تحاول هذه "القراءة" التعامل مع مجموعة" قلائد النار الضّالة في مديح القرابين، عمان دار فضاءات، 2016" للشاعر السُّوري هوشنك أوسي الذي يتمتع بحضور في المشهد الثقافي كردياً وعربياً وبخبرة في مجال الكتابة الشعرية، فثمة مجاميع شعرية عديدة تؤسِّس الرأسمال الشِّعري له:" للعشق نبيه...للجرح شراعه،2001، ارتجالات الأزرق، 2004، شجرة الخيالات ئة،2006، الكلام الشهيد، 2009،...إلخ. وسوف يـتأسس فضاء القراءة على محاور العنوان والمجازفة في المحاكاة وصولاً إلى استعادة الصوت الشعري.

بدايةً ستقودنا خريطةُ القراءةِ الضّالة، إلى محفل التَّسمية، حيث العنوان الذي يمنح المجموعة الشِّعرية هويتها، كينونتها في أن تكون بهذا الاسم ــ العنوان دون غيره. ولاشكَّ أنَّ المجموعة الشِّعرية تشي بميثاق التزام بين العُنوان والنُّصوص المنضوية تحت يافطته، فالتقاطعات الدلالية والصوتية بينه والنُّصوص باذخة بكثرتها ولاسيما مفردة "النار"،": سأنثر عليكَ أربعة أكوابٍ من سٍكّر النار...ص9، هذا الوعل، سليل النار المختمرة من فرط عذريتها....، الذي يرتاد مخادع إناث الطين والضوء جهرا،..ص11، والدم الحرون؛ إّنا صغناه في أوارٍ وأتون، ص15، ...إلخ". وكذلك من السهولة بمكان اصطياد الكثير من التناديات بينهما ولاسيما على مستوى الصيغ المتغايرة لمفردة "النار" في النصوص، كرابط مشترك، لكنّ التَّشاكل بين الحدين: العنوان والجسد النَّصي يبلغ الذروة الدلالية والصوتية في "مدوَّنات الشيطان" وتحديداً في الجزء الموسوم بـ" نصوص النار"؛ فليس بخافٍ على القارىء الترابط بين "الشيطان" و"الشاعر" في سرديات المخيّلة الشعرية من حيث لكلِّ شاعر شيطانه الذي يلهمه الشعر والقصيد وبين "نصوص النار" و"قلائد النار"، وفي اللسان العربي: "القلادة ما يجُعل في العُنق من حليٍّ ونحوه. وقلائد الشعر: البواقي على الدهر منه. أو الأبيات التي لاتزال محفوظة باقية لاتنسى لنفاستها"، هنا تندفع دلالات العنوان إلى فسحة النور من حيث إنَّ "مدوّنات الشيطان" ليست إلا "نصوص الشَّاعر" أي "قلائد النَّار الضالة في مديح القرابين"، وبناء على التأويل فالمجموعة الشِّعرية هي حزمة من القصائد "الفريدة والنفيسة" في مديح "القرابين" وهي المفردة التي تنفتح معجمياً على "ما يُتقرّب به إلى الإله من ذبيحةٍ وغيرها أو ما يقدّسه الكاهن ــ في المسيحية ــ في القدّاس من الخبز والخمر". لكن "القرابين" كعلامة على القَداسة تمضي في الزمن القديم سحيقاً؛ لترمز لعالم وثني؛ يتلمسه القارىء بوضوح حيث يتفتح برموزه في فضاء القراءة.

ولكنّ قراءة ثقافية أو تفكيكية لئيمة لا يمكن لها بأيِّ حالٍّ أن تمرَّ بمحاذاة هذا العُنوان مرورَ نَاسٍّ؛ فثمة سؤالٌ خطيرٌ ينهضُ على تخوم هذه التآويل: مَنْ الذي يقرِّرُ "نفاسة هذه القصائد وفرادتها" الشَّاعر أم القارىء؟ لاشكَّ أن "العنونة" ليس بالحَدث "البريء"، فثمة وظائف من ماهيةٍ، وإغواء، وتعيين، وتسويق،....إلخ يؤديها العنوان في لحظة التلاقي مابين النَّص والعَالم، فالعنوان هو الفخُّ الآثمُ الذي ينتظر القارىء على بوابات النَّص، الهوة المخفية التي تنتظر القارى ليبتلعه النص!. لذلك فهذه المسؤولية الفنية الخطيرة والقانونية لا يتحمَّلها إلا صاحب النَّص الشّعري! فما الذي دفع شاعر "قلائد النَّار الضالة" أنْ يصادر قراءة القارىء ويقصيها قبل أن تبدأ؟ فقرار فرادة الكلمة الشعرية تعود للقارىء، للقراء وليس للشاعر/ المؤلِّف وفق منطق الرؤية النّقدية ما بعد الحداثية؛ لقد ولّى زمن "المؤلِّف" الذي يقرر للقارىء ماهية النَّص وكيفية قراءته وتحديد معانيه وفرداته من عدمها؛ فاندثرت امبراطورية المؤلّف عقب "ميلاد القارىء" بإعلان "موت المؤلّف". من هنا يمكن تأويل هذا الفعل بوصفه "تمركزاً حول الذات الشاعرة"، هذا التمركز الذي يشي بأصداء من مركزية اللوغوسLogocentrism التي تجعل "الذات الشاعرة" هي الأصل والحقيقة والمركز والمدلول المتعالي الذي لايناطه القارىء، أي يجعلنا هذا القرار إزاء ثنائية: المؤلف/ القارىء، عبقري/ جاهل ومن ثمَّ أفضلية الحد الأول على الثاني، بل يمكن لنا الاندفاع أكثر في القول بأنَّ هذا "التمركز حول الذات" يعكس "ميتافيزيقا الحضورMetaphysics of presence" وفق جاك دريدا، ميتافيزيقا حضور المؤلف القارىء، نظراً لفقدانه أهلية القراءة النقدية وفق الرؤية التي تنطلق من تحكُّم المؤلّف بالكلام.

من جهة أخرى ماذا بشأن بنية العنوان؟ لا خلاف على بروز ميثاق الالتزام بين العُنوان والنَّص، وهذه وظيفة لابدَّ منها لتحقيق نوعٍ من التماسك البنيوي ـ الدلالي للنّص، لكن الفجوة التي يعاني منها العنوان ــ موضوع القراءة تتمثّل في توصيف "قلائد النار" بـ"الضالة"، فمن أولى علامات التوصيف في العربية هو تحديد الموصوف وهذا ما يحدُّ من تدفق الدلالات وفيضانها في عملية قراءة نص ـ العنوان وتأويله، مما يعزز من هيمنة المؤلف/ الشاعر في اتخاذ قرار توصيف هذه النصوص بالفرادة التي تتحدى الزمن عبر ديمومة كينونتها.

لاشَكَّ بأنَّ "قلق التأثر"، كما يرى هارولد بلوم، يستبدُّ بكلِّ شاعرٍ، فلا شاعر بمنأى عن مواجهة "الأب ــ الشَّاعر"، حيث المنازلةُ التي لابدَّ منها تمهيداً لانبثاق القصيدة، كما لو أنَّ ولادةَ "القصيدة" مرهونة بهذا الصِّراع الأنطولوجي على صعيد الكتابة الشِّعرية، صراعٌ يُهيكلُ حدود العلاقة بين النِّص الشِّعري في طور الانبثاق والنُّصوص السَّابقة له، التي تشكِّل محفلاً، ساحةً للاشتباك التناصيِّ. استناداً إلى هذه الفكرة النقدية، تقودنا قراءة تضاريس النصوص المشكلة للمجموعة، إلى أخطر ما في الكتابة الشعرية في هذه المجموعة، وأقصد استراتيجية الكتابة ذاتها التي يتأسس وفق اشتغالاتها الجسد النَّصي. لنشير بداية أن مجموعة "هوشنك أوسي" تفاجىء القارىء بالزخم القوي للكتابة على صعد المعجم والصُّورة والعالم الدلالي والشكل الهندسي للنص؛ فثمة مهارة في اقتناص المفردة وزجها في سياقات نصية غامضة. لكن عند التأمُّل الفاحص في المساحات اللغوية تبرز قضية خطيرة وهي أنَّ نصوص المجموعة تتشكل في مجملها من مجازفة خطيرة في المحاكاة والتشاكل الأسلوبي مع "أسلوبية الشَّاعر والروائي السوري سليم بركات" تركيباً، ومعجماً وبلاغةً، وكذلك الأسلوب القرآني باستثناء النصوص المندرجة في "ألبوم إيروتيكي" و"متحف الأنثى" !! وهذا ما يضع هذه المجموعة في أتون سؤالٍ خطيرٍ؛ لماذا أخذت المحاكاة سبيل التشاكل والتماثل بدلاً من الاختلاف؟

أشرنا بدايةً إلى أنّ مفهومَ "قلق التأثر" قارٌّ في التَّجارب الشِّعرية؛ فالتناصُّ قدر الكتابة؛ لذلك فالمواجهة مشروعة شرْطَ انطلاقها من "الاختلاف"، أما أن تلجَ في فضاء الائتلاف والتماثل فهي لن تؤدّي سوى إلى إعادة "الشَّاعر ــ الأب"، إعادة نسخ صوته، صوره، معجمه، طرائقه في تصريف الكلام، إعادة بلاغته، وتوقيعه،...إلخ ومن ثمَّ إهدار التجربة الشعرية المرتقبة قيد الانبثاق. وهذا ما يحصل تماماً مع تجربة الشاعر هوشنك أوسي في "قلائد النار الضالة"، مع العلم أن الشاعر يمتلك الكثير من الخبرة الشعرية لإحداث المفارقة والنأي بعيداً عن استراتيجية "سليم بركات" في الكتابة، فالتجربة الشعرية ـ الروائية لبركات لم تعد حدثاً طارئاً بل حدثاً راسخاً لا تخطئها العين، لذلك فليس من السهولة بمكان مواجهة هذه التجربة إلا من موقع "الاختلاف" معها والتغاير عنها، وهذا مالم ينجح الشاعر هوشنك أوسي في تحقيقه؛ حيث ظلَّ شبحُ سليم بركات يخيّم بثقلٍ ليغدو صوت الشاعر في مجموعته ليس إلا صدًى لصوت الشاعر ــ الأب وتوقيعه.

تتيح لنا المجموعة مساحات كبيرة ولاسيما في النصوص الأولى للاستشهاد بها:"زيتونامه، الجبل كاف والغيمة نون، الأيل الناريُّ ومدن الثلج الشاهدة، مدوّنات الشيطان،...إلخ"، وحتى لا تمضي القراءة في التنظير يمكن إيراد بعض المقبوسات التي تكرر استراتيجية بركات تركيباً ومعجماً وصوراً:

" اللونُ الضريرُ، حاججَ ظلّكَ المعقوف على متاهاتِ الألقِ القدُّوس؛ صاككِ مواثيق الوجودِ مع العدمِ، ناكحِ المجهول بالمجهول ــ منازلاً اللونَ البصيرَ في قنصِ اللَّعنة، واقتناصِ الفتنةِ المتوارية في أضاليل الكلامِ وأباطليهِ الحاكمةِ بين جودةِ الخيالِ ورداءته..ص9"

"لاتغرق في الورد وحدك..

لأرفعنَّ خرائبي إلى أعالي نواحكَ الصَّائبِ، المخضلِّ ببكائي الأزرق.

لأجُرَّنَّ مجازري لحظوةِ فيئكَ المرصَّع بسمسم التين ونوى الزيتون والتمر، وبذورِ عباد الشمس.

لأعطفنَّ طيشكَ على طيشي...

(...)

لتتراشقنَّ بكَ الجهاتُ العمياءُ، .........

آفلٌ في سطوع الغيب الهودج، الذي ينازعُ الغيبَ الحقودَ على اقتسام حرائقي، مذ أطلقتَ في وشايات الوقت المداهم قناعاتِ الجرح، وعقائد الحزن. ص 14، 15"

ولستُ هنا في واردِ المقارنة مع نصوص سليم بركات التي باتت تضاريسها وشيفراتها واضحة للقارىء في العربية من حيث تفرُّدُها في الكتابة الشعرية التي تتخذ من "السرد" مسكناً لها، فضلاً عن الدفع بالعلامات اللغوية إلى مناطق من الدِّلالة غير مأهولة، بل وتندُّ عن عملية التأويل مالم تُربط هذه الكتابة الحوشية بسياقات متعددة، ولذلك ترى هذه القراءة أنَّ مواجهة شعرية بركات بقصد إعادتها لن تنتج سوى استنساخات مكررة لن تعكس "التجربة الشعرية الحقيقة للشاعر.

لكنَّ هذا لايعني كلَّ شيءٍ، فثمة انعطافة لابدَّ من الإشارة إليها؛ وهي أن الشَّاعر قد أدرك أن صوته بدأ يتلاشى تحت ضغوط المواجهة مع تجربة بركات، فكان لابدَّ من التحرُّك إلى تضاريس التجربة الشخصية؛ ليستعيد الصَّوتُ سمته ونبرته ولغته وهذا ما يمكن التمثيل له بنصوص قصيرة باذخة في جمالياتها تؤسس لـ " ألبوم إيروتيكي" و"متحف الأنثى" كما جرت الإشارة، وإذا تجاوزنا أصداء التمركز حول الفحولة في بنينة هذين العنوانين انطلاقاً من قراءة ثقافية، أقول إذا تجاوزنا ذلك؛ فإنَّ هذه النُّصوصُ تعكس "شعر التجربة " أو على الأقل صوت هوشنك أوسي في تقديم صوته الخاص، في هذه النُّصوص القصيرة يدرك القارىء أنه باتَ يتحرك صوب انعطافةٍ مختلفة نسبياً، يجد نفسه إزاء كثافات شعرية، هنا في "متحف الأنثى" تتعدد الأنثى إلى المرأة الضروس، النكبة، السماء، الزُّور، الجحيم، الصلاة، الصقيع، العاصفة، السكين، المرأة الخمر...إلخ وفي نص بعنوان: المرأة الحرب، نقرأ: "تحاول أن تكونَ امرأة، لكنها تدمّر الآخر،/ كلَّ مرةٍ تحاول فيه أن تكون امرأة. ص 14 "فأخلاقيات الحرب من القوة بمكان لتغيِّر هذا الكائن ــ الجميل، الشفيف؛ لتغدو المرأة عكسما هي في كينتونتها من حيث هي السرُّ والخمرة والسّراب!. وفي شذرة بعنوان: قصيدة المحارب الصّلصال من ألبوم إيروتيكي نقرأ: "كلما أوشكَ على إنهائها، يدرك بأنهُ لم يبدأ بكتابتها بعد. ص104" هذا هو شأنُ الكلمة الشعرية التي تفيض عن الحدِّ ــ الكتابة، لأنها لا تتقن سوى الاختلاف والإرجاء، القصيدة لا تنتهي؛ لأنها لا تبدأ. وإذا تبدأ لا تنتهي !



مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية