الوعي التاريخي الخالص الذي يملكه سليم، لن يكتشفه أحد سوى الذي يتعمق في أعماله كثيراً. أراد أن يُنتج روايته "السماء شاغرة فوق أورشليم" بأسلوبٍ ممتع مليئٌ بالجمال والإبداع الشعري. كانت نظرية هيغل أبو المثالية الألمانية في فلسفة التاريخ، أننا لن نتعلم من التاريخ شيئاً من أحد، ولن يفيدنا منها شيء في حل مشكلاتنا، لكن الجدوى من دراستها هي المتعة الجمالية بالإبداع الشعري الذي يلازم كتابة التاريخ الأصلي أو الحس الأخلاقي بخدمة القضية.

لنذهب بعيداً قليلاً ونتذكر اليوناني هيرودوت أبو التاريخ الذي طاف العالم وتغزل في مصر، فهو تكلم عن شيء يشبه نظرية هيغل بأن التاريخ يلامس أحاسيسنا الشعرية، ولن نتعلم منه شيئاً، في الحاضر. ولنتعمق أكثر مع اليونانيين، بما أن سليم عاش سبعة عشرة عاماً من عمره في تلك البلاد، ونتذكر اليوناني ثوقيديدز أبو التاريخ العلمي أيضا، الذي كان يكتب بشكلٍ غامض ومعقد، لأنه كان يجمع بين الإيجاز والدقة والعمق، والذي كان يستهدف تسلية القارئ المتعلم. وإذا أردنا أن نجمع بين هؤلاء الثلاثة ونضعهم في وصف سريع، نجد أن هيغل يطرح الشيء وينقضه ثم يقوم التوليف بينهما. وهيرودوت ينتقل من مكان إلى مكان، ومن عصر إلى عصر. أما ثوقيديدز يضغط أفكاره في إطار جامد من الفصول والسنين. والفرق بينهم أن هيرودوت كان يكتب عن الأشخاص أكثر مما يكتبه عن الحوادث، لأنه بقناعته أن الأشخاص هي التي تحيك الحوادث؛ أما ثوقيديدز كان يذكر الأحداث ويركز عليها أكثر من الأشخاص، وكان يقتنع بأن الأفراد الغير عاديين هم خطر على التاريخ، لهذا لم يكن يتعمق بالأشخاص على عكس هيرودوت.

يقدم سليم أعماله بلغة غير عادية، فيها من البلاغة عمق كبير، يحدث الفرق بين الكلمة والأخرى، يحيك في أعماله أساليب تصعب على القارئ البسيط أن يفككها. أراد أن يجمع أفكاره في التاريخ ويطرحها في روايته "السماء شاغرة فوق أورشليم" بصورةٍ شعرية مثل نظرية هيرودوت، وأن يمتعنا في الحديث عن حروب الناصر صلاح الدين بصورة جمالية مثل التي تكلم عنها هيغل، وأن يكون غامضاً ومعقداً في رموزه، لأنه أراد أن يوجز في أفكاره وأن تكون دقيقة وعميقة مثل فلسفة ثوقيديدز.

في رواية «السماء شاغرة فوق أورشليم» يقدم لنا سليم صورة شعرية وفلسفية وروائية ونحوية عالية المستوى، كما لو أنه جمع كل أفكاره ومفرداته التي تعلمها في حياته وطرحها في هذا العمل، إذ أنه لم يكتفِ بخلق صورة داخل صورة، ولم يكتفِ بخلق شخصية داخل أخرى، بل منحها روح التاريخ بطريقةٍ ذكية جداً استطاع فيها أن يصل إلى العمق بطريقةٍ احترافية تخطت جميع الأعمال التي قرأتها في التاريخ، وبالأخص عن صلاح الدين الأيوبي.

هو كذلك، لا يريد أن يسير في طريق يشبه فيه أحداً، يسير في طريقه منفرداً في عالمه الخاص، مُخلفاً وراءه سرباً من الأعمال القادرة على إنشاء هرم كامل من المفردات التي لم يقتنصها أحدٌ مثله.

لم يعرف التاريخ عازف كمان بسرعة أصابع نيكول باغانيني في العزف والدقة والأناقة. ولن يعرف التاريخ كاتباً مثل سليم في أناقة أعماله ودقتها وقوة لغتها.

في هذه الرواية، يمزج سليم عنصرين أساسيين، في حروب صلاح الدين وفي شخصية توران معاً، التي تقود الرواية؛ العنصران يعكسان التفاني في الإرادة، والدقة في العمل والتصميم، لم يفصل أحدهما عن الآخر.

تفاني الناصر صلاح الدين في إرادته وعزيمته وقوته للحروب التي كان يشنها، ودقته وتصميمه في الخطط الحربية التي كان يشنها. لم يشتهر صلاح الدين في الدول الإسلامية فقط، بل حصل على إعجاب الغرب أيضاً، لنبالته وشهامته، ويوضح سليم ذلك في الرواية أن جنوداً في جيشه على استعداد اقتحام خيمته مقابل رؤيته فقط. نمت شهرته في الغرب من قيادته للجيوش الإسلامية التي عارضت ريتشارد الأول ملك إنكلترا خلال الحملة الصليبية الثالثة. بدلاً من أن يصبح شخصية مكروهة في أوروبا حينها، كان صلاح الدين موضع إعجاب، ما أدى في النهاية إلى كسب احترام ريتشارد الأول والعديد من الصليبين، بعد أن منح عفواً للجيش الصليبي ومسيحي القدس عندما استعاد المدينة عام 1187 م مقابل فدية صغيرة. يوضح سليم تلك النقاط التي ذُكرت في التاريخ عن صلاح الدين في روايته، بأسلوبٍ متقن وأنيق، يلامس الأشياء بأدق تفاصيلها بصورةٍ فلسفية تليق بها، يدخل الرموز والإسقاطات بطريقةٍ ذكية جداً، يصنع النقاشات في الأماكن التي تناسب الرواية، أسرف كثيراً في دقة بناء الرواية، ما منحها طابعاً مميزاً بين أعماله، تليق بسليم وتليق بصلاح الدين الأيوبي وتوران موسى شير والأدب والتاريخ.

قرأت أعمال عدة لسليم، لكن لروايته هذه طابع خاص في أعماله، تتميز بنكهة خاصة كباقي أعماله، وما يفرض علي وضع رواية "السماء شاغرة فوق أورشليم" في قائمة أفضل الأعمال التي قرأتها لسليم هي الدقة والتشويق وإسراف سليم بذكر المدن والشخصيات والأسلحة والعتاد والأشكال والألوان والأحجام؛ فهو لم ينسَ شيئاً، كما لو إنه كان حاضراً في ذاك الزمان كما أسلفت. إنها رواية لوعة الجنود في خوض المعارك مع الناصر، لوعة الأماكن في صورتها الحقيقية، لوعة الشخصيات في اللحاق بمهامهم وتفاصيل حياتهم، لوعة الآباء وشوقهم تجاه الأبناء، لوعة الانتصار الممزوجة بروحٍ عالية؛ رغم كثرة الشخصيات والأماكن في الرواية، لكن تمكن سليم من رسمها في مخيلتي بطريقةٍ مُحكّمة وأنيقة، لدرجةٍ كنتُ اعتقد أنني سأذهب إلى الخارج وأرى أمامي الخيم والجنود.

بدون الحل والفك لن نستطيع تركيب الصورة التي يرغب الإشارة إليها الكاتب، علينا في البداية ملاحقة الفك والحل، لنعود ونركب ما يقصده الكاتب. ومفتاح الحل والفك هو أن يكون العمل مترابطاً أمام الذهن، والرواية مترابطة ومُحكّمة بشكلٍ أنيق ومتين، ما يعطينا الطريق لتركيب الصور التي يرغب الدلالة عليها سليم. لا أقول هنا أن الرواية سهلة، هي عُصارة من أفكار سليم الجنونية التي تضع القارئ في خاناتٍ يسرد فيها مع الأفكار؛ توصله إلى أماكن أبعد مما يتخيل، أحكمَ في بناء الرواية وتأليفها ما أعطاها صورةٍ تشبه القلاع، صعبة الاختراق ومحصنة بشكلٍ متين، ومبنية بشكلٍ يناسب اسمها، لكن يهنئ من يدخل دهاليزها ويعيش فيها.


السماء شاغرة فوق أورشليم رواية تعود لحقبة زمنية معروفة عند الجميع، منح سليم لقائمة أعماله عمل يعود لتلك الحقبة في حروب صلاح الدين، وينهي الرواية بحصار عكا وسقوطها.

يبدأ الرواية بتوران ورجال عُشاريته كما أشرتُ سابقاً، ويسير مع توران جنباً إلى جنب مع حروب صلاح الدين، حروبٌ هناك وحروبٌ مع توران؛ معارك هناك ومعارك مع توران؛ خسارة هناك وخسارة مع توران؛ فوزٌ هناك، وفوزٌ مع توران؛ إلى نهاية الرواية وحصار عكا يُحاصر توران نفسه بالحروب مع عقاب حتى سقوط عكا، ويقوم توران بقطع أصابع يده اليسرى، بعد أن صفح عنه سور ميزون وعقاب ويونس صاحب جواد إيزابيلا، لكن لم يقبل صفح الأخير عنه بأنه تركه هو وأبنه وأراد أن يمضي، فقام توران بوضع يده على حافة العربة بجانب يونس صاحب الجواد وقطع أصابعه، ليلّفها بمنديل ويعطيه إياها، جزاء لم فعل معه بغض النظر عن الأسباب، لكن توران لم يتوقع من صاحب الجواد أن يتركه هو وأبنه ويعفي عنهما بعد أن فقد كلتا يديه وجواده بسيف توران في الجزء الأول.

أن المشروع الفلسفي التاريخي الذي أطلقه سليم في روايته هذه تفتح أمامنا جملة من التساؤلات، ومن أبرزها، من هو سليم، كيف له القدرة أن يحيك رواية بهذا الحجم فيها دقة ومتانة من جميع الجوانب؟

هو ليس بشيءٍ غريب عليه، بقدر ما هو عميق، كلما اقتربت من فكرة أجد أن المساحة أًصبحت أكبر، وكلما اقتربت من احتضان المساحة، وجدتُ نفسي أبتعد عن الفكرة، وبين هذه وتلك تنقلت بين صفحاتها إلى أن استطعت أن أضع يدي عليها بشكلٍ كامل.

لنعود إلى تفاصيل الرواية والنقاط التي جمعتها في هذه القراءة.

 

الهَرَمُ قريباً من طبريَّة

هو عنوان الفصل الأول من الجزء الثاني، عنوانٌ يتسلقُ الندم على قمة رأس الباب غريغوري الثامن مُلْهم الحملة الصليبية الثالثة على فقدانهم أورشليم؛ ندم زُهراب وأخوته وعمته على الانتظار طويلاً لقدوم توران ولم يرسلوا احداً للاطمئنان عليه؛ ندم مراد صديق توران بطلبه للزواج من ابنة شريكه، ظناً منه انه سيحصل عليها مقابل مهر، لكن شريكه يقحمه بطلب يقسم قلب مراد إلى نصفين، نصفٌ من الندم على طلبه لانه طلب منه أن يبادله بأبنته زوجةً له، ونصفٌ آخر من الندم على مثانته التي داسها حوافر فرسٍ فرنجي في آخر معركة له قبل ان يصبح معفياً من الخدمة. هو فصل البحث عن توران موسى شير العسكري الهارب كما أراد سليم أن يطلق عليه في التعريف عنه في بداية الجزء الثاني، على عكس ما أطلق عليه في الجزء الأول ( مُعْتَمَدُ عُشاريَّة في السرية )، هاربٌ من قصاصٍ لا ذنب له، في عملياتٍ لنقل المؤنة من مستودعات الجنود ظن انه يقوم بعملٍ عظيم يفتخر به أمام أولاده واصدقائه في جعبر؛ توران القبطان الذي يقود الرواية من بدايتها إلى نهايتها، بعد مرور عامين عن انقطاع أخباره عن اهله تقرر اخته بارسال رسالة إلى صديقه مراد بان يرافق زهراب في البحث عن توران. يذهب توران وزهراب للبحث عنه، وحين يصلون إلى الهرم في السرية، لا يجدون شيء غير الهرم المتآكل الحواف بأسنان المطر، فيقررون بالتوجه إلى طبرية للبحث عنه.

 

أنفاسُ صُوْر عنوان الفصل الثاني

أختار سليم أسلوب الخطف خلفاً في هذا الفصل، قبل ان يروي ماذا حصل مع توران بعد رحيله، وضعه في مكان المعسكر أثناء خدمته مع طغرل، وكيف ترك المزرعة التي يشاركها مع سيدة من صور بنية العودة إلى عقاب وتسليم نفسه لينال القصاص العادل. وبينما يتواجد في داك المكان يروي سليم ما جرى مع توران منذ هروبه من القصاص الذي كان يناله إلى أن أصبح شريكاً في مزرعة خيول في مدينة صور . يحيك سليم في هذا الفصل دور الشخصيات الجديدة التي تدخل حياة توران، وعن كيفية لقاءه بشريكته في المزرعة السيدة خاتون بيغوما.

هو فصل توران العسكري الهارب في تفاصيل حياته الجديدة في صور، يذيل سليم الفصل بالحديث عن حربٍ يشنها صلاح الدين في جنوب كيليكا بعد ان يدمر كل الجسور ويحرق البيوت والمزارع والاسواق ، ويرسل رسالة بعدها إلى بربروس ملك الجرمان، يجيب على رسالته التي أرسلها لصلاح الدين قبل الحرب، يقول فيها ان أورشليم لهم ويتوعد له بإعادتها. ويكتب صلاح الدين في الرسالة التالي:

إلى السكّير بربروس،

ابن الجهة الجليد في الشمال منفياً قصاصاً من الله كَنَفيِ اللهِ الشيطانَ؛ أما بعد:

رأيت بين سطورك خنازير في زرائب.

ورأيتك تجمع روثها. اسمعني:

بينك وبين ملكك في أوربا بحارٌ كالسكاكين قطَّعتْكم على جهات المياه. أما مِلَلُ أُمَّتي فأرضُها موصولة. تلزمك سنواتٌ عشرٌ صراخاً لتجمعَ أنفاراً. وأنا لا يلزمني إلَّا صهيل جوادٍ واحد لأجمع عَشرةَ فيالق. ص ١٧٩ و ١٨٠

للرسالة بقية، لكن اختصرت منها لضيق المساحة هنا.

نعود لتوران العسكري الهارب، بعد ان اصبح شريكاً في مزرعة الخيول، وتعرف فيها على البشر والحجر والشجر في مدينة صور خلال عامين يعض بنواجذ خياله على شوقه لأولاده في جعبر، مستسيغاً فيها طعم المرارة بعد سنتين من الفراق. يقرر بعدها العودة إلى المعسكر شرق البحيرة ليسلم نفسه إلى عقاب لينال القصاص الذي يستحق، ليجد المعسكر مهجوراً لا شيء فيه سوى رائحة ابنه زهراب، يحصل صراع بينه وبين خياله عما إذا كان يشتم رائحته حين كان يعمل في المطبخ، او ان كان زهراب بالفعل مر من هنا منذ فترة قصيرة. وفي الحقيقة قلب توران الأب لم يخطئ، فزهراب كان هناك في المعسكر قبل أيام قليلة يبحث فيها عن والده مع صديقه مراد..

 

التّنينُ تائهاً في كيليكيا

هو عنوان الفصل الثالث، فصل بداية بحث الملثم صاحب جواد إيزابيلا والذي يمنحه سليم اسماً في هذا الجزء "يونس الدمارداش"، للبحث عن توران مع ابن عمه ورفاقٍ له، للانتقام منه من خلال خطةٍ وضعها مسبقاً في بداية رحلة الانتقام. يعيده سليم إلى الهرم الذي تم فيه قطع رؤوس السبعة جنود في معسكر طغرل على يد عقاب. ويروي فيه عن رحلة يونس خلال عامين بعد قطه يديه، والأحداث التي حصلت معه.

ويروي فيه عن كيفية نية فردريك الأول بربروس ملك السلاجقة خوض معركة مع صلاح الدين، لكن القدر يقف في طريقه حين كان يسير مع جيشه المؤلف من مائة ألف فارس على ضفة من نهر كالِيْكادوس، ويشبَّ الفرس فجأةً دون سبب على قائمتيه الخلفيتين، لينزلق إلى المياه، ويغرق الملك فيه رغم ضحالة المياه، ولم يستطع أحد إنقاذه. يقرر السلاجقة العودة إلى أدراجهم، فيهاجموا الجرمانَ في طريقهم، ويقتلوا منهم الآلاف. يروي بعدها كيف يتشتت المائة الف جندي من السلاجقة، بعد من مات منهم في المعركة، تشتتوا في الأرياف، ومنهم خمسة آلاف توجه إلى مدينة صور عبر البحر، وأرض البلغار والرومانيين والمجريين، لتختلط عليهم الجهات، ويضيعوا في أصقاع الارض.

ويروي سليم كيف يقوم توران مع العديلين ميمو وماريو شريكيه في رحلة إلى مدينة ماغُوْسا - أعتقد هي مدينة قبرصية واسمها حالياً فاماغوستا- ليقوموا بعمليات بيع وشراء الجياد . وكيف يلتقي بالملاح الإغريقي آداموس أخيلياذيس، الذي يجمعهم أمسيات يتناولون فيها أحاديث جانبية ويحاول آداموس أن يسقي الخمر لتوران حينها.

بعد ان ينام الجميع، يقف توران على حافة المركب ويتكلم مع البحر عن حنينه إلى أولاده، وأحداث أخرى حصلت معه في صور.

ويسرد سليم في هذا الفصل عن كيفية دخول توران مدينة صوران والبعض من تفاصيل رحلته إليها ، وعن كيفية رحلته في المركب لأول مرة في حياته، ويضم أحاديث جانبية تجري بينه وبين ميمو وماريو شريكيه في طريقه الى صور مع قبطان المركب.

 

إلى عجلون

الفصل الرابع في الرواية. يبدأ الفصل هذا بمبارزات تجري بين جنود الفرنجة في حلبة، يشارك فيها توران، ويصاب في المبارزة الثانية، بعد فوزه في الجولة الأولى، بضربة سيف على يد جنديٍ مسلم، بعد ان خدعه بإلقاء حفنة من التراب على وجهه، ويغوص سيفه أنملةً في وِرْكِ توران اليسرى. وتنتهي المبارزة بفوز توران.

ليفوز هو وكل من راهن عليه من ضمنهم الأمير الجرماني في صُوْر ألْدِرِيْكهْ.

يصل كرياكوس بصحبة أبنه إلى مزرعة توران مطلع الصيف، ليكشف له توران عن نيته في العودة إلى المعسكر شرق طبرية، لينال القصاص الذي يستحق، ليتفاجئ كرياكوس بفكرة توران ويقول له: (تريد انتحاراً، يا توران) ص ٢٧٤.

ومع قدوم شهر حزيران يذهب توران إلى المعسكر ويخاب امله لان المكان مهجور. وبعد عودته من هناك بيومين يروي لكرياكوس واولاده عن اشتياقه لاولاده، وفي نفس الوقت يكون زهراب ابنه ومراد صديقه بالقرب من عجلون بعد زيارتهم المعسكر بحثاً عن توران.

ينتهي بحثهم سوياً حين يلتقون بكوتين وكيل البريد، أثناء زيارتهم لأمين خزائن السلاح في قلعة عجلون سور ميزون، حين يخبرهم سور ان سرية طغرل التي استلمها عقاب غادرت إلى بحر لوط. يقوم كوتين بعرض عملاً على زهراب كساعي للبريد كما كان يعمل معه سابقاً، ويقبل زهراب العرض ويطلب من مراد العودة إلى جعبر ليخبر زوجته وإخوته موضحاً إنه سيقوم بالبحث عن أبيه أثناء عمله، بعد ان وعده كوتين بارساله في مهمة إلى بحر لوط، لربما يعود بخبرٍ عن أبيه ويجني المال في نفس الوقت. يبوح توران لثيوس كبير العمال في المزرعة عن حبه لابنة مينار العاملة اسمها أنتالي، ويخبره عن خوفه من الامر لانها نصرانية وصغيرة، يعرض ثيوس على توران ان يتكلم مع والدتها عن ذلك، لكنه يرفض ويقول: (أن يبقى قلبي خائفاً أفضل لي من دفعه إلى الخذلان) ص ٢٨٥.

يروي سليم بعدها عن طريقة صناعة سرير لسفن ملك الإنغلاند ريتشارد الأول، كيف يبقى السرير محافظاً على ثباتها رغم تلاطم الأمواج، لفت انتباهي هذا المقطع كثيراً، كيف دخل سليم بطرح الفكرة من خلال الحديث عن توران وهو ممدد في السرير يعاني من هلع فكرة أن يبقى من غير أنثى بقية حياته، وكيف تلاطم خياله مثل تلاطم الموج في البحر حين كان عائداً من مدينة ماغوسا في تجارته لشراء الجياد المالطية، وفي تلك الأثناء بدء السرير في الاهتزاز، وحالة توران وهو يفكر في الزواج وهو ممدد على السرير تشبه تلك الحالة في البحر، لكن أمواج خياله تتلاطم، ليدخل سليم مباشرةً في طريقة صنع سريرٍ يحافظ على ثباته في البحر، على يد نجار من نسل أمم الشمال الغزاة للملك ريتشارد، وحاول الكثير من بقية الملوك معرفة سر السرير، بارسال جواسيس إلى سفن الملك ريتشارد، وطرقٍ أخرى، لكن دون فائدة، ليرسل الملك ريتشارد رسالة إلى جميع الملوك يقول فيها: (لن أذهب إلى حصار أورشليم، بل سأحاصر مخادعَ زوجاتكم، وحظاياكم. سآخذهن من مخادعهن إلى الأسرَّة في سُفني، وسأذيقهنَّ عليها شيئاً لم يتذوَّقه منكم) ص ٢٨٧.

يروي سليم عن طريقة تبادل الأعشاب العطرية بين الملوك الفرنجية، في صقلية، ويدخل في أحداث حصلت في تلك المدينة عن وضع علامات على صخور وضعها المقاتلين الذين مروا فيها.

يتوجه ملك الفِرَنس فيليب إلى مدينة صور، يقابل توران وبعضٌ من عماله في المزرعة موكبه مع حاكم صور دي مونفرات...

 

الخيبة من بحر لُوْط

الفصل الخامس.

يرافق دخول الملك فيليب إلى صور، ظهور يونس دامرداش المقطوع اليدين بسيف توران في عجلون، وقاتل فرسه إيزابيلا. يروي سليم عن المدن والأشهر التي قطعها يونس في البحث عن توران للانتقام، وبعض التجارات التي قام بها في طريق بحثه.

وعن الطرق التي يفكر فيها يونس بالانتقام، من قطع اليدين وبتر القضيب وأساليب أخرى تخطر في خياله ليشفي غليله من توران.

يلجأ يونس بعدها إلى سور ميزون في قلعة عجلون، أمين خزائن السلاح للسؤال عن توران، وبخدعة من يونس يستطيع اكتشاف أن زهراب ابن توران يعمل كساعي بريد في معسكرات بحر لوط، وهو أيضا يبحث عن أبيه.

بعد عدة مهمات لزهراب في عمله يذهب إلى عجلون ليطلب من كوتين وسور ميزون إجازة يتوجه فيها إلى عكا للبحث عن أبيه، بعد أن سمع ان سرية عقاب التي يخدم فيها توران كما يظن هي هناك، ليبلغه سور ميزون عن شخصين جاءوا للسؤال عن والده منذ أيام، أحدهم مقطوع اليدين، يحصل زهراب على الإذن بالسفر إلى عكا، وفي طريقه يلتقي بتسعة أشخاص من بينهم شخص مقطوع اليدين وملامحه كما وصفه سور ميزون لزهراب، يقترب منهم زهراب ويسألهم ان كانوا يعرفون توران، ويقول لهم إنه يبحث عنه وهو والده، ويطلب من يونس مرافقتهم إلى عكا لأنه قال بأنهم ذاهبين إلى هناك للبحث عنه. يخبر يونس أبن عمه عن نيته في الانتقام من توران من خلال أبنه.

يدخل سليم بعدها إلى محادثاتٍ تجري بين توران وبايور عن النساء والزواج والعاملات في الاسطبل؛ ويختتم الفصل بمحادثات بين كرياكوس وميمو وماريو بعد زيارتهم لمزرعة توران، مع عماله في المزرعة، يتكلمون فيها عن دخول الملك ريتشارد أرض كيبرس، وأورشليم..

 

عكا - Ptolemais

الفصل السادس والأخير من الجزء الثاني.

هو فصل النهاية، وفصل العودة لكي يصفّي توران حسابه مع القصاص الذي يلاحقه منذُ دخوله صور إلى ذاك اليوم، يتأرجح في خياله عن الطريقة التي سيتكلم فيها مع عقاب لكي يغفر له ذنبٍ لم يكن سببه، ام سيعطيه مالاً لخزينة بيت المسلمين كفديةٍ يفدي بها دمه؟

يغادر المزرعة باكراً بعد محادثاتٍ تجري بينه وبين عماله وخاتون عن سبب رحلته، يخبرهم عن نيته في اصطحاب أولاده معه، وتجري محاورة بينه وبين مينار عن أبنتها، بعد أن تعلم من ثيوس كبير العمال أن في رغبة توران الزواج من أنتالي أبنتها؛ تحرج توران وتفاجأه حين تقول له بعد أن تعود فاتحها بالأمر يا توران، يرفض الفكرة توران لأنها صغيرة من عمر بناته ونصرانية، تتقاطع فيها فكرة الزواج عند مفترق العمر والديانة. ينوي توران في الذهاب إلى جعبر بعد ان يزور أمين خزائن السلاح، لكي يزيل عن نفسه تهمةٍ لا ذنب له فيه. يدخل إلى أسواق عجلون.

يلتقي بسور ميزون أمين الخزائن في القلعة، ويطلب منه القصاص الذي يستحق، يخبره سور بأن الأمر انطوى وأصبح من الماضي، يرتعش قلب توران فرحاً، خاصةً أن سور لم يخبر زهراب بقصة السرقة التي أُتهِمَ فيها والده، بعد أن أخبره عن عمل زهراب في البريد معهم، ولا احد يذكر الحادثة تلك، لكن الفرحة لم تدم طويلاً بعد أخبره سور عن زيارة شخصين له يسألان عن توران أحدهم مقطوع اليدين من الرسغين، حينها ينتفض قلب توران ذعراً بعد أن يتأكد من الأوصاف ، وأن سور أخبر زهراب عنهم ولحق بهم لعله يلتقي بهم ويرافقهم إلى سرية عقاب. يتجه توران لحظتها بسرعة إلى سرية عقاب، في عكا، قبل أن يحصل مكروهٌ لابنه، يلتقي توران بعقاب آمر السرية بعد وصوله، ويطلب منه القصاص العادل، لكن عقاب يخبره بان القصة أصبحت من الماضي ولم يعد أحد يذكرها. يرافق وصول توران إلى عكا بداية حروب الفرنجة وحصار عكا، ليطلب عقاب من توران مشاركته في الحرب بعد أن فقد عدداً من الجنود، يلبي توران الأمر، ويشارك في معركة مع عقاب يُقتل فيها حصانه.

لم يعد إلى المعسكر من الفرقة إلا نصفها، ولم يعد أي جواد من تلك المعركة، يحزن توران كثيراً لتلك الحادثة وخاصةً فقدَ فيها حصانه، ويقول في خياله لكرياكوس يرثي جواده::

("ياشريكي"، تمتم لوعةً بلسان السنين حادثَ به جوادَه الأسود، النحيل مثله. اغرورقت عيناه. "لم أودّعك. لم يتسنَّ لي النظرُ إليك. ماذا كنتُ سأرى في عينيك، يا شريكي؟ ماذا تقول لي الآن، من موضعك هناك بين الفرنجة؟ أأجهزوا عليك شفقةً، أم تركوكَ لعجزك يُجْهزُ عليك؟ أنا أصغي. قُلْ شيئاً) ص ٣٨٣

يتخلل طريق عودة توران من صوران ووصوله إلى عجلون وعكا طيف صديقه كرياكوس وتنشأ بينهم محادثاتٍ.

يسأل توران عقاب ان كان قد التقى بصلاح الدين، فيقول لا، ويجيبه توران بالمثل بعد أن أخبره انه شارك معه في معركة حطين، ليتفق الاثنين بالاقتراب من خيمته، يركبون جيادهم ويذهبون باتجاه خيمة الناصر، يسال توران عقاب عن وجود خيمة أخرى كبيرة بالقرب من خيمة صلاح الدين ، يخبره عقاب بأنها خيمة طبيبه الخاص موفق الدين بن جرجس المطران، ليدخل سليم حينها في التحدث عن الأطباء الذين كانوا يعتنون بصلاح الدين، وكيف قام الطبيب عفيف بن سُكَّرة بإنشاء كتاب "القولنج" للناصر.

يدخل سليم بعدها بنقاشٍ يدور بين عقاب وتوران عن فكرةٍ تراود عقاب باقتحام خيمة صلاح الدين ليروه. في اليوم التالي يدخل سليم في الحديث عن حرب عكا وحصارها، و اصل تسمية المدينة، اذ يقول في الصفحة ٤٠٠

)لمسَ الحجرَ الأصفر، الخسن، براحة يده يتحسَّس معنى الأسم الأول لعكا سكَّه هِرَقل بخيال الدواءِ آكي Ake أي: "الشفاء".

الإمبراطور جوزيفوس سكَّ اسمها مخالِفاً في بعض حروفه: إكري Ekre، ثم استقرَّت الحروف زمناً، بعد فتوح الإسكندر، على رسم أنتوكي بتوليماي Antociptolemy. ثم نَحَا الإمبراطور بتوليمي سوتير Ptolemy Soter إلى قضم نصفها، بعد تقسيم مملكة الإسكندر، فأبقى على بتوليمايس لا غير. همس ريتشارد الإسمَ من نَفَس حروفه الباقية. زفرت عكا زفيرَها البحريَّ..

بسقوط عكا ينهي سليم الرواية. يدخل في حبكة النهاية بنقاشٍ يدور بين توران وعقاب، يقطع النقاش عسكري حين يقول لعقاب هناك غريبان يسألان عنك، يذهب عقاب مع العسكري ليلتقي بالغريبان، ليعود بعدها بلحظات ويخبره توران ان الغريبان هم أصدقاء لابنه زهراب، قالوا لعقاب ذلك وان زهراب جريح، يركض توران ليلتقي بهم، ويصطحبونه معه إلى المكان الذي يوجد فيه أبنه على حد قولهم، الغريبان هم من طرف يونس صاحب جواد إيزابيلا، يتفاجئ توران حين يجد يونس وزهراب وبعض الرجال معهم، خنجرٌ موضوع في عنق زهراب للذبح، يدور نقاش طويل بين يونس وتوران، وفي النهاية يغفر يونس لتوران ولا ينتقم، بعد أن حاول إخافته ، لكن توران لم يقبل بالعفو، ولحق به حين ركب يونس العربة ووضع يده على العربة ليقطع أصابع يده اليسرى امام الجميع، ويلف الاصابع المقطوعة بالمنديل ويضعها بجانب يونس، يمضي يونس مع اصدقاءه ويطلب توران من زهراب العودة إلى جعبر ليرى حفيدتيه.


يحقق سليم مستوى عالي من الدقة في الوصف عن الحروب التي كانت تحصل في ذاك الزمان، مدركاً بشكلٍ جيد الفجوة التي من الممكن أن يقع فيها المؤرخ، لهذا أستطاع أن يُحكِم سد الفجوة بالوعي التاريخي الذي يمتلكه، والوعي الفلسفي الذي طرحه.

من الأمور التي لاحظتها، تشديد سليم على وصف المكان والأشخاص والأحداث والأدوات والأسلحة، واندفاعه في رسمها بالكلمات بطريقةٍ متقنة وأنيقة، مناقضاً فيها نظرية أبن المُزارع أبو الميكانيك هنري فورد حين قال ( أن التاريخ غير مفهوم ). ومناقضاً فيها أقوال بعض المؤرخين الذين يقولون من الصعب الاعتماد على نظرية واحدة لتفسير التاريخ. فسر سليم الحقبة الزمنية تلك بطريقةٍ ذكية جعل منها مرجعاً مهماً لتلك الحقبة، يضع فيها النقاط على الحروف بلغة صحيحة عن حروب الناصر، كي لا تظل عبئاً على البشر ويستمر الصراع عن كيفية وأصل تلك الحروب. أدرجها للمعرفة التاريخية تحت راية الثقة، كي تحصل على ما تستحق.

الشرط الضروري لمعرفة أي شيءٍ معرفةً حقيقية هو أن يكون العارف قد صنعه بنفسه ويكون لديه اليقين بهذا المعنى لا بالمعنى الذي أطلقه أبو الفلسفة الحديثة ديكارت حين قال : اخلقوا الحقيقة التي تريدون معرفتها. أما انا فسوف أقوم أثناء التعرُّف على الحقيقة بصنعها بطريقةٍ لا تدع مجالاً للشك فيها ما دمت أنا الذي أنتجتُها بنفسي. إذ ان سليم وقف موقفٍ مختلف عن فلسفة ديكارت، لأنه مُدركٌ تماماً أن التاريخ يتألف من أعمالٍ تصلح أن تكون موضوعاً للمعرفة البشرية، ووضعها بصورةٍ شعرية وجمالية مثل نظرية هيغل. ومن خلال هذا العمل الذي بناه على أسس التنظيمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والفنون والقانون ..إلخ تظهر للقارئ كل المظاهر التي كانت تحصل في ذاك الزمان. مطابقاً فيها نظرية أبو المؤرخين المشهورين البريطانيين أرنولد توينبي الذي أثبت أن التشاؤم من أن التاريخ هو تدفق فوضوي وغير منظم ومصادفة، حيث لا يوجد نمط أو إيقاع من أي نوع يمكن تمييزه، غير صحيح، فقد أثبت أنه عند النظر إلى التاريخ بشكلٍ مناسب، يمكن اعتبارها مقبولة من الناحية العقلانية والأخلاقية. ورواية "السماء شاغرة فوق أورشليم" مقبولة بامتياز من جميع النواحي عن الحقبة الزمنية لحروب الناصر صلاح الدين الأيوبي.


 

مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

الاشتراك في نشرتنا البريدية