباحث عن هدوء يمِكنه من ممارسة دوره العلمي في مجتمه ، فأخذ زوجته وهاجر إلى حاضرة أرضروم التي تناوب على حكمها الترك والروس والفرس.ص 27 .) .

منْح موقع للحب، إضاءة للداخل، ليقرَأ الخارج في إثره، والتعرف على الميزان النفسي للمحب هذا.

ما يلفت النظر هو أن القنصل جابا عاش التجربة ذاتها، وتلك مفارقة تاريخية محتفىً بها روائياً بالمقابل

ومن خلال " شجيرة البرتقال " تردنا أخبار أخرى تخص الحرب وأهوالها( أخبار عن تزايد معاناة شعب جابا، حيث فشل تمرد ضباط بولونيين ضد سلطة الروس ، ومارس الجيش الروسي تمزيقاً لصفوف البولونيين وعسفاً ...ص 29 .)


وكذلك ( ما فعله عسكر الفرنساوية بأهل يافا حسب رواية رشيد الأعمى خادم مسجد البحر، وكذلك ما حكاه الجندي الأرناؤوطي الجريح لزوجته أم رشيد، وكيف غدر الفرنساوية بهم...ص31 . ).

ومن المؤكد أن القراءة هنا تنصب على البحث فيما هو ممكن توقعه، أوتبينه بالمقابل، حيث سؤال الحاضر يظل ماكثاً في واجهة المأخوذ به، في الذاكرة، لئلا يفوَّت أي شيء، من شأنه الإخلال بالمسطور، والمعزز فنياً. لا سرد دون فجيعة أو قطيعة مع وضع معين، أو إماطة لثام ما عن علّة ما، لأنه في أصل تكوّنه مولود من جنس درامي. وما يتلبسه عالم " مخطوط .." هو هذا الشاغل المهدد لما هو موجود ومستبد به .
في " أرض الروم " كما يشاء عنوان فرعي آخر، في سلسلة أشقائه العناوين الأخرى، وفي نهار تاريخ " مدلهم " بعصره وعالمه المتنوع بأجناسه، يتنفس بايزيدي إرهاصات الحالة ومؤثرات التحديات، آخذاً بالتاريخ الذي أدرك معناه. التاريخ أخْذ الذات بما يجعلها موضوعاً واسع المدى، لينظَر فيه جمعاً، وفي أتون حروب، حيث قومه في "حيص بيص ":

( في تلك البلدة، في منتصف القرن التاسع عشر وحين استلقت الإمبراطورية العثمانية العجوز في الآستانة على سرير المرض خائرة القوى، بدأ الملا محمود البايزيدي يخط أولى سطور الكتب المتعلقة بشعبه سوا ء كانت في الشعر والتراث أو المجتمع واللغة أو العشائر والتاريخ بناء على طلب صديقه القنصل "جابا.

" بدأ مشروعهما بنسخ كتاب في النحو العربي باللغة الكردية، ثم كتب البايزيدي لصالح الأكاديمية القيصرية في بطرسبورغ سيرة مختصرة لمجموعة من شعراء الكرد وأسماء بعض العشائر وأماكن سكناها وتعداد بيوتها وكذلك رسالة مختصرة في اللغة الكردية سماها تحفة الخلان. بعد ذلك طلب القنصل من صديقه وأستاذه أن يدون بعض وقائع التاريخ الكردي فلم يتوان الملا محمود وسهر الليالي يدون تحفته التاريخية التي كتبها بصيغة حكايات يتمازج فيها التاريخي بالقصصي الخيالي سماها جامع الحكايات الكردية. لكن أهم ما نتج عن تلاقح ذينك العقلين وتجاورهما هو ثلاثة كتب أولها ترجمة كتاب شرفنامه إلى الكردية وهو سفر تاريخي دونه الأمير شرفخان بدليسي في أوائل القرن الحادي عشر الهجري باللغة الفارسية. وكتاب تاريخ الكرد الحديث الذي ألفه البايزيدي من النقطة التي انتهى إليها سلفه شرفخان حتى عهده، وأخيراً عادات الأكراد وتقاليدهم الذي تناول فيه أحوال القبائل الر َّحل الكردية.ص 32 .)

كما لو أن الذي يريد القيام به هو المنشود من حياته التي أمضاها بين سعادة متقطعة، ومخاطر محدقة به، بمن يتحدث بلغتهم: أناسه، وبمن لا يريد لهم شراً، وهم الذي يعيش وإياهم، ويعلَم بهم، من أناس آخرين، وحين يعلن عن إنجاز المهمة: كتاب عادات الأكراد وتقاليدهم، يكون صديقه القنصل في الانتظار.إن كتابة عن شعب ما، هي محاولة للتأمين عليه حياتياً !

(بعد انتهاء المهمة، أعلم الملا محمود صديقه القنصل بالتالي:

-لقد بقي حوالي ثلاثة قرون من تاريخ الكرد دون تدوين خاص مذ وضع الأمير البدليسي قلمه عند آخر عبارة في كتابه المجيد.

وليطلب منه القنصل إنجاز هذه المهمة، أي تغطية هذا التاريخ المتبقي والمهم جداً له:

-المجهول الذي تتحدث عنه من تاريخكم سيفيدنا أكثر. هل لك أن تكتب في هذا المجال يا مولانا؟

- بلا شك يا سعادة القنصل. سأشتغل على ذلك.

- وسأجزل لك العطاء هذه المرة. سأدفع أجرك الآن.

. - سأبدأ من مساء اليوم على بركة الله.

. -ومتى ستنتهي من العمل؟ -

- حسب تيسير الله عزوجل. ربما في أقل من عام وربما أكثر.ص 32 .).

هذه القرون الثلاثة هي التي التي تشكل مفاصل حياة في غاية الأهمية والخطورة، إنها المدخل إلى العصر الحديث لأورُبا، ولكنها المدخل إلى عالم تبدأ الأوضاع في المنطقة بالاضطراب، في حروب حديثة، وتحالفات حديثة، وحدود تتعرض لتهديدات، وخطط تطوح بها، جرّاء حروب دامية في المنطقة، وفي نهاية حياة بايزيدي، يتنامى الويل .

في " السمرقندية تروي " هناك ما يشدد على هذا المنغص الروحي والوجودي، حيث مرارة الدائر كردياً:

( خالط الملا محمود البايزيدي كثيراً من أمراء الكرد، مثل بهلول باشا البايزيدي ونور الله بيك الهكاري وبدرخان بيك البوطي ً وغيرهم دون أن يلمس من أي منهم اهتماماً بمشروعاته التدوينية ً ولو بمقدار خرم إبرة بالتدوين والكتب. عرض على الأمراء فلم يستمعوا له ولم يأبهوا بعرضه. كانوا مشغولين بصراعاتهم البينية يحيك أحدهم الدسيسة وراء الأخرى عند الحاكم العثماني حتى ينال الحظوة دونه، أو يتطوع آخر لقمع انتفاضة أمير كردي لتعلو مراتبه لدى الباب العالي. لم يكن أي أمير من أمراء الكرد ذلك العصر ولا حتى قبله ينتبه إلى خطورة التدوين بل انحصر ُجل اهتمامهم بالمنشدين يأتون بهم إلى قصورهم ليغنوا مآثر الآباء والأجداد ومآثرهم الشخصية أيضا كما كان يحصل في قصر إسحاق باشا الذي ازدهر بالمنشدين الجوالين ممن أنعم الأمراء عليهم أيما إنعام. عنها. ..ص 33 .).

إنها النقطة المفصلية الأكثر اقتداراً على تمثيل مأساة الكرد فيما بينهم، وتجاه الذين يفكرون في الجاري كردياً، والأخطار المحدقة بهم، وما ينبغي العمل به تفادياً لهذه الشرور. فالعدو هو الآخر الذي لا يشار إليه دائماً، طالما أن في الداخل" الأهلي " ما يعصف بميزان الحياة والاستقرار، ، وهو ما رأيناه سابقاً، وهو ما نراه هنا، وما نعيشه الآن، بالنسبة إلى صوت " المثقف " أو الذي يعيش الواقع بكامل جسده، وبؤس المعاش.

في ( رسالته إلى الباب العالي طلباً للاهتمام به مادياً : وهي رسالة محفوظة في الأرشيف العثماني.ص 33 .)، ما يعتصر الروح، إنما ما لا ينبغي الاستغراب تجاهه بوصفه أقرب إلى الظاهرة التاريخية كردياً. وأن يعيش الكاتب المأهول بأنفاس أناسه وواقعه الحي، ويعاني دون تقدير لما يكتب، هو ما يمكن التدقيق فيه، وقراءة المفارقات، جهة المقارنة بين الجاري في أوربا، والجاري في المنطقة، وكردياً بصورة جلية.

بايزيدي يبحث عما يميّز أناسه، قومه، محيطه، من باب الخصوصية المشروعة، وهو مدفوع ثمنه ألماً وتهديداً له.

كما نتبين ذلك إزاء تدوينه لوقائع بطرق شتى ..وهو وسط جماعة من الملالي ممن كانوا يتشاحنون فيما بينهم في حجرته.. ( فيضطر إلى الكتابة في الهزيع الأخير من الليل..ص 34 .).

وفي سردية المسبحة الكهرمانية عن المشاحنات بين الذين تنقَّلت بين أيديهم ( ملالي بايزيد وأرضروم "ص 35 .)

وما دار بينه وبين الملا يوسف الذي اتهمه بالعمل لصالح الأعداء، ومنهم القنصل جابا ، ليكون رد الملا محمود:

-) أتتهمني بالدفاع عن أعداء بلادي وأنا المخلص لها؟ أتتهمني بالطمع يا ملا يوسف؟ بئس ما تفوهت به. لو كنت لسعيت إلى رضاء والي وان وأرضروم وأمير أمراء دياربكر وغيرها. كان هؤلاء سيسدون فمي بالمال. لكنني أريد من علاقتي بالقنصل شيئاً آخر ربما يغيب عن بالك. أريد تدوين تاريح ملتنا يا ملا يوسف. أتفهم؟ ملتنا.

ليذكره الآخر بأن ملته عثمانية، والرد تالياً:

- نحن من الملة العثمانية نعم. لا جدال في ذلك. لكنني أنا أكتب ما يتعلق بتاريخ نسيه الآخرون ولم يدونه مؤرخوالدولة العلية.ص 36 .).

هذا الرهان في تأكيد " الهوية " المشروع مستمر إلى يومنا، وما فيه من إمكان وضع اليد على الجرْح الكردي، فيما يسببه الكردي، وهو متنفذ، سلطوي ضيق، لنفسه ولمن حوله، من تعرض لفجيعة تلو أخرى.

وفي " حكاية كرْع ابن مسكو البرازي" تأتينا تفاصيل أخرى عن منجَز الملا محمود:

( حين انتهى البايزيدي من تسطير ديباجة مخطوطه، أي كتاب تاريخ كردستان الحديث، بخطه البديع على صدري، أنا الورقة السمرقندية التي كان لي شرف التحدث إليكم، وضعني بهدوء جانباً وصار يتأملني بحنان يخالطه الفخر. ص 36 .)

وثمة نبذة عن " كرع " مهمة هنا:

كان َكرع شاباً جسوراً من فخذ الكيتكان من عشيرة البَرازان وابن أحد وجهائها الكتخدا ِمسكو (حسب الوثائق العثمانية) أو موسكي (حسب الملاحم الشعبية التي غناها المنشدون عنه(والبَرازان من قبائل الكرد الكبيرة تمتد حدودها على جانبي نهر الفرات من أورفة حتى تخوم الرقة. وقد اعترض هذا الشاب البَرازي على قانون الإصالحات أو ما سمي بخط ُكلخانه الشريف الذي جاء به السلطان عبد المجيد سنة 1839 وما تبعه من إضافات في عام 1843 كان من أهمها وأخطرها فرض الخدمة الإلزامية على كل شاب قادر على حمل السالح لمدة أربع أو خمس سنوات يتم تمديدها في حال الفرار والتهرب من الخدمة.

وحين ضاقت السبل بالمتمرد َكرع وأخيه َحمى، توجها إلى قبيلة عنزة العربية في نواحي الفرات بأمل بناء تحالف مناهض للعثمانيين، لكن أبناء تلك القبيلة وخوفاً من انتقام الدولة العثمانية رفضوا الاقتراح ونأوا بأنفسهم عن الصراع. فبقي الأخوان الثائران لوحدهما معزولين من أي دعم عسكري وجهزت الدولة العثمانية حملة كبيرة ضدهما حتى تمكنت عقب معركة حاسمة " حاسكة هناك. "سريعة من قتل َحمى وأسر أخيه َكرع واقتادته إلى حلب ليواجه هناك عقوبة الإعدام بقطع الرأس بمقتضى فتوى شرعية ما تزال مع غيرها من الوثائق المتعلقة بانتفاضة الشاب البَرازي محفوظة في الأرشيف العثماني.ص 37 .).

تاريخ يمكن التوقف عنده، لكنه المأخوذ والمعتصَر مما هو تاريخي، وقد سيق بعد تشريبه فنياً في نطاق الرواية، ولهذه أن تعتد بنفسه، أن تطرح نفسها لقارئها المنتظر، قارىء يمكنه الخروج مما هو تاريخي ضيق، ليحسن تدبير المثار في أصل الرواية، ليعود أدراجه إلى ما هو عليه، وما كان عليه سلفه الكردي في التدبير والتفكير .

المأساة الخاصة بما هو كردي، وفيما كان يحاول بايزيدي القيام، لمنع وقوع حرب، لفتح معبر آمن إلى حياة مرهقة في منتطقته، وبالنسبة إلى قومه، كل ذلك يعنينا أمره، لأننا المخاطَبون، إن أردنا الإصغاء إلى المدشن روائياً.

ففي فقرة" الجد والحفيد " تخلص الملا محمود من أسر القائد العثماني المشير عثمان الذي أراد الهجوم على بوتان، وقد أظهر له ورقة تكليف الصدر العثماني الأعظم بالتوسط بينهم..

ولم يتجاوب الأمير الكردي مع ما أفصح عنه الملا محمود وهو يظهر قوة الجيش العثماني، بدعوى عظمته.

ولتكون النتيجة معروفة، وليكون قول الجد للحفيد:

( لم يكن أمراؤنا أذكياء بما فيه الكفاية يا ولدي ليعلموا أن التنظيمات التي أتى بها خط كلخانه هو غير الزمن قبلها. ص 38 .)

وثم:

-أملاكهم كبيرة وعقولهم صغيرة يا ولدي.

وحين يستفسر الحفيد مستغرباً مما يسمع عمن يكونون:

أمراء الكرد. حكامنا. حكامنا يا ولدي. حكامنا الحمقى. ص 38 .)

وما يفيد للحفيد، بعد الذي جرى لبدرخان وسواه طبعاً

( لقد أخطأ أمراؤنا بحرب الأرمن والنساطرة وكرروا الخطأ مراراً. استعدَوا هؤلاء الجيران وبذروا كراهية قومنا في نفوسهم. ص 39 .)

ومن حكايات أمير جزيرة بوطان، ما شاهده مستغرباً في سلوك أخيه الأمير الزاهد صالح، وهو يحرث الأرض بنفسه، ورد هذا عليه:

( إن بقيت تقتل المسيحيين فلن يبقى في حدود إمارتك من يحرث الأرض. سنضطر أنا وأنت لنصلح أراضينا بأنفسنا. يا أخي بدرخان. ص 40 .)

وعن: وثبة المحتضر، عن وضع العثمانيين في أواخر أيامهم. ص 42 .

وفي " مخطوط بطرسبرغ ": الإنجاز، بلسان المخطوط المؤلف من مائتي صفحة.حيث التأكيد أن الحافز من وضع تاريخه الأكراد الحديث لم يكن المال (بل إن الرغبة في تدوين تاريخ بني جلدته..).

وما يهم القارىء، ما يهم دوست الوصول إليه، وإطلاق سراحه فكرة في غاية الخطورة، تنبيهعية، إنذارية، وليست شعاراتية، مفتوحة ، وممتدة في الزمن، على صعيد معالجة التاريخ، وما يتقدم به فنياً، حيث يضاء عالم المخطوط:

( وبالمناسبة، لم يسِّم كتابه باسم مخطوط بطرسبورغ. هذا الاسم نبع من خيال كاتب هذه الرواية الذي يقع في غرام شخوصه. أما اسمي الحقيقي فهو تاريخ كردستان الحديث أو بالكردية العثمانية: تواريخ جديد كردستان. أما لماذا لقبني كاتب هذه الرواية مخطوط بطرسبرغ، فلأنه يظن أن المقام استقر بي في عاصمة القياصرة وبالذات في مكتبتها الإمبراطورية الضخمة التي تحوي مئات الآلاف من الكتب والمخطوطات التي لم تجد كثير منها من يمسح الغبار عنها منذ مئتي عام.ص 42 .)

ثم يكون تسليم المخطوط للقنصل.وشكوى المخطوط بقولة ( حبسني القنصل..ص 44 .).

هذه العبارة تدشينية، إنها السير إلى منحدر التاريخ، إلى ما ينبه بخطورة المتاهة وانتظار المخاطرأكثر.

في: اللقاء الأخير. في سنة 1866 تنتهي مهمة القنصل وقد أمضى 18 عاماً في عمله.

ومفاجأة الملا محمود بصنيع القنصل وقد جاء يودعه، حيث قرأ عنوان مخطوطه وهو في حلة جديدة:

جامع الرسائل والحكايات باللغة الكردية. رتبها وترجمها إلى الفرنسية إسكندر جابا قنصل الإمبراطورية الروسية العظمى في أرضروم. طبع هذا الكتاب في مدينة بيتربورغ بدار الطباعة التابعة الأكاديمية الإمبراطورية سنة ألف وثمانمائة وستين ميلادية الموافقة لسنة 1277 هجرية. ص 45 " العنوان مشدد عليه بالأسود.

وما ينمّي القلق ، في الحوار بين " الجد والحفيد ". طبعاً الجد يعلِم بما هو كارثي، والحفيد قريب منا ويعنينا خبره .

وفي حديث عن سعادة الجد لحفيده، وما يلفت النظر:

( لم أنل من وساطتي بين الدولة العلية وأولئك الأمراء سوى التعذيب والقهر والسجن، بينما أثمرت علاقتي مع القنصل عن كتب عديدة ورسائل ستفيد قومي قبل الأقوام الأخرى وأجراً استطعت العيش منه بكرامة.ص 47.).

لعلها من كبريات المفارقات التي تجلو عالم الكرد،أو أسها الاجتماعي والسياسي والثقافي كذلك.

وسرده لحكاية يزدان شير مع بدرخان بك وخيانته له، وهو قريبه، وتعاونه مع العثمانيين، ثم تنصيبه أميراً وليثور شعوراً متأخراً منه أنه خدع، ليغلَب على أمره ويهان أسيراً ومنفياً " ص 48 " . والخيانة يشدَّد عليها هنا، جراء تاريخها الطويل كردياً:

( نحن كالأفاعي يا ولدي. أتعرف أن الأفاعي يغويها الإنتشاد والصوت الحسن؟ نحن كذلك يقتلنا المديح.ص 48.).

في التحول الرمزي إلى أفعى، إسقاط الإنسية عمن يتحدث بلغتهم، عن نفسه هو عينه، وهو مضطرب مقهور من داخله.

ولتكون نهاية الملا محمود في صباح شباطي من سنة 1867 " ص 50 ."

وفي صوع أقرب إلى الشعري في فقرة " سميرنا "

( جسدي في آسيا وقلبي في أثينا.)

وما يخص القنصل جابا وقد بلغ 92 سنة من العمر، واشتد عليه المرض، حتى اتهمه أولاده بالخرف سنة 1893، خلاف الأحفاد الذين اعتنوا به.. " ص 53 ".وينتهي أمره سنة 1894. "ص 54 .".

سلسلة تشابهات، وسلسلة إضاءات. وعلينا ألا نغتم بما هو متفتَّق عنه كرباً ونكداً في ثنيات الرواية،لأن الرواية في حقيقة محتواها لا تعد بالسعادة المطلوبة، بمقدر ما تبرم اتفاقاً مقدَّراً من خلالها بما يعكّر صفو الحياة، والتنبيه إليه، وفي مثال القنصل تتويج للمفارقة الحياتية الكبرى. لقد بلغ سوء النية أقصى مدى مجد ٍ له، جهة النظر إليه من قبل أولاده خلاف الأحفاد. وهي مدعاة للتساؤل عن حقيقة إبراز الأحفاد بالإيجابية هذه، وما إذا كانوا حقاً جديرين بمثل هذه الميزة .

وفي " مخطوط بطرسبرغ " ما يقرّبنا من هاوية المتاهة، حين نعيش وخامة مناخها وتداعيات الجاري باسمه.

جهة " المصير "

إذ نكون مع حديث المخطوط عن القنصل وتلك العناية الفائقة به، بلفه، ووإرساله إلى الجهة المطلوبة، وفي محطة استراحة، يفاجأ الحوذي ومرافقاه بجماعات فرسان يطوقون العربة، يعرفهم الحوذي حيث يقول لرفيقيه بألا داعي للخوف:

(- هؤلاء قطاع طرق أكراد. لا تخافا. هؤلاء ينهبون ولا يقتلون. والحمد لله ليس معنا مال.)

ولحظة التفتيش للعربة، وبعد تقييد الحوذي ورفيقيه، يشار إلى وجود مخطوط سمّي لهم، بأنه عن تاريخ الأكراد، ليرد الآغا " زعيمهم، كما يظهر ":

-) تاريخ؟ أية أكاذيب؟ دعني أرى.)

وبعد توسلات من في العربة، ودفعهم مجيدياتهم المخبأة، أعفي المخطوط، إنما قطِعت منه ورقة لإشعال الحطب، وحسب السارد، أنها الورقة الثمانون، من أصل ( 199 ورقة ) حيث دون فيها الملا محمود البايزيدي تاريخ وأحداث منطقة َبهدينان، أي الفصل السابع المعنون بــ" وقائع منطقة بهدينان، التي مركزها مدينة العمادية. ص 57 ."

ثم جاء دور الصفحة المائة اعتباطاً "وقائع منطقة بوطان التي حاضرتها مدينة الجزيرة" ومن ثم ليكون الحرق مصير المئتي ورقة، ولتكون الورقة المنتزعة الأولى في الأخير، وفيها مكتوب:

(-لكل شعب تاريخ يبحث في أصل ذلك الشعب ويهتم بالوقائع الجسيمة التي عاشها وتشهد الأمم الأخرى على وجوده. حيث ترمى في النار، وسط تعليق الآمر بالحرق، وقد تفحصها شذراً، وهو يطلق حكماً، وقد سمع عما فيها:

لا شيء. لا شيء. إنها تتحدث عن قصص التاريخ.

حين قال:

. - قل إنها تتحدث عن الروث. وليت هذه الورقة تنفع مثل الروث في تدفئة الإنسان. إنها لا تدوم مشتعلة، مثل باقي زميلاتها الأخريات، أكثر من دقيقة. فأرسلها إلى جهنم الحمراء مثل سابقاتها. سأحول هذا التاريخ الملعون إلى رماد في غضون دقائق معدودة.

ولتفزع الورقة هذه، وهي تقول لنفسها في جزع:

-إنها القيامة إذن أيتها السمرقندية البائسة! إنه الحريق! ص 57 )

ينتهي الحدث بما لا يشتهيه الكردي الباحث عن موقع له بين الأمم، وفي هذا المتحصل يمكن قراءة تاريخ الكردي، على صعيد علاقته بنظيره، وجهة التعامل مع ذوي السلطة، وخواء الواقع وزيف المتداول، والوعد بما هو موعود به كردياً.

القيامة توقيف لكل شيء، لأن كل شيء يجري تحويله إلى نطاق قيمي، جمالي، اجتماعي آخر، وهو الذي يوقف القارىء نفسه، لينظر في أمر نفسه، ومن يديرون شئونه كردياً، ممن يتزعمونه، ويعرَفون بأهل الحل والعقد.

في " سوء النية " وفي هذا المشهد المروع، ومن خارج غيرمجهول" قطاع الطرق " توقيع على ما هو قابل للتعميم كثيراً. إنهم على صعيد الرمز، أكثر من كونهم " قطاع طرق " طالما أنهم استخفوا بالمسطور، أي ما يغلق على كل مستقبل، والمشهد قابل لأكثر التفاسير إيلاماً وأهلية بالدلالات التي تعلِم الكردي بما ينتظره وجعاً، وما يغلق عليه آتياً.

وهي النقطة المفصلية التي تسمي ما هو حدودي، حيث يصبح الكرد أنفسهم ضحايا أنفسهم، وحدودهم التي تقاضيهم من خلال هذا المتحصل، كما لو أن الجهل هو الممضي باسمه، وليس العلم، وما ينوب الكرد، جرّاء هذا التمثيل المرعب، وعبر جهل محتفى به، أو مستأنس به، أو مراعى بصيغ شتى، يعيش الكرد موتهم الرمزي.

في حوار منشورر معه بتاريخ 21-4 / 2021، يجيب جان دوست عن سؤال الدافع وراء كتابة رواية كوباني

( كوباني كانت بمثابة جُرح، وأنا كنت المجروح الذي كان في حاجة لأن يصرخ. إن الألم الذي مررت به في تلك الأيام كان يفوق التحمل. أثناء تلك الفترة، الجميع كانوا منشغلي التركيز في أمور كالمقاومة والنساء المقاتلات، وذلك كان واحد فقط من جوانب المعركة ، وقد صبوا اهتمامهم عليه لاعتبارات كثيرة. أما أنا فقد أردت أن أسلّط الضوء على جان دوست الآخر، الجان دوستب الذي يعد أكثر أهمية في حالة الحرب ضد داعش؛ المقاومة كانت حتما شيء جيد، ولكن لأحد تحدث عن الثمن الباهض الذي دفعه مجتمعنا لقاء تلك المقاومة. لقد كنت اختنق اثناء الحرب على كوباني؛ كنت أدرك أن مدينتي تتعرض للتدمير وأنهم بذلك كانوا يمحون الذاكرة التي بناها المجتمع الكوباني لقرنٍ من الزمان. بعض الناس كان يُشعرهم بالسعادة لرؤيتهم شوارع كوباني وهي تتعرض للتفجير، وكانوا من داعمي ومؤيدي تلك الكارثة ، بل إنهم ساعدو في ذلك وأيّدوه جدا. وهؤلاء نسوا أن تلك التفجيرات كانت تدمّر أعشاشهم ولن يكن بوسعهم العودة إليها ؛ وكانت النهاية أن بكوا بحرقة حين أدركوا أنهم لا يستطيعون العودة فعلاً وأنهم فقدوا كل شيء. وحين كان لي أن أُبعد هذه المسافات كلها أحسست أنني فقدت كل شيء، بل إنني فقدت حتى أمل العودة إلى مدينتي الصغيرة ؛ ضاعت وإلى الأبد كل الأماكن التي كانت شاهدةً على ميلادي ومرحلتي طفولتي وشبابي. وكان علي أن أكتب لأعيد بناء ذكرياتي وذاكرة مدينتي، لو لم أقم بذلك لكنت لأفقد عقلي، وكتابة كوباني بالنسبة لي كان بمثابة علاج لتّخفف من أزمة نفسية كنت أمر بها في تلك الأيام.).

هذا المستشهد به،والذي يرتقي بالقول إلى شهادة عيان على بايزيدية دوست، على ما هو مأهول به كردياً، وإنسانياً، حيث : كوبانيته، أوسع من كونها المدينة التي ينتمي إليه مسقطَ رأس، وحياة لزمن معلوم، إنها القابلة لأن تكون رمزاً منوَّراً من الداخل، حيث الكردي يعيش في بؤس التفكير، ويراهن على ما هو مختزل، وجانبي، وليس توسيع دائرة الرؤية، لئلا نعيش مأساة المخطوط في حصيلة حصيره في الرواية، ونشهد بأم أعيننا كيفية حرق أوراق تجاوباً لما هو شقاواتي.

ما يهم دوست، هو ما ينيره من الداخل، ليكون أكثر تمثيلاً واقعياً لما ينشغل به، وهو في تنوع علاقاته مع الآخرين، ففي حوار مع " صحيفة العرب " بتاريخ " 4-10/ 2020 " يقول عن مغزى اهتمامه بالتاريخ الكردي الخاص

( في الحقيقة أنا اهتممت بالتاريخ الكردي الخاص. لم أقترب من ملكوت هموم الإنسان العربي إلا في الإطار الإنساني العام، أنا ابن بيئة كردية وأجدني أكثر قدرة على التعبير عنها. استطعت عبر السنوات الـ35 التي عشتها في كوباني، المدينة الكردية الحدودية، أن أراقب مجتمعي الكردي ثم قادني ذلك إلى النبش في التاريخ الكردي فبحثت عن العوامل التي مهدت للواقع الحالي وأنتجته.).

لا لوم ولا تثريب، إنما هو إشهار شخصية لها من المصداقية، بقدر ما تعيش سرديات واقعها الذي تنتمي إليه، ولعله أفلح في ذلك.

هنا، في النهاية اللانهاية، حيث المتاهة ازدادت توسعاً ورهبة، يكون لقطاع الطرق ما يسهم في بث المخاطر عبْر المتاهة تلك. قطاع طرق ممن يتحدثون بلغتنا، ممن يشكلون خطراً على كل ما هو كردي، وما يصل الكرد بغيرهم، لازالوا قائمين بين ظهرانيهم، على حدود رسموها بأنفسهم، تحول دون رؤية الحدود آمنة، أو واعدة بما هو مستقر ومأمول كردياً عامة!

ما أفجعه من تاريخ هذا الذي نقرأ صفحته المفتوحة، وما أبدعها من رواية هذه التي سطَّرتها يد جان دوست.

وما يمكن التشديد عليه، جهة المأهول به أدبياً وما يخدم الأدب، بعائده الكردي، بصورة فاعلة، هو أنه، ومن خلال انهمامه بالشاعر أحمد خاني في " مم وزينـ:ـه " وتالياً بالناثر ملا محمود بايزيدي، وقد تلاقى البايزيديان، سعى، كما هو ملاحَظ كثيراً، إلى صهرهما معاً، حيث يتقدم نصه، هنا وهناك، بهذه التركيبة، وليتوارى الاثنان في الداخل، ويبقى الوجه الأدبي لدوست.

هنا، أعتقد أنه ما على قارىء " مخطوط بطرسبوغ " في " سيرة رجلين " ومفارقاتهما، أن يعيش، ولو لبعض الوقت" سوء النيَّة " المعتمد من قبل دوست، ليتبصر هول الجاري، وصفة الحدودية التي يعيشها اعتبارياً ! فالأدب في عمومه مفعَّل من هذا الجانب، وطوبى لمَن أحْسن مصادقة الأدب، بالطريقة هذه، كما هو المأثور فيما تقدَّم النظر فيه، ومأثرة الجمالي فيه.

جان دوست، لديه الكثيرين ممَّن يكاتبهم، والكثير مما يمكنه كتابته، في ضوء ما يكتبه، ويتنشط من خلاله. يمكن بالطريقة هذه، أن ينقلب هو الآخر، إلى مخطوط يبحَث في أمره، بطرق شتى.

كل قارىء مبدع هو فاعل سرد، وثمة مخطوط دائماً، وبالتوازي، يقتفي أثرَه ليكون له أثرُه !


ملاحظة: اعتمدتُ في قراءة " مخطوط بطرسبورغ " على النسخة الالكترونية التي أرسلها إلي الصديق والكاتب جان دوست مشكوراً، فكانت هذه القراءة، والرواية المطبوعة، والمشار إليها تقع في " 190 " صفحة!






مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية